التفاسير

< >
عرض

وَدَخَلَ مَعَهُ ٱلسِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَآ إِنِّيۤ أَرَانِيۤ أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ ٱلآخَرُ إِنِّي أَرَانِيۤ أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ ٱلْمُحْسِنِينَ
٣٦
قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذٰلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّيۤ إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَهُمْ بِٱلآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ
٣٧
وَٱتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِـيۤ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بِٱللَّهِ مِن شَيْءٍ ذٰلِكَ مِن فَضْلِ ٱللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى ٱلنَّاسِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ
٣٨
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ ٱللَّهُ ٱلْوَاحِدُ ٱلْقَهَّارُ
٣٩
مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَآءً سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ مَّآ أَنزَلَ ٱللَّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلاَّ للَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوۤاْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٤٠
يٰصَاحِبَيِ ٱلسِّجْنِ أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا ٱلآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ ٱلطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ ٱلأَمْرُ ٱلَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ
٤١
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا ٱذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ ٱلشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي ٱلسِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ
٤٢
وَقَالَ ٱلْمَلِكُ إِنِّيۤ أَرَىٰ سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يٰأَيُّهَا ٱلْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ
٤٣
قَالُوۤاْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ ٱلأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ
٤٤
وَقَالَ ٱلَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَٱدَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ
٤٥
يُوسُفُ أَيُّهَا ٱلصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّيۤ أَرْجِعُ إِلَى ٱلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ
٤٦
قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ
٤٧
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ
٤٨
ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ ٱلنَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ
٤٩
وَقَالَ ٱلْمَلِكُ ٱئْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَآءَهُ ٱلرَّسُولُ قَالَ ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ ٱلنِّسْوَةِ ٱللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ
٥٠
قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوۤءٍ قَالَتِ ٱمْرَأَتُ ٱلْعَزِيزِ ٱلآنَ حَصْحَصَ ٱلْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ ٱلصَّادِقِينَ
٥١
ذٰلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِٱلْغَيْبِ وَأَنَّ ٱللَّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ ٱلْخَائِنِينَ
٥٢
وَمَآ أُبَرِّىءُ نَفْسِيۤ إِنَّ ٱلنَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِٱلسُّوۤءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيۤ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٥٣
-يوسف

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات { إني أراني أعصر } بالفتح في الحرفين: أبو جعفر ونافع، وأبو عمرو وافق ابن كثير في { أراني } كليهما. الباقون: بسكون ياء المتكلم في الكل: { نبينا } بغير همزة: أوقية والأعشى وحمزة في الوقف. { ترزقانه } مختلسة: الحلواني عن قالون { نبأتكما } مثل { أنشأنا } { ربي إني } بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { آبائي } بالفتح: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وابن عامر { إني أرى } بالفتح: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { رؤياي } بالإمالة: عليّ غير قتيبة. أبو عمرو بالإمالة اللطيفة. والقول في ترك الهمزة مثل ما تقدم { للرؤيا } ممالة: عليّ، وأبو عمرو بالإمالة اللطيفة. { لعلي أرجع } بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير غير ابن مجاهد عن ابن ذكوان وأبو عمرو { دأبا } بفتح الهمزة: حفص. الآخرون بالسكون { تعصرون } بتاء الخطاب: حمزة وعليّ وخلف والمفضل. الباقون على الغيبة. { ما بال النسوة } بضم النون: الشموني والبرجمي { نفسي } { رحم ربي } بالفتح فيهما: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو.
الوقوف: { فتيان } ط { خمراً } ج فصلاً بين القضيتين مع اتفاق الجملتين { الطير منه } ط للعدول عن قول آخر منهما إلى قولهما المضمر أي فقالا. { نبئنا بتأويله } ج لاحتمال التعليل. { المحسنين } ه { أن يأتيكما } ط { ربي } ط { كافرون } ه { ويعقوب } ط { من شيء } ط { لا يشكرون } ه { القهار } ه ط { من سلطان } ط { إلا الله } ط { إلا إياه } ط { لا يعلمون } ه { خمراً } ج فصلا بين الجوابين مع اتفاق الجملتين { من رأسه } ط لأن قوله: { قضى } جواب قولهما كذبنا وما رأينا رؤيا { تستفتيان } ط لاستئناف حكاية أخرى { عند ربك } ز { سنين } ه ط { يابسات } ط { تعبرون } ه { أحلام } ج للنفي مع العطف { بعالمين } ه { فأرسلون } ه { ياباسات } لا لتعلق "لعلى" { يعلمون } ه { دأباً } ج للشرط مع الفاء { تأكلون } ه { تحصنون } ه { يعصرون } ه { ائتوني به } ج { أيديهن } ط { عليم } ه { عن نفسه } ط { من سوء } ط { الحق } ز لانقطاع النظم واتصال المعنى واتحاد القائل. { الصادقين } ه { الخائنين } ه { نفسي } ج للحذف أي عن السوء { ربي } ط { رحيم } ه.
