التفاسير

< >
عرض

وَقَالَ ٱلَّذِي ٱشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَىٰ أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذٰلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي ٱلأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ ٱلأَحَادِيثِ وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰ أَمْرِهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢١
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذٰلِكَ نَجْزِي ٱلْمُحْسِنِينَ
٢٢
وَرَاوَدَتْهُ ٱلَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ ٱلأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ ٱللَّهِ إِنَّهُ رَبِّيۤ أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ ٱلظَّالِمُونَ
٢٣
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلاۤ أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ٱلسُّوۤءَ وَٱلْفَحْشَآءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ٱلْمُخْلَصِينَ
٢٤
وَٱسْتَبَقَا ٱلْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى ٱلْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوۤءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٢٥
قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ
٢٦
وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ
٢٧
فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ
٢٨
يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَـٰذَا وَٱسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ ٱلْخَاطِئِينَ
٢٩
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي ٱلْمَدِينَةِ ٱمْرَأَةُ ٱلْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٣٠
فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ ٱخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَـٰذَا بَشَراً إِنْ هَـٰذَآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ
٣١
قَالَتْ فَذٰلِكُنَّ ٱلَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَٱسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن ٱلصَّاغِرِينَ
٣٢
قَالَ رَبِّ ٱلسِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِيۤ إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ ٱلْجَاهِلِينَ
٣٣
فَٱسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلْعَلِيمُ
٣٤
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ ٱلآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّىٰ حِينٍ
٣٥
-يوسف

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { هيت لك } بضم التاء وفتح الهاء: ابن كثير { هيت } بكسر الهاء وفتح التاء: أبو جعفر ونافع وابن ذكوان والرازي عن هشام مثله ولكن بالهمز، الحلواني عن هشام مثل هذا لكن بضم التاء، النجاري عن هشام. والباقون { هيت لك } بفتحتين. وسكون الياء { المخلصين } بفتح اللام حيث كان: أبو جعفر ونافع وعاصم وحمزة وعلي وخلف { ربي أحسن } بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو وابن كثير { من قبل } و { من دبر } بالاختلاس: عباس { قد شغفها } مدغماً: أبو عمرو وعلي وحمزة وخلف وهشام { وقالت اخرج } بكسر التاء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وحمزة وعاصم. الآخرون بالضم للإتباع. { حاشا لله } وما بعده في الحالين بالألف: أبو عمرو { ربي السجن } بفتح السين على أنه مصدر: يعقوب. الباقون. بالكسر.
الوقوف: { ولداً } ط { في الأرض } ز بناء على أن الواو مقحمة واللام متعلقة بـ { مكنا } أو هي عطف على محذوف قبله ليتمكن ولنعلمه، والأظهر أنها تتعلق بمحذوف بعده أي ولنعلمه من تأويل الأحاديث كان ذلك التمكن { الأحاديث } ط { لا يعلمون } ه { وعلماً } ط { المحسنين } ه { هيت لك } ط { الظالمون } ه { همت به } ز قد قيل بناء على أن قوله { وهم } جواب "لولا" وليس بصحيح لأن جواب "لولا" لا يتقدم عليه وإنما جوابه محذوف وهو لحقق ما هم به كذا. قال السجاوندي: وأقول لو وقف للفرق بين الهمين لم يبعد { وهم بها } ج { برهان ربه } ط { والفحشاء } ط { المخلصين } ه { لدى الباب } ه { أليم } ه { عن نفسي } لم يذكر الأئمة عليه وقفاً ولعل الوقف عليه حسن كيلا يظن عطف { وشهد } على { راودتني } أو على جملة { هي راودتني }. { من أهلها } ج على تقدير وقال إن كان { من الكاذبين } ه { الصادقين } ه { من كيدكن } ط { عظيم } ه { عن هذا } سكتة للعدول عن مخاطب إلى مخاطب { لذنبك } ج لاحتمال التعليل { الخاطئين } ه { عن نفسه } ج لأن "قد" لتحسين الابتداء مع اتحاد القائل { حباً } ط { مبين } ه { عليهن } ج { بشراً } ط { كريم } ه { فيه } ط { فاستعصم } ط لاحتمال القسم { الصاغرين } ه { إليه } ج للشرط مع الواو { الجاهلين } ه { كيدهن } ط { العليم } ه { حين } ه.
