التفاسير

< >
عرض

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ
٨
يُخَادِعُونَ ٱللَّهَ وَٱلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ
٩
فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ ٱللَّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ
١٠
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي ٱلأَرْضِ قَالُوۤاْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ
١١
أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلْمُفْسِدُونَ وَلَـٰكِن لاَّ يَشْعُرُونَ
١٢
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ ٱلنَّاسُ قَالُوۤاْ أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ ٱلسُّفَهَآءُ أَلاۤ إِنَّهُمْ هُمُ ٱلسُّفَهَآءُ وَلَـٰكِن لاَّ يَعْلَمُونَ
١٣
وَإِذَا لَقُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ قَالُوۤا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوۤاْ إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِءُونَ
١٤
ٱللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلضَّلَـٰلَةَ بِٱلْهُدَىٰ فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ
١٦
-البقرة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: و "من الناس" ممالة. قرأ قتيبة ونصير في القرآن ما كان مكسوراً. "من يقول" مدغمة النون والتنوين في الياء حيث وقعت: حمزة وعلي وخلف وورش من طريق النجاري. "بمؤمنين" غير مهموز: أبو عمرو وغير شجاع ويزيد والأعشى وورش وحمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها من الأسماء. "وما يخادعون": أبو عمرو وابن كثير ونافع. "فزادهم الله" وبابه مما كان ماضياً بالإمالة: حمزة ونصير وابن ذكوان من طريق مجاهد والنقاش بن الأخرم ههنا بالإمالة فقط. "يكذبون" خفيفاً: عاصم وحمزة وعلي وخلف. قيل { وغيض } { وجيء } بالإشمام: علي وهشام ورويس. "السفهاء ألا" بهمزتين: عاصم وحمزة وعلي وخلف وابن عامر. "السفهاء ولا" بقلب الثانية واواً: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وأبو جعفر ونافع. "السفهاء وألا" بقلب الأولى واواً. روى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة: وكذلك ما أشبهها مما اختلف الهمزتان فيها إلا أن تكون الأولى منهما مفتوحة مثل { شهداء إذ } { وجاء إخوة } وأشباه ذلك. "مستهزءون" بترك الهمزة في الحالين: يزيد وافق حمزة في الوقف وكذلك ما أشبهها، وعن حمزة في الوقف وجهان: الحذف والتليين شبه الياء والواو. "طغيانهم" حيث كان بالإمالة: قتيبة ونصير وأبو عمرو. "بالهدى" وما أشبهها من الأسماء والأفعال من ذوات الياء بالإمالة: حمزة وعلي وخلف. وقرأ أهل المدينة بين الفتح والكسر وإلى الفتح أقرب، وكذلك كل كلمة تجوز الإمالة فيها وذلك طبعهم وعادتهم.
الوقوف: "بمؤمنين" (م) لما مر في المقدمة الثامنة: "آمنوا" (ج) لعطف الجملتين المتفقتين مع ابتداء النفي. "يشعرون" (ط) للآية وانقطاع النظم والمعنى، فإن تعلق الجار بما بعده. "مرض" (لا) لأن الفاء للجزاء وكان تأكيداً لما في قلوبهم. "مرضاً" (ج) لعطف الجملتين المختلفتين. "يكذبون" (ه) في "الأرض" (لا) لأن "قالوا" جواب "إذا" وعامله. "مصلحون" (ه) "لا يشعرون" (ه) "كما آمن السفهاء" (ط) للابتداء بكلمة التنبيه، ومن وصل فليعجل رد السفه عليهم "لا يعلمون" (5) "آمنا" (ج) لتبدل وجه الكلام معنى مع أن الوصل أولى لبيان حالتيهم المتناقضتين وهو المقصود "شياطينهم" (لا) لأن "قالوا" جواب "إذاً"معكم" (لا) تحرزاً عن قول ما لا يقوله مسلم، وإن جاز الابتداء بإنما. "مستهزءون" (ه) "يعمهون" (ه) "بالهدى" (ص) لانقطاع النفس ولا يلزم العود لأن ما بعده بدون ما قبله مفهوم "مهتدين" التفسير: وفيه مباحث:
المبحث الأول: في قوله تعالى { ومن الناس من يقول } الآية. وفيه مسائل:
الأولى: عن مجاهد قال: أربع آيات من أول هذه السورة نزلت في المؤمنين، وآيتان بعدها نزلتا في الكافرين، وثلاث عشرة بعدها نزلت في المنافقين. فأقول: أحوال القلب أربع: الاعتقاد المطابق عن الدليل وهو العلم، والاعتقاد المطابق لا عن الدليل وهو اعتقاد المقلد المحق، والاعتقاد غير المطابق وهو الجهل، وخلو القلب عن كل ذلك. وأحوال اللسان ثلاث: الإقرار والإنكار والسكوت. كل منها بالاختيار أو بالاضطرار، فيحصل من التراكيب أربعة وعشرون قسماً فلنتكلم في الأحوال القلبية ونجعل البواقي تبعاً لها في الذكر. (النوع الأول): العرفان القلبي إن انضم إليه الإقرار باللسان اختياراً فصاحبه مؤمن حقاً بالاتفاق، أو اضطراراً فهو منافق، لأنه لولا الخوف لما أقرّ، فهو بقلبه منكر مكذب وجوب الإقرار. وإن انضم إليه الإنكار اضطراراً فهو مسلم لقوله تعالى
{ إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان } [النحل: 106] أو اختياراً فهو كافر معاند. وإن انضم إليه السكوت اضطراراً فمسلم حقاً لأنه خاف، أو كما عرف مات فجأة فيكون معذوراً أو اختياراً فمسلم أيضاً عند الغزالي وعند كثير من الأئمة لقوله صلى الله عليه وسلم "يخرج من النار من كان في قلبه مثقال ذرة من الإيمان" . (النوع الثاني) الاعتقاد التقليدي إن وجد معه الإقرار اختياراً فهو المسألة المشهورة من أن المقلد مؤمن أم لا، والأكثرون على إيمانه. أو اضطراراً فمنافق بالطريق الأولى كما مر في النوع الأول. وإن وجد معه الإنكار اختياراً فلا شك في كفره، أو اضطراراً فمسلم عند من يحكم بإيمان المقلد. وإن وجد معه السكوت اضطراراً فمسلم بناء على إسلام المقلد، أو ا اختياراً فكافر معاند. (النوع الثالث): الإنكار القلبي مع الإقرار اللساني إن كان اضطراراً نفاق، وكذا اختياراً لأنه أظهر خلاف ما أضمر. ومع الإنكار اللساني كفر كيف كان، وكذا مع السكوت. (النوع الرابع): القلب الخالي عن جميع الاعتقادات مع الإقرار اللساني إن كان اختياراً، فإن كان صاحبه في مهلة النظر لم يلزمه الكفر لكنه فعل ما لا يجوز له حيث أخبر عما لا يدري أنه هل هو صادق فيه أم لا. وإن كان لا في مهلة النظر ففيه نظر، أما إذا كان اضطرارياً فلا يكفر صاحبه لأن توقفه إذا كان في مهلة النظر وكان يخاف على نفسه من ترك الإقرار لم يكن عمله قبيحاً. والقلب الخالي مع الإنكار اللساني كيف كان نفاق، والقلب الخالي مع اللسان الخالي إن كان في مهلة النظر فذلك هو الواجب، وإن كان خارجاً عن مهلة النظر وجب تكفيره ولا نفاق. فظهر من التقسيم أن المنافق هو الذي لا يطابق ظاهره باطنه سواء كان في باطنه ما يضاد ظاهره أو كان باطنه خالياً عما يشعر به ظاهره، ومنه "النافقاء إحدى حجرة اليربوع يكتمها ويظهر غيرها" فإذا أتى من قبل القاصعاء ضرب النافقاء برأسه فانتفق أي خرج.