التفسير: تقدير الكلام فحبسوه { ودخل معه } أي مصاحباً له في الدخول { السجن فتيان } غلامان للملك الأكبر خبازه وشرابيه نقلاً عن أئمة التفسير أو استدلالاً برؤياهما المناسبة لحرفتهما. رفع إلى الملك أنهما أرادا سمه في الطعام والشراب فأمر بإدخالهما السجن ساعة إذ دخل يوسف { قال أحدهما إني أراني } أي في المنام لقولهما: { نبئنا بتأويله } وهو حكاية حال ماضية { أعصر خمراً } أي عنباً تسمية للشيء باسم ما يؤول إليه. وقيل: الخمر بلغة عمان اسم العنب. والضمير في قوله: { بتأويله } يعود إلى ما قصا عليه وقد يوضع الضمير موضع اسم الإشارة كأنه قيل: نبئنا بتأويل ذلك { إنا نراك من المحسنين } عبارة الرؤيا. وكان أهل السجن يقصون عليه رؤياهم فيؤوّلها لهم، أو نراك من العلماء عرفا ذلك بالقرائن أو من المحسنين إلى أهل السجن كان يعود مرضاهم ويوسع عليهم ويراعي دقائق مكارم الأخلاق معهم، أو من المحسنين في طاعة الله وطلب مرضاته ففرج عنا الغمة بتأويل ما رأينا وإن كانت لك يد في تأويل الرؤيا. وعن قتادة: كان في السجن ناس قد انقطع رجاؤهم وطال حزنهم فجعل يقول: أبشروا اصبرا تؤجروا. فقالوا: ما أحسن وجهك وما أحسن خلقك فمن أنت يا فتى؟ فقال: أنا يوسف بن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحق بن خليل إبراهيم. فقال له عامل السجن: لو استطعت خليت سبيلك ولكني أحسن جوارك فكن في أي بيوت السجن شئت. وعن الشعبي ومجاهد أنهما تحالما له ليمتحناه فقال الشرابي: أراني في بستان فإذا بأصل كرم عليه ثلاثة عناقيد من عنب فقطعتها وعصرتها في كأس الملك وسقيته. وقال الخباز: إني أراني وفوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، وإذا سباع الطير تنهش منها { قال لا يأتيكما طعام } إلى آخره هذا ليس بجواب لهما ظاهراً وإنما قدم هذا الكلام لوجوه منها: أن أحد التعبيرين لما كان هو الصلب وكان في إسماعه كراهة ونفرة أراد أن يقدم قبل ذلك ما يؤثق بقوله ويخرجه عن معرض التهمة والعداوة. أو أراد أن يبين علوّ مرتبته في العلم وأنه ليس من المعبرين الذين يعبرون عن ظن وتخمين، ولهذا قال السدي: أراد لا يأتيكما طعام ترزقانه في النوم. بين بذلك أن علمه بتأويل الرؤيا ليس مقصوراً على شيء دون غيره وقيل: إنه محمول على اليقظة وإنه ادعى معرفة الغيب كقول عيسى عليه السلام
{ وأنبئكم بما تأكلون } [آل عمران: 49] أي أخبركما { قبل أن يأتيكما } أنه أي طعام هو وأيّ لون هو وكيف تكون عاقبته أهو ضار أم نافع وأن فيه سماً أم لا. فقد روي أن الملك كان إذا أراد قتل إنسان صنع له طعاماً مسموماً فأرسله إليه. ثم قال: { ذلكما } أي هذا التأويل والإخبار بالمغيبات من قبيل الوحي والإلهام لا من التكهن والتنجيم الذي يكثر فيهما وقوع الخطأ. ثم بيّن سيرته وملته مشيراً فيه إلى أنه رسول من عند الله ومنبهاً على أن الاشتغال بمصالح الدين أهم من الاشتغال بمصالح الدنيا حتى إن الرجل الذي سيصلب لعله يسلم فلا يموت على الكفر فقال: { إني تركت } أي رفضت بل ما كنت قط، ويجوز أن يكون قبل ذلك غير مظهر للتوحيد خوفاً منهم لأنه كان تحت أيديهم. وإنما كررت لفظة "هم" تنبيهاً على أنهم مختصون في ذلك الزمان بإنكار المعاد وتعريضاً بأن إيداعه السجن بعد معاينة الآيات الشاهدة على براءته لا يصدر إلا عمن ينكر الجزاء أشد الإنكار. والمراد باتباع ملة آبائه الاتباع في الأصول التي لا تتبدل بتبدل الشرائع، ومعنى التنكير في قوله: { من شيء } الرد على كل طائفة خالفت الملة الحنيفية من عبدة الأصنام والكواكب وغيرهم { ذلك } التوحيد { من فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون } نعمة الإيمان أو نعمة إعطاء القدرة والاختيار على الإيمان فلا ينظرون في الدلائل، وهذا يناسب أصول المعتزلة. وعن بعضهم إنا لا نشكر