التفسير: قد ثبت في الأخبار أن الذي اشتراه إما من الإخوة أو من الواردين ذهب به إلى مصر وباعه فاشرتاه العزيز - واسمع قطفير أو أطفير - ولم يكن ملكاً ولكنه كان يلي خزائن مصر، والملك يومئذ الريان بن الوليد رجل من العماليق وقد آمن بيوسف ومات في حياة يوسف فملك بعده قابوس بن مصعب ولم يؤمن بيوسف. روي أن العزيز اشتراه ابن سبع عشرة سنة وأقام في منزله ثلاث عشرة واستوزره بعد ذلك ريان بن الوليد ثم آتاه الله الحكمة والعلم ابن ثلاث وثلاثين وتوفي وهو ابن مائة وعشرين سنة. وقيل: كان الملك في أيامه فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة دليله قوله:
{ { ولقد جاءكم يوسف من قبل بالبينات } [غافر: 34] وقيل: فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف. والمعنى ولقد جاء آباءكم. وقيل: اشتراه العزيز بعشرين ديناراً وزوجي نعل وثوبين أبيضين. وقيل: أدخلوه السوق يعرضونه فترافعوا في ثمنه حتى بلغ ثمنه وزنه مسكاً وورقاً وحريراً فابتاعه قطفير بذلك المبلغ. ومعنى { أكرمي مثواه } اجعلي منزله ومقامه عندنا كريماً أي حسناً مرضياً. وفي هذه العبارة دلالة على أنه عظم شأن يوسف كما يقال سلام على المجلس العالي. وقال في الكشاف: المراد تعهديه بحسن الملكة حتى تكون نفسه طيبة في صحبتنا. ويقال للرجل: كيف أبو مثواك وأم مثواك لمن ينزل الرجل به من إنسان رجل أو امرأة يراد هل تطيب نفسك بثوائك عنده؟ واللام في { لامرأته } تتعلق بــ{ قال }. ثم بين الغرض من الإكرام فقال: { عسى أن ينفعنا } بكفاية بعض مهماتنا { أو نتخذه ولداً } لأن قطفير كان لا يولد له ولد وكان حصوراً. وعن ابن مسعود أفرس الناس ثلاثة: العزيز حين قال لامرأته أكرمي مثواه فتفرس في يوسف ما تفرس، والمرأة التي أتت موسى وقالت لأبيها يا أبت استأجره، وأبو بكر حين استخلف عمر. وروي أنه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه فعرفه. ثم قال: { وكذلك } أي كما أنعمنا عليه بالإنجاء من الجب وعطف قلب العزيز عليه { مكنا له } في أرض مصر حتى يتصرف فيها بالأمر والنهي { ولنعلمه } قد مر في الوقوف بيان متعلقه وفي أوائلا لسورة معنى تأويل الأحاديث. والمراد من الآية حكاية إعلاء شأن يوسف في الكمالات الحقيقية وأصولها القدرة، وأشار إليها بقوله: { مكنا } والعلم وأشار إليه بقوله { ولنعلمه } ولا ريب أن ابتداء ذلك كان حين ألقي في الجب كما قال { وأوحينا إليه لتنبئنهم } وكان يرتقي في ذلك إلى أن بلغ حد الكمال وصار مستعداً للدعوة إلى الدين الحق وللإرسال إلى الخلق { والله غالب على أمره } أي على أمر نفسه لا منازع له ولا مدافع، أو على أمر يوسف لم يكله إلى غيره ولم ينجح كيد إخوته فيه ولم يكن إلا ما أراد الله ودبر. { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أن الأمر كله بيد الله. ثم إنه سبحانه بين وقت استكمال أمره فقال: { ولما بلغ أشدّة } قيل في الأشد ثماني عشرة سنة وعشرون، وثلاث وثلاثون وأربعون إلى ثنتين وستين { آتيناه حكماً وعلماً } فالحكم الحكمة العملية والعلم الحكمة النظرية، وإنما قدمت العملية لأن أصحاب الرياضيات والمجاهدات يصلون أوّلاً إلى الحكمة العملية ثم إلى العلم اللدني بخلاف أصحاب الأفكار والأنظار، والأول هو طريقة يوسف لأنه صبر على البلاء، والمحن ففتح عليه أبواب المكاشفات، وقيل: الحكم النبوّة لأن النبي حاكم على الخلق والعلم علم الدين. وقيل: الحكم صيرورة نفسه المطمئنة حاكمة على النفس الأمارة قاهرة لها، فحينئذٍ تفيض الأنوار القدسية والأضواء الإلهية من عالم القدس على جوهر النفس. والتحقيق في هذا الباب أن استكمال النفس الناطقة إنما يتيسر بواسطة استعمال الآلات الجسدانية، وفي أوان الصغر تكون الرطوبات مستولية عليها فتضعف تلك الآلات، فإذا كبر الإنسان واستولت الحرارة الغريزية على البدن نضجت تلك الرطوبات وقلت واعتدلت فصارة الآلات صالحة لأن تستعملها النفس الإنسانية في تحصيل المعارف واكتساب الحقائق. فقوله { ولما بلغ أشده } إشارة إلى اعتدال الآلات البدنية، وقوله: { آتيناه حكماً وعلماً } إشارة إلى استكمال النفس الناطقة وقوة لمعان الأضواء القدسية فيها. قال في الكشاف: { وكذلك نجزي المحسنين } فيه تنبيه على أنه كان محسناً في عمله متقياً في عنفوان أمره، وأن الله آتاه الحكم والعلم جزاء على إحسانه. واعترض عليه بأن النبوة غير مكتسبة. والحق أن الكل بفضل الله ورحمته ولكن للوسائط والمعدات مدخل عظيم في كل ما يصل إلى الإنسان من الفيوض والآثار، فالأنوار السابقة تصير سبباً للأضواء اللاحقة وهلم جراً. عن الحسن: من أحسن عبادة ربه في شبيبته آتاه الله الحكمة في اكتهاله.
ثم إن يوسف كان في غاية الحسن والجمال، فلما شب طمعت فيه امرأة العزيز وذلك قوله: { وراودته } والمراودة مفاعلة من راد يرود إذا جاء وذهب، ضمنت معنى الخداع أي فعلت ما يفعل المخادع بصاحبه حتى يزله عن الشي الذي يريد أن يخرجه من يده، وقد يخص بمحاولة الوقاع فيقال: راود فلان جاريته عن نفسها وراودته هي عن نفسه إذا حاول كل منهما الوطء والجماع، وإنما قال: { التي هو في بيتها } ولم يقل زليخا قصداً إلى زيادة التقرير مع استهجان اسم المرأة { وغلقت الأبواب } لا ريب أن التشديد يدل على التكثير لأن غلق متعد كنقيضه وهو فتح. والمفسرون رووا أن الأبواب كانت سبعة { وقالت هيت لك } هذه اللغة في جميع القراآت اسم فعل بمعنى هلم إلا عند من قرأ { هئت لك } بهاء مكسورة بعدها همزة ساكنة ثم تاء مضمومة فإنها معنى تهيأت لك. يقال: هاء يهيء مثل جاء يجيء بمعنى تهيأ. قال النحويون: هيت جاء بالحركات الثلاثة: فالفتح للخفة، والكسر للالتقاء الساكنين، والضم تشبيهاً بحيث. وإذا بين باللام نحو "هيت لك" فهي صوت قائم مقام المصدر كأفٍ له أي لك أقول هذا. وإذا لم يبين باللام فهو صوت قائم مقام مصدر قائم مقام الفعل ويكون اسم فعل، ومعناه إما خبر أي تهيأت وإما أمر أي أقبل. وقد روى الواحدي بإسناده عن أبي زيد { قالت هيت لك } بالعبرانية هيتالج أي تعال عربه القرآن. وقال الفراء: إنها لغة لأهل حوران سقطت إلى مكة فتكلموا بها. وقال ابن الأنباري: هذا وفاق بين لغة قريش وأهل حوران كما اتفقت لغة العرب والروم في القسطاس، ولغة العرب والفرس في السجيل، ولغة العرب والترك في الغساق، ولغة العرب والحبشة في ناشئة الليل. ثم إن المرأة لما ذكرت هذا الكلام أجاب يوسف عليه السلام بثلاثة أجوبة: الأول { قال معاذ الله } وهو من المصادر التي لا يجوز إظهار فعلها أي أعوذ بالله معاذاً، وفيه إشارة إلى أن حق الله تعالى يمنع عن هذا العمل، الثاني { إنه } والضمير للشأن { ربي } أي سيدي ومالكي بزعمهم واعتقاهم وإلا فيوسف كان عالماً بأنه حر والحر لا يصير عبداً بالبيع، أو المراد التربية أي الذي رباني { أحسن مثواي } حين قال { أكرمي مثواه } وفي هذا إشارة إلى أن حق الخلق أيضاً يمنع عن ذلك العمل. وقيل: أراد بقوله: { ربي } الله تعالى لأنه مسبب الأسباب. الثالث قوله: { إنه لا يفلح الظالمون } الذين يجازون الحسن بالسيء، أو أراد الذين يزنون لأنهم ظلموا أنفسهم. وفيه إشارة إلى الدليل العقلي فإن صون النفس عن الضرر واجب وهذه اللذة قليلة يتبعها خزي في الدنيا وعذاب في الآخرة، فعلى العاقل أن يحترز عنها فما أحسن نسق هذه الأجوبة.
قوله سبحانه { ولقد همت به وهمّ بها } لا شك أن الهم لغة هو القصد والعزم، لكن العلماء اختلفوا فقال جم غفير من المفسرين الظاهريين: إن تلك الهمة بلغت حد المخالطة فقال أبو جعفر الباقر رضي الله عنه بإسناده عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه: إنها طمعت فيه وإنه طمع فيها حتى هم أن يحل التكة. وعن ابن عباس أنه حل الهميان أي السربال وجلس منها مجلس المجامع. وعنه أيضاً أنها استقلت له وقعد هو بين شعبها الأربع. وروي أن يوسف حين قال: { ذلك ليعلم أني لم أخنه بالغيب } قال له جبرائيل: ولا حين هممت يا يوسف؟ فقال يوسف عند ذلك { وما أبرىء نفسي إن النفس لأمارة بالسوء } وقال آخرون: إن الهمة ما كانت إلا ميلة النفس ولم يخرج شيء منها من القوة إلى الفعل ولكن كانت داعية الطبيعة وداعية العقل والحكمة متجاذبتين. أما الأولون فقد فسروا برهان ربه بأن المرأة قامت إلى صنم لها مكلل بالدر والياقوت في زاوية من زاويا البيت فسترته بالأثواب فقال يوسف: ولم؟ فقالت: أستحيي من إلهي هذا أن يراني على المعصية. فقال يوسف: تستحيي من صنم لا يسمع ولا يعقل ولا أستحيي من إلهي القائم على كل نفس بما كسبت، فوالله لا أفعل ذلك أبداً. وعن ابن عباس أنه مثل له يعقوب عاضاً فوه على أصابعه قائلاً: أتعمل عمل الفجار وأنت مكتوب في زمرة الأنبياء؟ وإلى هذا ذهب عكرمة ومجاهد والحسن وقتادة والضحاك ومقاتل وابن سيرين. وقال سعيد بن جبير: تمثل له يعقوب فضربه في صدره فخرجت شهوته من أنامله. وقيل: صيح به يا يوسف لا تكن كالطائر كان له ريش فلما زنى قعد لا ريش له. وقيل: بدت كف فيما بينهما ليس لها عضد ولا معصم مكتوب فيها
{ وإن عليكم لحافظين كراماً كاتبين } } { الإنفطار:11 - 12] فلم ينصرف ثم رأى فيها { ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلاً } [الإسراء: 32] فلم ينته ثم رأى فيها { واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله } [البقرة: 281] فلم ينجع فيه فقال الله تعالى لجبرائيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة. فانحط لجبرائيل وهو يقول: يا يوسف أتعمل عمل السفهاء وأنت مكتوب في يوان زمرة الأنبياء؟ وقيل: رأى تمثال العزيز. وأما الآخرون فما سلموا شيئاً من هذه الروايات. وعلى تقدير التسليم فتوارد الدلائل على المطلوب الواحد غير بعيد وكذا ترادف الزواجر فهو عليه وجوب اجتناب المحارم وبحسب ما أعطاه الله من النفس القدسية المطهرة النبوية، لكنه انضاف إلى ذلك البرهان هذ الزواجر تكميلاً للألطاف وتتميماً للعناية. قالوا: ولو أن أوقح الزناة وأشطرهم إذا لقي ما لقي به نبي الله مما ذكروا لما بقي منه عرق ينبض وعضو يتحرك فكيف احتاج النبي إلى جميع هذه الزواجر والمؤكدات حتى ينتهي عن إمضاء العزمة. قالوا: والهم لا يتعلق بالأعيان وإنما يتعلق بالمعاني، فأنتم تضمرون أنه قد هم بمخالطتها ونحن نقول هم بدفعها لولا أن عرف برهان ربه وهو أن الشاهد سيشهد له أنه كان قميصه قد من دبر فكذبت وهو من الصادقين، فلعله لو اشتغل بأن يدفعها أمكن أن يتمزق قميصه من قبل فكانت الشهادة عليه لا له فلذلك ولى هارباً عنها. وفي قوله: { وهمّ بها } فائدة أخرى هي أن ترك المخالطة بها ما كان لعدم رغبته في النساء وعوز قدرته عليهن بل لأجل أن دلائل دين الله منعته عن ذلك العمل، وكيف يظن بيوسف معصية وقد ادعى البراءة بقوله: { هي راودتني } وبقوله: { رب السجن أحب إلي مما يدعونني إليه } والمرأة اعترفت بذلك حين قالت للنسوة { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } وقالت { الآن حصحص الحق } وزوج المرأة صدّقه فقال: { إنه من كيدكن إن كيدكن عظيم } وشهد له شاهد من أهلها كما يجيء وشهد له الله تعالى فقال: { كذلك } أي مثل ذلك التثبيت ثبتناه أو الأمر مثل ذلك { لنصرف عنه السوء } خيانة السيد { والفحشاء } الزنا أو السوء مقدمات الجماع من القبلة والنظر بشهوة ونحو ذلك. ثم أكد الشهادة بقوله: { إنه من عبادنا } والإضافة للتشريف كقوله: { وعباد الرحمن } [الفرقان: 63] ثم زاد في التأكيد فوصفه بالمخلصين أي هو من جملة من اتصف في طاعاته بصفة الإخلاص، أو من جملة من أخلصه الله تعالى بناء على قراءتي فتح اللام وكسرها. ويحتمل أن يكون "من" للابتداء لا للتبعيض أي هو ناشىء منهم لأنه من ذرية إبراهيم عليه السلام. فكل هذه الدلائل تدل على عصمة يوسف عليه السلام وأنه بريء من الذنب، ولو كان قد وجدت منه زلة لنعيت عليه وذكرت توبته واستغفاره كما في آدم وذي النون وغيرهما ولما استحق هذا الثناء والله أعلم بحقائق الأمور.