الله على الإيمان بل الله يشكرنا عليه كما قال: { فأولئك كان سعيهم مشكوراً } [الإسراء: 19] { يا صاحبي السجن } أراد يا صاحبي السجن كقوله "يا سارق الليلة" خصهما بهذا النداء لأنهما دخلا السجن معه أو أراد يا ساكني السجن كقوله: { أصحاب النار } [الأعراف: 44] فسبب التعييين أنهما استفتياه في بين الساكنين. ثم أنكر عليهم عبارة الأصنام فقال: { أأرباب متفرقون } في العدد وفي الحجمية وفيما يتبعها من اختلاف الأعراض والأبعاض { خير } إن فرض فيهم خير { أم الله الواحد القهار } لأن وحدة المعبود تستدعي توحيد المطلب وتفريد المقصد، وكونه قهاراً غالباً غير مغلوب من وجه يوجب حصول كل ما يرجى منه من ثواب وصلاح إذا تعلقت إرادته بذلك فلا يصلح للمعبودية إلا هو ولا تصلح حقيقة الإلهية في غيره فلذلك قال: { ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها } أي سميتم الآلهة بتلك الأسماء { أنتم وآباؤكم } والخطاب لهما ولمن على دينهما من أهل مصر فكأنهم لا يعبدون إلا أسماء فارغة عن المسميات { ما أنزل الله بها } بتسميتها { من سلطان } أي حجة. ثم لما نفى معبودية الغير بين أن لا حكم في أمر الدين والعبادة إلا له فقال: { إن الحكم إلا لله } ثم ذكر ما حكم به فقال: { أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم } الثابت بالبراهين { ولكن أكثر الناس لا يعلمون } أنه مبدأ المبادىء والمعاد الحقيقي فيتخذون غيره معبوداً ويجعلون لغيره من الأصنام والأجرام بالاستقلال فعلاً وتأثيراً. ثم شرع في إجابة مقترحهما وهو تأويل رؤياهما فقال: { أما أحدكما } يعني الشرابي { فيسقي ربه } سيده { خمرا } يروى أنه قال له: ما رأيت من الكرمة وحسنها هو الملك وحسن حالك عنده، وأما القضبان الثلاثة فإنها ثلاثة أيام تمضي في السجن ثم تخرج وتعود إلى ما كنت عليه. وقال للثاني: ما رأيت من السلال ثلاثة أيام ثم تخرج فتصلب فتأكل الطير من رأسك. قوله: { قضي الأمر } قال في الكشاف: إنما وحد الأمر وهما أمران مختلفان استفتيا فيهما، لأن المراد بالأمر ما اتهما به من سم الملك وما سجنا لأجله فكأنهما استفتياه في الأمر الذي نزل بهما أعاقبته نجاة أم هلاك استدلالاً برؤياهما فقال: إن ذلك الذي ذكرت من أمر التأويل كائن لا محالة صدقتما أو كذبتما. وقيل: جحدا رؤياهما. وقيل: عكسا رؤياهما، فلما علم الخباز أن تأويل رؤياه شر أنكر كونه صاحب تلك الرؤيا فقال يوسف: إن الذي حكمت به لكل منكما واقع لا بد منه ومن هنا قالت الحكماء: ينبغي أن لا يتصرف في الرؤيا ولا تغير عن وجهها فإن الفأل على ما جرى.
{ وقال } يوسف { للذي ظن أنه ناج منهما اذكرني عند ربك } أي اذكر عند الملك أني مظلوم من جهة إخوتي أخرجوني وباعوني، ثم إني مظلوم من جهة النسوة اللاتي حسبتني. والضمير في { ظن } إن كان للرجل الناجي فلا إشكال لأنهما ما كانا مؤمنين بنبوة يوسف بل كانا حسني الاعتقاد فيه وكأن قوله لم يفد في حقهما إلا مجرد الظن، وإن عاد إلى يوسف فيرد عليه أنه كان قاطعاً بنجاته فما المعنى للظن؟ وأجيب بأنه إنما ذكر ذلك التعبير بناء على الأصول المقررة في ذلك العلم فكان كالمسائل الاجتهادية. والأصح أنه قضي بذلك على سبيل ألبت والقطع لقوله: { لا يأتيكما طعام } إلى قوله: { ذلكما مما علمني ربي } فالظن على هذا بمعنى اليقين كقوله:
{ { الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم } [البقرة: 46] أما الضمير في قوله: { فأنساه الشيطان } فمن الناس من قال: إنه يعود إلى الرجل الناجي أي أنساه الشيطان ذكر يوسف لسيده أو عند سيده فإضافة الذكر إلى الرب للملابسة لا لأجل أنه فاعل أو مفعول، أو المضاف محذوف تقديره فأنساه ذكر إخبار ربه وإسناد الإنساء إلى الشيطان مجاز لأن الإنساء عبارة عن إزالة العلم عن القلب والشيطان قدرة له على ذلك وإلا لأزال معرفة الله من قلوب بني آدم، وإنما فعله إلقاء الوسوسة وأخطار الهواجس التي هي من أسباب النسيان. ومنهم من قال: الضمير راجع إلى يوسف، والمراد بالرب هو الله تعالى أي الشيطان أنسى يوسف أن يذكر الله تعالى، وعلى القولين عوتب باللبث في السجن بضع سنين. والبضع ما بين الثلاثة إلى العشرة لأنه القطعة من العدد والبضع القطع ومثله العضب. والأكثرون على أن المراد في الآية سبع سنين. وعن ابن عباس: كان قد لبث خمس سنين وقد اقترب خروجه، فلما تضرع إلى ذلك الرجل لبث بعد ذلك سبع سنين. وعن النبي صلى الله عليه وسلم: " رحم الله يوسف لو لم يقل اذكرني عند ربك ما لبث في السجن" وعن مالك أنه لما قال له اذكرني عند ربك قيل له: يا يوسف اتخذت من دوني وكيلاً، لأطيلن حبسك. فبكى يوسف وقال: طول البلاء أنساني ذكر المولى فويل لإخوتي. قال المحققون: الاستعانة بغير الله في دفع الظلم جائزة. فقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يأخذه النوم ليلة من الليالي وكان يطلب من يحرسه حتى جاء سعد بن أبي وقاص فنام. وقال تعالى حكاية عن عيسى عليه السلام: { { من أنصاري إلى الله } [الصف: 14] ولا خلاف في جواز الاستعانة بالكفار في دفع الظلم والغرق والحرق إلا أن يوسف عليه السلام عوتب على قوله: { اذكرني عند ربك } لوجوه منها: أنه لم يقتد بالخليل جده حين وضع في المنجنيق فلقيه جبرائيل في الهواء وقال: هل من حاجة؟ فقال: أما إليك فلا مع أنه زعم أنه اتبع ملة آبائه. ومنها أنه قال: { ما كان لنا أن نشرك بالله من شيء } وهذا يقتضي نفي الشرك على الإطلاق وتفويض الأمر بالكلية إلى الله سبحانه. فقوله: { اذكرني عند ربك } كالمناقض لهذا الكلام. ومنها أنه قال: { عند ربك } ومعاذ الله أنه زعم أنه الرب بمعنى الإله إلا أن إطلاق هذا اللفظ على الله لا يليق بمثله وإن كان رب الدار ورب الغلام متسعملاً في كلامهم. ومنها أنه لم يقرن بكلامه إن شاء الله، ولما دنا فرج يوسف أرى الله الملك في المنام سبع بقرات سمان خرجن من نهر يابس وسبع بقرات عجاف فابتلعت العجاف السمان، ورأى سبع سنبلات خضر قد انعقد حبها وسبعاً أخر يابسات قد استحصدت وأدركت فالتوت اليابسات على الخضر حتى غلبن عليها، فاضطرب الملك بسببه لأن فطرته قد شهدت بأن استيلاء الضعيف على القوي ينذر بنوع من أنواع الشر إلا أنه لم يعرف تفصيله، والشيء إذا علم من بعض الوجوه عظم الشوق إلى تكميل تلك المعرفة ولا سيما إذا كان صاحبه ذا قدرة وتمكين، فبهذا الطريق أمر الملك بجمع الكهنة والمعبرين وقال: { يا أيها الملأ أفتوني في رؤياي } ثم إنه تعالى إذا أراد أمراً هيأ أسبابه فأعجز الله أولئك الملأ عن جواب المسألة وعماه عليهم حتى { قالوا } إنها { أضغاث أحلام } ونفوا عن أنفسهم كونهم عالمين بتأويلها. واعلم أن الله سبحانه خلق جوهر النفس الناطقة بحيث يمكنها الصعود إلى عالم الأفلاك ومطالعة اللوح المحفوظ إلا أن المانع لها عن ذلك في اليقظة هو اشتغالها بتدبير البدن وبما يرد عليها من طريق الحواس،وفي وقت النوم تقل تلك الشواغل فتقوى النفس على تلك المطالعة،فإذا وقفت الروح على حالة من تلك الأحوال فإن بقيت في الخيال كما شوهدت لم يحتج إلى التأويل، وإن نزلت آثار مخصوصة مناسبة لذلك الإدراك الروحاني إل عالم الخيال فهناك يفتقر إلى المعبر. ثم منها ما هي منتسقة منتظمة يسهل على المعبر الانتقال من تلك المتخيلات إلى الحقائق الروحانيات، ومنها ما تكون مختلطة مضطربة لا يضبط تحليلها وتركيبها لتشويش وقع في ترتيبها وتأليفها فهي المسماة بالأضغاث. وبالحقيقة، الأضغاث ما يكون مبدؤها تشويش القوة المتخيلة لفساد وقع في القوى البدنية، أو لورود أمر غريب عليه من خارج، لكن القسم المذكور قد يعد من الأضغاث من حيث إنها أعيت المعبرين عن تأويلها.