وقوله: { واستبقا الباب } أي تسابقا إليه على حذف الجار وإيصال الفعل مثل
{ { واختار موسى قومه } [الأعراف: 155] أو على تضمين استبقا معنى ابتدرا. وإنما وحد الباب لأنه أراد الداني لا جميع الأبواب التي غلقتها. روى كعب أنه لما هرب يوسف جعل فراش القفل يتناثر ويسقط حتى خرج من الأبواب { وقدت قميصه من دبر } لأنها اجتذبته من خلفه فانقد أي انشق طولاً { وألفيا سيدها } صادفا بعلها وهو قطفير. وإنما لم يقل سيدهما لأن ملك يوسف لم يكن ملكاً في الحقيقة. روي أنهما ألفياه مقبلاً يريد أن يدخل وقيل جالساً مع ابن عم للمرأة. ثم إنه كان للسائل أن يسأل فما قالت المرأة إذا ذاك؟ فقيل: قالت: { ما جزاء } هي استفهامية أو نافية معناه أي شيء جزاؤه، أو ليس جزاءه إلا السجن أو العذاب الأليم. وربما فسر العذاب { الأليم بالضرب بالسياط جمعت بين غرضين تنزيه ساحتها عند زوجها من الريبة والغضب على يوسف وتخويفه طمعاً في أن يواتيها خوفاً وإن لم يواتيها طوعاً. ثم إنها لحبها يوسف راعت دقائق المحبة فذكرت السجن أوّلاً ثم العذاب لأن المحب لا يريد ألم المحبوب ما أمكن. وأيضاً لم تصرح بذكر يوسف وأنه أراد بها سوءاً بل قصدت العموم ليندرج يوسف فيه. وفي قولها: { إلا أن يسجن } إشعار بأن ذلك السجن غير دائم بخلاف قول فرعون لموسى { لأجعلنك من المسجونين } } [الشعراء: 29] ففيه إشعار بالتأبيد { قال } يوسف { هي راودتني عن نفسي } وإنما صرح بذلك لأنها عرضته للسجن والعذاب فوجب عليه الدفع عن نفسه ولولا ذلك لكتم عليها. قال سبحانه { وشهد شاهد من أهلها } قال جمع من المفسرين: الشاهد ابن عم المرأة وكان رجلاً حكيماً، اتفق في ذلك الوقت أنه كان مع العزيز فقال: قد سمعت الجلبة من وراء الباب وشق القميص إلا أنا لا ندري أيكما قدام صاحبه، فإن كان شق القميص من قدام فأنت صادقة والرجل كاذب، وإن كان من خلف فالرجل صادق وأنت كاذبة، فلما نظروا إلى القميص ورأوا الشق من خلفه قال ابن عمها: { إنه من كيدكن } وعن ابن عباس وسعيد بن جبير والضحاك أن الشاهد ابن خال لها وكان صبياً في المهد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه " "تكلم أربعة وهم صغار: ابن ماشطة بنت فرعون، وشاهد يوسف، وصاحب جريج، وعيسى ابن مريم" . وعن مجاهد: الشاهد هو القميص المشقوق من خلف وضعف بأن القميص لا يوصف بالشهادة ولا بكونه من الأهل، واعترض على القول الأول بأن العلامة المذكورة لا تدل قطعاً على براءة يوسف لاحتمال أن الرجل قصد المرأة وهي قد غضب عليه ففر فعدت خلفه كي تدركه وتضربه ضرباً وجيعاً. وأجيب بأن هناك أمارات أخر منها أن يوسف كان عبداً لهم والعبد لا يمكنه أن يتسلط على مولاه إلى هذا الحد، ومنها قرينة الحال كتزين المرأة فوق المعتاد وما شوهد من أحوال يوسف في مدة إقامته بمنزلهم. واعترض على القول الثاني بأن شهادة الصبي أمر خارق للعادة فتكون حجة قطعية فلم يبق للاستدلال بحال القميص ولا لكونه من أهلها فائدة. وأيضاً لفظ { شاهد } لا يقع في العرف إلا على من تقدمت معرفته بالواقعة. والجواب أن تعيين الطريق في الإخبار والإعلام غير لازم، وكون الشاهد من أهلها أوجب للحجة عليها وألزم لها والشاهد ههنا مجاز ووجه حسنه أنه أدى مؤدى الشاهد حيث ثبت به قول يوسف وبطل قولها. قال في الكشاف: التنكير في "قبل". و"دبر" معناه من جهة يقال لها قبل ومن جهة يقال لها دبر. أما الضمير في قوله: { فلما رأى } وفي قوله: { قال إنه من كيدكن } فقيل: إنه للشاهد الذي هو ابن عمها كما ذكرنا أي إن قولك وهو ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً، أو إن هذا الأمر وهو الذي أفضى إلى هذه الريبة من عملكن { إن كيدكن عظيم } قال بعض العلماء: أنا أخاف النساء أكثر مما أخاف الشيطان لأنه تعالى يقول: { إن كيد الشيطان كان ضعيفاً } [النساء: 76] وقال للنساء: { إن كيدكن عظيم } وأقول: لا شك أن القرآن كلام الله إلا أن هذا حكاية قول الشاهد فلا يثبت به ما ادعاه ذلك العالم ولو سلم فالمراد إن كيد الشيطان ضعيف بالنسبة إلى ما يريد الله تعالى إمضاءه وتنفيذه، وكيد النساء عظيم بالنسبة إلى كيد الرجال فإنهم يغلبنهم ويسلبن عقولهم إذا عرضن أنفسهن عليهم ولهذا قال صلى الله عليه وسلم: "النساء حبائل الشيطان" .
ثم قال الشاهد: { يوسف } أي يا يوسف فحذف حرف النداء { أعرض عن هذا } الأمر واكتمه ولا تحدّث به { واستغفري } يا امرأة { لذنبك } والاستغفار إما من الزوج أو من الله تعالى لأنهم كانوا يثبتون الإله الأعظم ويجعلون الأصنام شفعاء ولهذا قال يوسف لصاحبه في السجن { أأرباب متفرقون خير أم الله الواحد القهار } [يوسف: 39] { إنك كنت من الخاطئين } من المتعمدين للذنب. يقال: خطىء إذا أذنب متعمداً والتذكير للتغليب. وقيل: الضمير في { رأى } وفي { قال } لزوج المرأة وأنه كان قليل الغيرة فلذلك اكتفى منها بالاستغفار قاله أبو بكر الأصم. { وقال نسوة } هو اسم مفرد لجمع المرأة وتأنيثه غير حقيقي ولذلك حسن حذف التاء من فعله وقد تضم نونها. قال الكلبي: هن أربع في مدينة مصر: إمرأة الساقي وامرأة الخباز وامرأة صاحب الدواب وامرأة صاحب السجن، وزاد مقاتل امرأة الحاجب، والفتى الغلام الشاب والفتاة الجارية { قد شغفها } أي خرق حبه شغاف قلبها والشغاف حجاب القلب، وقيل: جلدة رقيقة يقال لها لسان القلب و{ حباً } نصب على التمييز وحقيقة شغفه أصاب شغافه كما يقال: كبده إذا أصاب كبده وكذا قياس سائر الأعضاء. وقرىء بالعين المهملة أي أحرقها مع تلذذ من شغف البعير إذا هنأه فأحرقه بالقطران. وقال ابن الأنباري: هذا من الشغف وهو رؤوس الجبال أي ارتفع محبته إلى أعلى المواضع من قلبها. والضلال المبين الخطأ عن طريق الصواب. { فلما سمعت بمكرهن } اغتيابهن وسوء قالتهن فيها، وإنما حسن التعبير عن الاغتياب بالمكر لاشتراكهما في الإخفاء. وقيل: التمست منهن كتمان سرها فأفشينه فسمي مكراً { أرسلت إليهن } تدعوهن. وقيل: أردن بذلك أن يتوسلن إلى رؤية يوسف عليه السلام فلهذا سمي مكراً. وقيل: كن أربعين. { وأعتدت } وهيأت{ لهن متكئاً } موضع اتكاء وأصله موتكئاً لأنه من توكأت أبدلت الواو تاء ثم أدغمت، والمراد هيأت لهن نمارق يتكئن عليها كعادة المترفهات كأنها قصدت بذلك تهويل يوسف عليه السلام من مكرها إذا خرج على أربعين نسوة مجتمعات في أيديهن السكاكين توهمه أنهن يثبن عليه. وقيل: المتكأ مجلس الطعام لأنهن كانوا يتكئون للطعام والشراب والحديث على هيئة المتنعمات، ولذلك نهى أن يأكل الرجل متكئاً. وآتتهن السكاكين ليعالجن بها ما يأكلن بها. وقيل: أراد بالمتكأ الطعام على سبيل الكناية لأن من دعوته ليطعم عندك اتخذت له متكأ. وقال مجاهد: هو طعام يحتاج الى أن يقطع بالسكين لأن القاطع متكىء على المقطوع بآلة القطع وقرىء متكاً مضموم الميم ساكن التاء مقصوراً وهو الأترج { فلما رأينه أكبرته } أعظمنه وهبن ذلك الجمال، وكان أحسن خلق الله إلا أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان أملح. قيل: كان يشبه آدم عليه السلام يوم خلقه ربه وما كان أحد يستطيع وصفه ويرى تلألؤ وجهه على الجداران وقد ورث الجمال من جدته سارّة. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: "مررت بيوسف الليلة التي عرج بي إلى السماء فقلت لجبرائيل: ما هذا؟ فقال: يوسف. فقيل: يا رسول الله كيف رأيته؟ قال: كالقمر ليلة البدر" وقال الأزهري: أكبرن بمعنى حضن والهاء للسكت. يقال: أكبرت المرأة أي دخلت في الكبر بالحيض، ووجه حيضهن حينئذٍ بأن المرأة إذا فزعت أسقطت ولدها فحاضت، فالمراد حضن ودهشن. وقيل: أكبرنه لما رأين عليه من نور النبوة وسيماء الرسالة وآثار الخضوع والإخبات والأخلاق. الفاضله الملكية كعدم الالتفات إلى المطعوم والمنكوح فلذلك وقعت الهيبة والرعب في قلوبهن { وقطعن أيديهن } أي جرحنها بأن لم يعرفن الفاكهة من اليد، أو بأن لم يفرقوا بين الجانب الحاد من السكين وبين مقابله فوقع الطرف الحاد في أيديهن وكفهن وحصل الاعتماد على ذلك الطرف فجرح الكف وهذا القول شديد الملاءمة لقولهن { حاش لله } أي ننزهه عما يشينه من خصلة ذميمة { إن هذا إلا ملك كريم } في السيرة والعفة والطهارة.