ولنشتغل بتفسير الألفاظ، أما الملك فريان بن الوليد ملك مصر، وقوله: { إني أرى } حكاية حال ماضية. وسمان جمع سمينة وسمين وسمينة يجمع على سمان كما يقال: رجال كرام ونسوة كرام قال النحويون: إذا وصف المميز فالأولى أن يوقع الوصف وصفاً للمميز كما في الآية دون العدد، لأنه ليس بمقصود بالذات فلهذا قيل سمان بالجر ليكون وصفاً لبقرات، ويحصل التمييز لسبع بنوع من البقرات وهي السمان منهن، ولو نصب جعل تمييز السبع بجنس البقرات أولاً ثم يعلم من الوصف أن المميز بالجنس موصوف بالسمن. والعجف هو الهزال الذل الذي ليس بعده هزال، والنعت أعجف وعجفاء وهما لا يجمعان على فعال ولكنه حمل على سمان لأنه نقيضه. وقوله سبع عجاف تقديره بقرات سبع عجاف فحذف للعلم به كما في قوله: { وأخر يابسات } التقدير وسبعاً أخر لانصباب المعنى إلى هذا العدد. وإنما لم يقال سبع عجاف على الإضافة لأن البيان لا يقع بالوصف وحده. وقولهم "ثلاثة فرسان" و "خمسة أصحاب" لأنه وصف جرى مجرى الاسم، ولا يجوز أن يكون قوله { وأخر } مجروراً عطفاً على { سنبلات } لأن لفظ الأخر يأباه ويبطل مقابلة السبع بالسبع، وأراد بالملأ الأعيان من العلماء والحكماء، واللام في { للرؤيا } للبيان كما قلنا في
{ وكانوا فيه من الزاهدين } [يوسف: 20] أو لأن عمل العامل فيما تقدم عليه يضعف فيعضد باللام كما يعضد اسم الفاعل بها وإن تأخر معموله، أو لأن قوله: { للرؤيا } خبر "كان" كقوله هو لهذا الأمر أي متمكن مهن مستقل به و{ تعبرون } خبر آخر أو حال أو لتضمن { تعبرون } معنى تنتدبون لعبارة الرؤيا والفصيح عبرت الرؤيا بالتخفيف، وقد يشدد واشتقاقه من العبر بالكسر فالسكون وهو جانب النهر فيقال: عبرت النهر إذا قطعته حتى تبلغ آخر عرضه، وعبرت الرؤيا إذا تأملت ناحيتها فانتقلت من أحد الطرفين إلى الآخر. والأضغاث جمع ضغث وهو الحزمة من أنواع النبت والحشيش مما طال ولم يقم على ساق، والإضافة بمعنى من أي أضغاث من أحلام والصيغة للجمع ولكن الواحد قد يوصف به كما قال: رمح أقصاد وبرمة أعشار. فالمراد هي حلم أضغاث أحلام. وقد يطلق الجمع ويراد به الواحد كقولهم "فلان يركب الخيل ويلبس العمائم" وإن لم يركب إلا فرساً واحداً ولم يلبس إلا عمامة واحدة. ويجوز أن يكون قد قص عليهم أحلاماً أخر. واللام في { الأحلام } اما للعهد كأنهم أرادوا المنامات الباطلة، أو للجنس وأرادوا أنهم غير متبحرين في علم تأويل الرؤيا. ولما أعضل على الملأ تأويل رؤيا الملك تذكر الناجي يوسف وتأويله رؤياه ورؤيا صاحبه المصلوب، وتذكر قوله: { اذكرني عند ربك } وذلك قوله سبحانه: { واذكر } وأصله "اذتكر" قلبت التاء والذال كلاهما دالاً مهملة وأدغمت. { بعد أمة } أي بعد حين كأنها حصلت من اجتماع أيام كثيرة. وقرىء بكسر الهمزة وهي النعمة أي بعد ما أنعم عليه بالنجاة. وقرىء { بعد أمه } بوزن عمه. ومعنى { أنا أنبئكم بتأويله } أخبركم به عمن عنده علمه { فأرسلون } إليه لأسلأله والخطاب للملك والجمع للتعظيم أو له وللملأ حوله. والمعنى مروني باستعباره. وعن ابن عباس: لم يكن السجن في المدينة. وههنا إضمار والمراد فأرسلوه إلى يوسف فأتاه فقال { يوسف } أي يا يوسف { أيها الصديق } البليغ الكامل في الصدق وصفه بهذه الصفة لأنه تعرف أحواله من قبل. وفيه أنه يجب على المتعلم تقديم ما يفيد المدح لمعلمه. وإنما أعاد عبارة الملك بعينها لأن التعبير يختلف باختلاف العبارات. وقوله: { لعلي أرجع } فيه نوع من حسن الأدب لأنه لم يقطع بأنه يعيش إلى أن يعود إليهم، وعلى تقدير أن يعيش فربما عرض له ما يمنعه عن الوصول إليهم من الموانع التي لا تحصى كثرة. وكذا في قوله: { لعلهم يعلمون } فضلك ومكانك من العلم فيخلصوك أو يعلمون فتواك فيكون فيه نوع شك لأنه رأى عجز سائر المعبرين وقيل: كرر لعل مراعاة لفواصل الآي وإلا كان مقتضى النسق لعلي أرجع إلى الناس فيعلموا، و مثله في هذه السورة { لعلهم يعرفونها إذا انقلبوا إلى أهلهم لعلهم يرجعون } [يوسف: 62].