وأما قول زليخا: { فذلكن الذي لمتنني فيه } فإنما ينطبق على هذا التأويل من حيث إن الصورة الحسنة مع العفة الكاملة توجب حصول اليأس من الوصال وحصول الغرض المجازي وذلك يستتبع فرط الحيرة وزيادة العشق. وعلى القولين الأولين فالمعنى تنزيه الله من صفات العجز والتعجب من قدرته على خلق جميل مثله، كما أن قولهن { حاش لله ما علمنا عليه } تعجب من قدرته على خلق عفيف مثله. قال صاحب الكشاف: "حاشا" كلمة تفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء واللام في { لله } لبيان من يبرأ وينزه وهي حرف من حروف الجر وضع موضع التنزيه والبراءة. وقال أبو البقاء: الجمهور على أنه ههنا فعل لدخوله على حرف الجر وفاعله مضمر، وحذف الألف من آخره للتخفيف وكثرة دوره على الألسنة تقديره حاشى يوسف أي بعد عن المعصية لخشية الله وصار في حاشية أي ناحية. { ما هذا بشراً } أعمال ما عمل ليس لغة حجازية { إن هذا } أي ما هذا الشخص { إلا ملك كريم } استدل بعضهم بالآية على أفضلية الملك كما مر في أول سورة البقرة قالوا: وإنما قلن ذلك لما ركز في العقول أن لا أحسن من صورة الملك كما ركز فيها أن لا أقبح من صورة الشيطان. واعترض عليه بأنه لا مشابهة بين صورة الإنسان وصورة الملك. وأجيب بعد التسليم بتغيير المدعي وهو أنهن أردن المشابهة في الأخلاق الباطنة وبها يحصل المطلوب، وزيف بأن قول النساء لا يصلح للحجة، وفي الآية دلالة على أن اللوم انتفى لأنه لحقهن بنظرة واحدة يلحقها في مدة طويلة وأنظار كثيرة فلذلك { قالت فذلكن الذي لمتنني فيه } وسئل ههنا إن يوسف كان حاضراً فلم أشارت بعبارة البعيد؟ وأجاب ابن الأنباري بأنها أشارت إليه بعد انصرافه من المجلس وهذا شيء يتعلق بالنقل. وأما علماء البيان فإنهم بنوا الأمر على أن يوسف حاضر وأجابوا بأنها لم تقل فهذا رفعاً لمنزلته في الحسن واستحقاق أن يحب ويفتتن به واستبعاداً لمحله، أو هو إشارة إلى المعنيّ بقولهن في المدينة عشقت عبدها الكنعاني كأنها قالت هو ذلك العبد الكنعاني الذي صوّرتن في أنفسكن ثم لمتتني فيه يعني أنكن لم تصوّرنه قبل ذلك حق التصوير وإلا عذرتنني في الافتتان به. ولما أظهرت عذرها عند النسوة صرحت بحقيقة الحال فقالت: { ولقد راودته عن نفسه فاستعصم } قال السدي: أي بعد حل السراويل: والذين يثبتون عصمة الأنبياء قالوا: إن { استعصم } بناء مبالغة يدل على الامتناع البليغ والتحرز الشديد كأنه في عصمة وهو يجتهد في الاستزادة منها، وفيه شهادة من المرأة على أن يوسف ما صدر عنه أمر بخلاف الشرع والعقل أصلاً. { ولئن لم يفعل ما آمره } قال في الكشاف: معناه الذي آمر به فحذف الجار كما في أمرتك الخير، أو ما مصدرية والضمير ليوسف أي أمري إياه أي موجب أمري ومقتضاه { وليكونا من الصاغرين } هي نون التأكيد المخففة ولهذا تكتب بالألف لأن الوقف عليها بالألف. والصغار الذل والهوان، ومعلوم أن التوعد بالصغار له تأثير عظيم في حق من كان رفيع النفس جليل القدر مثل يوسف ثم إنه اجتمع على يوسف في هذه الحالة أنواع من المحن والفتن منها: أن زليخا كانت في غاية الحسن، ومنها أنها كانت ذات مال وثروة قد عزمت أن تبذل الكل ليوسف على تقدير أن يساعدها، ومنها أن النسوة اجتمعن عليه مرغبات ومخوفات، ومنها أنها كانت ذات قدرة ومكنة وكان خائفاً من شرها ومن إقدامها على قتله، ولا ريب أن نطاق عصمة البشرية يضيق عن بعض هذه الأسباب فضلاً عن كلها وعن أزيد منها ولهذا لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى قائلاً: { رب السجن أحب إليّ مما يدعونني إليه } لأن السجن وإن كان مشقة فهي زائلة والذي يدعونه إليه وإن كان لذة إلا أنها عاجلة مستعقبة لخزي الدنيا وعذاب الآخرة { وإلا تصرف عني كيدهن } بترجيح داعية الخير وعزوف النفس أو بمزيد الألطاف والعصمة { أصب إليهن } والصبوة الميل إلى الهوى ومنها الصبا لأن النفوس تصبوا إلى روحها. { وأكن من الجاهلين } الذين لا يعملون بما يعلمون ولا يكون في علمهم فائدة، أو من السفهاء لأن الحكيم لا يفعل القبيح. ولما كان في قوله: { وإلا تصرف } معنى الدعاء وطلب الصرف قال سبحانه { فاستجاب له ربه } ثم إن المرأة أخذت في الاحتيال وقالت لزوجها إن هذا العبد العبراني فضحني في الناس ويقول لهم في المجالس إني راودته عن نفسه وأنا لا أقدر على إظهار عذري، فإما أن تأذن لي فأخرج فأعتذر، وإما أن تحبسه كما حبستني فعند ذلك وقع في قلب العزيز أن الأصلح حبسه حتى ينسى الناس هذا الحديث فذلك قوله تعالى: { ثم بدا } أي ظهر { لهم } للعزيز ومن يليه أو له وحده والجمع على عادتهم في تعظيم الأشراف { من بعد ما رأو الآيات } الدالة على براءة يوسف من شهادة الصبي واعتراف المرأة وشهادة النسوة له بالسيرة الملكية والعفة. وفاعل بدا مضمر أي ظهر لهم رأي أو سجنه وإنما حذف لدلالة ما يفسره عليه وهو { ليسجننه } والقسم محذوف { حتى حين } إلى زمان ممتد. عن أبن عباس: إلى زمان انقطاع القالة وما شاع في المدينة. وعن الحسن: خمس سنين. وعن غيره سبع سنين. وعن مقاتل: أنه حبس اثنتي عشرة سنة.
التأويل: لما أخرجوا يوسف القلب من جب الطبيعة ذهبوا به إلى مصر الشريعة فاشتراه عزيز مصرها وهو الدليل المربي على جادة الطريقة ليوصله إلى عالم الحقيقة. { فقال لامرأته } وهي الدنيا { أكرمي مثواه } اخدميه بقدر الحاجة الضرورية { عسى أن ينفعنا } حتى يكون صاحب الشريعة فيتصرف في الدنيا باكسير النبوة فتصير الشريعة حقيقة والدنيا آخرة { أو نتخذه ولداً } نربيه بلبان ثدي الشريعة والطريقة إلى أن يرى الفطام عن الدنيا الدنية { وكذلك مكنا } يشير إلى أن تمكين يوسف القلب في أرض البشرية إنما هو لتعلم العلم اللدني، لأن الثمرة إنما تظهر على الشجرة إذا كان أصل الشجرة راسخاً في الأرض { والله غالب على } أمر القلب في توجيهه إلى محبة الله وطلبه، أو على أمر القالب بجذبات العناية وإقامته على الصراط المستقيم فتكون تصرفاته بالله ولله وفي الله { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنهم خلقوا مستعدّين لهذا الكمال { وكذلك نجزي المحسنين } أي كما أفضنا على القلب ما هو مستحقه من الحكمة والعلم كذلك نجزي الأعضاء الرئيسية والجوارح إذا أحسنوا الأعمال والأخلاق على قاعدة الشريعة والطريقة خير الجزاء، وهو التبليغ إلى مقام الحقيقة. { وراودته } فيه إشارة إلى أن يوسف القلب وإن استغرق في بحر صفات الألوهية لا ينقطع عنه تصرفات زليخا الدنيا ما دام هو في بيتها أي في الجسد الدنياوي { وغلقت } أبواب أركان الشريعة { وقالت هيت لك } أقبل إلى وأعرض عن الحق { قال } أي القلب الفاني عن نفسه الباقي ببقاء ربه { معاذ الله } عما سواه. { أحسن مثواي } في عالم الحقيقة { إنه لا يفلح الظالمون } الذين يقبلون على الدنيا ويعرضون عن المولى { وهمّ بها } فوق الحاجة الضرورية { لولا أن رأى برهان ربه } وهو نور خصلة القناعة التي هي من نتائج نظر العناية { لنصرف عنه السوء } الحرص على الدنيا { والفحشاء } بصرف حب الدنيا فيه { إنه من عبادنا المخلصين } الذي خلصوا من سجن الوجود المجازي ووصلوا إلى الوجود الحقيقي. { واستبقا } باب الموت الاختياري { وقدت } قميص بشريته { من دبر } بيد شهواتها قبل خروجه من الباب { وألفيا سيدها } وهو صاحب ولاية تربية يوسف القلب وزوج زليخا الدنيا لأنه يتصرف في الدنيا كما ينبغي تصرف الرجل في المرأة { وشهد شاهد من أهلها } هو حاكم العقل الغريزي دون العقل المجرد الذي هو ليس من الدنيا وأهلها في شيء، فبين حاكم العقل أن يد تصرف زليخا الدنيا لا تصل إلى يوسف القلب إلا بواسطة قميص بشريته { إن كيدكن عظيم } وهو قطع طريق الوصول إلى الله لعظيم على القلب السليم. { يوسف أعرض عن هذا } فإن ذكر الدنيا يورث محبتها وحب الدنيا رأس كل خطيئة. { وقال نسوة } هي الصفات البشرية من البهيمية والسبعية والشيطانية في مدينة الجسد { تراود فتاها } لأن الرب إذا تجلى للعبد خضع له كل شيء "يا دنيا اخدمي من خدمني" { واعتدت لهن متكئاً } أطعمة مناسبة لكل منها { وآتت كل واحد منهن سكيناً } هو سكين الذكر { وقالت اخرج عليهن } إشارة إلى غلبات أحوال القلب على الصفات البشرية { وقطعن أيديهن } بالذكر عما سوى الله. { ثم بدا لهم } أي ظهر لمربي القلب بلبان الشريعة وهو شيخ الطريقة ومن يراعي صلاح حال القلب { من بعد ما رأوا } آثار عناية الله وعصمة القلب من الالتفات إلى ما سواه { ليسجننه } في سجن الشرع إلى حين قطع تعلقه عن الجسد بالموت نظيره
{ واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [الحجر: 99] وإذا كان النبي مع نهاية كماله مأموراً بأن يكون مسجوناً في هذا السجن فكيف بمن دونه والله أعلم.