{ قال } يوسف في جواب الفتوى { تزرعون سبع سنين } وهو خبر في معنى الأمر يفيد المبالغة في إيجاب أيجاد المأمور به. قال في الكشاف: والدليل على كونه في معنى الأمر قوله: { فذروه في سنبله } وأقول: يمكن أن يكون قوله: { تزرعون } إخباراً عما سيوجد منهم في زمن الغيث والمطر، لأن الزرع يلزم بنزول الأمطار عادة، وقوله: { فما حصدتم } إرشاد لهم إلى الأصلح لهم في ذلك الوقت. و{ دأباً } بتسكين الهمزة وتحريكها مصدر دأب في العمل إذا استمر عليه. وانتصابه على الحال أي تزرعون ذوي دأب، أو على المصدر والعامل فعله أي تدأبون دأباً. وإنما أمرهم بأن يتركوه في السنابل إلا القدر الذي يأكلونه في الحال لئلا يقع فيه السوس { ثم يأتي من بعد ذلك } فيه دليل على أن { تزرعون } إخبار لا أمر { سبع } سنين { شداد } على الناس { يأكلن ما قدمتم لهن } من الإسناد المجازي لأن الآكلين أهل تلك السنين لا السنون { إلا قليلاً مما تحصنون } تحرزون وتخبؤن. والإحصان جعل الشيء في الحصن كالإحراز جعل الشيء في الحرز أخبر أنه يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس من الغوث، أو من الغيث يقال: غيثت البلاد إذا مطرت { وفيه يعصرون } العنب والزيتون والسمسم. وقيل: يحلبون الضروع، تأويل البقرات السمان والسنبلات الخضر بسنين مخاصيب والعجاف واليابسات بالسنين. ثم بشرهم بالبركة في العام الثامن. فقال المفسرون: إنه قد عرف ذلك بالوحي. عن قتادة: زاده الله علم سنة. وقيل: عرف استدلالاً فليس بعد انتهاء الجدب، إلا الخصب. والجواب أنه لا يلزم من انتهاء الجدب الخصب والخير الكثير فقد يكون توسط الحال. وأيضاً في قوله: { وفيه يعصرون } نوع تفصيل لا يعرف إلا بالوحي. ولما رجع الشرابي إلى الملك وعرض عليه التعبير استحسنه وقال: { ائتوني به } فجعل الله سبحانه علمه مبدأ لخلاصه من المحنة الدنيوية فيعلم منه أن العلم سبب للخلاص في المحن الأخروية أيضاً. { فلما جاءه الرسول } وهو الشرابي فقال: أجب الملك { قال } يوسف { ارجع إلى ربك فاسأله ما بال النسوة اللاتي قطعن أيديهن } ما شأنهن وما حالهن { إن ربي } أي الله العالم بخفيات الأمور أو العزيز الذي رباه { بكيدهن عليم } وعلى الأول أراد إنه كيد عظيم لا يعلمه إلا الله لعبد غوره، أو استشهد بعلم الله على أنهن كذبة، أو أراد الوعيد أي هو عليم بكيدهن فيجازيهن عليه. وكيدهن ترغيبهن إياه في مواقعة سيدته أو تقبيح صورته عند العزيز حتى يرضى بسجنه. ومن لطائف الآية أنه أراد فسأل الملك أن يسأل ما بالهن إلا أنه راعى الأدب فاقتصر على سؤال الملك عن كيفية الواقعة فإن ذلك مما يهيجه على البحث والتفتيش. ومنها أنه لم يذكر سيدته بسوء بل ذكر النسوة على التعميم ومع ذلك راعى جانبهن أيضاً فوصفهن بتقطيع الأيدي فقط لا بالترغيب في الخيانة. عن النبي صلى الله عليه وسلم:
"لقد عجبت من يوسف وكرمه وصبره والله يغفر له حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ولو كنت مكانه ما أخبرتهم حتى أشترط أن يخرجوني. ولقد عجبت منه حين أتاه الرسول فقال ارجع إلى ربك ولو كنت مكانه ولبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة وبادرتهم الباب ولما ابتغيت العذر إن كان لحليماً ذا أناة" قال العلماء: الذي عمله يوسف هو اللائق بالحزم والعقل، لأنه لو خرج في الحال فربما بقي في قلب الملك من تلك التهمة أثر، ولعل الحساد يتسلقون بذلك إلى تقبيح أمره عنده، وفي هذا التأني والتثبت تلاف لما صدر منه في قوله للشرابي: { اذكرني عند ربك }. { قال } الملك بعد إحضار النسوة { ما خطبكن } ما شأنكن العظيم { إذ راودتن يوسف } هل وجدتن منه ميلاً إليكن أو إلى زليخا؟ قيل: الخطاب لزليخا والجمع للتعظيم. وقيل: خاطبهن جميعاً لأن كل واحدة منهن راودت يوسف لنفسها أو لأجل امرأة العزيز. { قلن حاش لله } تعجباً من عفته ونزاهته { قالت امرأت العزيز } حين عرفت أن لا بد من الاعتراف { الآن حصحص الحق } وضح وانكشف وتمكن في القلوب من قولهم حصحص البعير إذا ألقى ثفناته للإناخة والاستقرار على الأرض. وقال الزجاج: اشتقاقه من الحصة أي بانت حصة الحق من حصة الباطل. أما قوله سبحانه: { ذلك ليعلم } إلى تمام الآيتين ففيه قولان: الأول - وعليه الأكثرون - أنه حكاية قول يوسف. قال الفراء: ولا يبعد وصل كلام إنسان بكلام إنسان آخر إذا دلت القرينة الصارفة لكل منهما إلى ما يليق به. والإشارة إلى الحداثة الحاضرة بقوله: { ذلك } لأجل التعظيم والمراد ما ذكر من رد الرسول والتثبت وإظهار البراءة. وعن ابن عباس: أنه لما دخل على الملك قال ذلك، والأظهر أنه قال ذلك في السجن عند عود الرسول إليه. ومحل { بالغيب } نصب على الحال من الفاعل أي وأنا غائب عنه، أو من المفعول أي وهو غائب عني، أو على الظرف أي بمكان الغيب وهو الاستتار وراء الأبواب المغلقة. وقيل: هذه الخيانة قد وقعت في حق العزيز فكيف قال ذلك ليعلم الملك؟ وأجيب بأنه إذا خان وزيره فقد خان الملك من بعض الوجوه، أو أراد ليعلم الله لأن المعصية خيانة، أو المراد ليعلم الملك أني لم أخن العزيز، أو ليعلم العزيز أني لم أخنه وليعلم أن الله لا يهدي كيد الخائنين لا ينفذه ولا يسدده، وفي تعريض بامرأته الخائنة وبالعزيز حين ساعدها بعد ظهور الآيات على حبسه فكأنه خان حكم لله، وفيه تأكيد لأمانته وأنه لو كان خائناً لم يهد الله كيده. ولا يخفى أن هذه الكلمات من يوسف مع الشهادة الجازمة والاعتراف الصريح من المرأة دليل على نزاهة يوسف عليه السلام من كل سوء. قال أهل التحقيق: إنه لما راعى حرمة سيدته في قوله: { ما بال النسوة اللاتي } دون أن يقول "ما بال زليخا" أرادت أن تكافئه على هذا الفعل الحسن فلا جرم أزالت الغطاء واعترفت بأن الذنب كله منها، فنظيره ما يحكى أن امرأة جاءت بزوجها إلى القاضي وادعت عليه المهر فأمر القاضي بأن يكشف عن وجهها حتى يتمكن الشهود من أداء الشهادة. فقال الزوج: لا حاجة إلى ذلك فإني مقر بصدقها في دعواها. فقالت المرأة: لما أكرمني إلى هذا الحد فاشهدوا أني أبرأت ذمته من كل حق لي عليه. ولما كان قول يوسف عليه السلام ذلك ليعلم جارياً مجرى تزكية النفس على الإطلاق أو في هذه الواقعة وقد قال تعالى: { فلا تزكوا أنفسكم } [النجم: 32] أتبع ذلك قوله: { وما أبرىء نفسي إن النفس } أي هذا الجنس { لأمارة بالسوء } ميالة إلى القبائح راغبة في المعاصي. وفيه أن ترك تلك الخيانة ما كان حظ النفس وشربها ولكن كان بتوفيق الله تعالى وتسهيله وصرفه { إلا ما رحم ربي } إلا البعض الذي رحمه ربي بالعصمة كالملائكة، أو المراد أنها أمارة بالسوء في كل وقت وأوان إلا وقت رحمة ربي، أو الاستثناء منقطع أي ولكن رحمة ربي هي التي تصرف الإساءة: القول الثاني أنه حكاية قول المرأة لأن يوسف عليه السلام ما كان حاضراً في ذلك المجلس والمعنى، وإن كنت أحلت عليه الذنب عند حضوره ولكني ما أحلته عليه في غيبته حين كان في السجن { وأن الله لا يهدي } فيه تعريض فأنها لما أقدمت على المكر فلا جرم افتضحت، وأنه لما كان بريئاً من الذنب لا جرم طهره الله منه { وما أبرىء نفسي } من الخيانة مطلقاً فإني قد خنته حين قلت { ما جزاء من أراد بأهلك سوءاً } أو حين أودعته السجن. ثم إنها اعتذرت عما كان منها فقالت: { إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي } كنفس يوسف { إن ربي غفور رحيم } أو استغفرت ربها واسترحمته مما ارتكبت. قال المحققون. النفس الإنسانية شيء واحد فإذا مالت إلى العالم العلوي كانت مطمئنة، وإذا مالت إلى العالم السفلي وإلى الشهوة والغضب سميت أمارة وهذا في أغلب أحوالها لإلفها إلى العالم الحسي وقرارها فيه فلا جرم إذا خليت وطباعها انجذبت إلى هذه الحالة فلهذا قيل: إنها من حيث هي أمارة بالسوء. وإذا كانت منجذبة مرة إلى العالم العلوي ومرة إلى العالم السفلي سميت لوامة. ومنهم من زعم أن النفس المطمئنة هي الناطقة العلوية، والنفس الأمارة منطبعة في البدن تحمله على الشهوة والغضب وسائر الأخلاق الرذيلة. وتمسكت الأشاعرة بقوله: { إلا ما رحم } ظاهراً لأنه دل على أن صرف النفس عن السوء بخلق الله وتكوينه. وحملته المعتزلة على منح الألطاف والله أعلم بالحقائق.
التأويل: لما أدخل يوسف القلب سجن الشريعة دخل معه غلامان لملك الروح هما النفس والبدن، فإن الروح العلوي لا يعمل عملاً في السفل الدنيوي إلا من مشرب النفس فهي صاحب شرابه. والبدن يهيء من الأعمال الصالحة ما يصلح لغذاء الروح، فإن الروح لا يبقى إلا بغذاء روحاني كما أن الجسم لا يبقى إلا بغذاء جسماني. وإنما حبسا في سجن الشريعة لأنهما متهمان بجعل سم الهوى والمعصية في شراب ملك الروح وطعامه، وفي رؤياهما دلالة على أنهما من الدنيا، وأهل الدنيا نيام فإذا ماتوا انتبهوا { إنا نراك من المحسنين } الذين يعبدون الله عياناً وشهوداً { إني تركت ملة قوم } فيه إشارة إلى أن القلب مهما ترك ملة النفس والهوى والطبيعة علمه الله علم الحقيقة { أما أحدكما فيسقي ربه } أي سيده بأقداح المعاملات والمجاهدات شراب الكشوف والمشاهدات وهي باقية في خدمة ملك الروح أبداً { وأما الآخر } وهو البدن { فيصلب } بنخيل الموت { فيأكل } طير أعوان ملك الموت من رأسه الخيالات الفاسدة { قضي } في الأزل هذا { الأمر } { اذكرني عند ربك } يعني أن القلب المسجون في بدء أمره يلهم النفس بأن تذكره المعاملات المستحسنة الشرعية عند الروح ليتقوى بها الروح وينتبه عن نوم الغفلة الناشئة من الحواس الخمس ويسعى في استخلاص القلب عن أثر الصفات البشرية بالمعاملات الروحانية مستمداً من الألطاف الربانية. ثم إن الشيطان بوساوسه محا عن النفس أثر إلهامات القلب، أو الشيطان أنسى القلب ذكر الله حين استغاث النفس لتذكره عند الروح، ولو استغاث بالله لخلصه في الحال { فلبث في السجن بضع سنين } إشارة إلى الصفات البشرية السبع التي بها القلب محبوس وهي: الحرص والبخل والشهوة والحسد والعداوة والغضب والكبر { إني أرى سبع بقرات سمان } هن الصفات المذكورة { يأكلهن سبع عجاف } هن أضدادها وهي: القناعة والسخاوة والعفة والغبطة والشفقة والحلم والتواضع { يا أيها الملأ } يعني الأعضاء والجوارح والحواس والقوى { أفتوني } فيما رأيت في غيب الملكوت { وما نحن بتأويل الأحلام } أي ليس التصرف في الملكوت وشواهدها من شأننا { فأرسلون } فيه أن النفس إذا أرادت أن تعلم شيئاً مما يجري في الملكوت ترجع بقوة التفكر إلى القلب فتستخبر عنه، فالقلب ترجمان بين الروحانيات ولانفس فيما يفهم من لسان الغيب { أيها الصديق } لأنه مصدق فيما يرى من شواهد الحق، ويصدق فيما يروي للخلق
{ ما كذب الفؤاد ما رأى } [النجم: 11] "حدثني قلبي عن ربي" قال في الكشاف: أرجع إلى الناس أي إلى الأجزاء الإنسانية { تزرعون سبع سنين } إشارة إلى تربية الصفات البشرية السبع بالعادة والطبيعة في أوان الطفولية { فذروه في سنبله } أي ما حصلتم من هذه الصفات فذروه في أماكنه ولا تستعملوه { إلا قليلاً } مما تعيشون به إلى أوان البلوغ وظهور نور العقل في مصباح السر في زجاجة القلب كأنه كوكب دري. ثم إذا أيد نور العقل بأنوار تكاليف الشرع وشرف بإلهام الحق في إظهار فجور النفس وتقواها فيزكيها عن هذه الصفات ويجليها بالصفات الروحانية السبع، فكأن السبع العجاف أكلن السبع السمان. وإنما سمى ما هو من عالم الأرواح عجافاً للطافتها، وما هو من عالم الأجسام سماناً لكثافتها كثيراً إلا قليلاً مما يحسن به الإنسان حياة قالبه { ثم يأتي من بعد ذلك عام } أي بعد غلبات الصفات الروحانية واضمحلال الصفات البشرية يظهر مقام فيه يتدارك السالك جذبات العناية، وفي يبرأ العبد من معاملاته وينجو من حبس وجوده وحجب أنانيته. ولما أخبر القلب بنور الله رآه الروح في عالم الملكوت وتأوله استحق قرب الروح وصحبته فاستدعى حضوره على لسان رسول النفس فرده إليه وقال سله { ما بال النسوة } لأن الأوصاف الإنسانية لما رأين جمال القلب المنور بنور الله { قطعن أيديهن } من ملاذ الدنيا وشهواتها وآثرن السعادة الأخروية على الشهوات الفانية { ليعلم أني لم أخنه بالغيب } أي القلب المنظور بنظر العناية لما غاب عن حضرة الروح لاشتغاله بتربية النفس والقالب ما خانه بالالتفات إلى الدنيا ونعيمها { وأن الله لا يهدي كيد الخائنين } الذين يبيعون الدين بالدنيا. ثم قال إظهاراً للعجز عن نفسه وللفضل من ربه { وما أبرىء نفسي إن النفس } جبلت على الأمارية، ولكن إذا رحمها ربها يقلبها ويغيرها فإذا تنفس صبح الهداية صارت لوامة نادمة على فعلها، والندم توبة وإذا طلعت شمس العناية وصارت ملهمة { فألهمها فجورها وتقواها } [الشمس: 8] وإذا بلغت شمس العناية وسط سماء الهداية أشرقت الأرض بنور ربها وصارت النفس مطمئنة مستعدة لجذبة { ارجعي إلى ربك راضية مرضية } [الفجر: 28] { إن ربي غفور } لنفس تابت ورجعت إليه { رحيم } لمن أحسن طاعته وعبادته والله حسبنا ونعم الوكيل.