الثانية: زعم قوم أن الكفر الأصلي أقبح من النفاق، لأن الكافر جاهل بالقلب كاذب باللسان، والمنافق جاهل بالقلب صادق باللسان. وقال الآخرون: المنافق أيضاً كاذب باللسان لأنه يخبر عن كونه على ذلك الاعتقاد مع أنه ليس عليه. قال عز من قائل:
{ والله يشهد إن المنافقين لكاذبون } [المنافقون: 1] وأيضاً إنه قصد التلبيس والكافر الأصلي لا يقصد ذلك. وأيضاً الكافر الأصلي على طبع الرجال، والمنافق على طبيعة الخنائي. وأيضاً الكافر ما رضي لنفسه بالكذب بل استنكف منه، والمنافق رضي بالكذب. وأيضاً المنافق ضم إلى الكفر الاستهزاء والخداع دون الكافر الأصلي، ولغلظ كفر المنافقين قال الله تعالى: { إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار } [النساء: 145] ووصف حال الكفار في آيتين وحال المنافقين في ثلاث عشرة آية، نعى عليهم فيها خبثهم ونكرهم وفضحهم وسفههم واستجهلهم واستهزأ بهم وتهكم بفعلهم وسجل بطغيانهم وعمههم ودعاهم صماً بكماً عمياً وضرب لهم الأمثال الشنيعة.
الثالثة: قصة المنافقين عن آخرها معطوفة على قصة "الذين كفروا" كما تعطف الجملة على الجملة. وأصل ناس أناس بدليل إنسان وإنس وأناسي. حذفت الهمزة تخفيفاً، مع لام التعريف كاللازم. وقوله "إن المنايا يطلعن على الإناس الآمنينا" قليل. ونويس من المصغر الآتي على خلاف مكبره كأنيسيان. سموا بذلك لظهورهم وأنهم يؤنسون أي يبصرون كما سمي الجن لاجتنانهم. ووزن ناس فعال لأن الزنة على الأصول كما يقال وزن ق أفعل وهو اسم جمع كرخال للأنثى من أولاد الضأن. وأما الذي مفرده رخل بكسر الراء فرخال بكسر الراء. "ومن" في "من يقول" موصوفة إن جعلت اللام في الناس للجنس كقوله
{ من المؤمنين رجال } [الأحزاب: 23] ليكون معنى الكلام أن في جنس الإنس طائفة كيت وكيت، فيعود فائدة الكلام إلى الوصف. وإن لم يكن مفيداً من حيث الحمل لأن الطائفة الموصوفة تكون لا محالة من الناس، ولا يجوز أن تكون "من" موصولة حينئذ، لأن الصلة تكون جملة معلومة الانتساب إلى الموصول فتبطل فائدة الوصف، فيبقى الكلام غير مفيد رأساً. وإن جعلت اللام للعهد فمن تكون موصولة نحو { { ومنهم الذين يؤذون النبي } [التوبة: 61] وتكون اللام إشارة إلى الذين كفروا لما ذكرهم، ولا يجوز أن تكون "من" موصوفة إذ ذاك، لأن فائدة الكلام تعود إلى الوصف أيضاً، ولكن لا يجاوبه نظم الكلام إذ يصير المعنى أن من المختوم على قلوبهم طائفة يقولون كيت وكيت وما هم بمؤمنين. ومن البين أن مدلول قوله "وما هم بمؤمنين" معلوم من حال المطبوع على قلوبهم فيقع ذكره ضائعاً، والضمير العائد إلى "من" يكون موحداً تارة باعتبار اللفظ نحو { ومنهم من يستمع إليك وجعلنا على قلوبهم أكنة } [الأنعام: 25] ومجموعاً أخرى باعتبار المعنى مثل { ومنهم من يستمعون إليك } [يونس: 42] وقد اجتمع الاعتباران في الآية في "يقول" و "آمنا". وإنما اختص بالذكر الإيمان بالله والإيمان باليوم الآخر لأنهما قطرا الإيمان، ومن أحاط بهما فقد حاز الإيمان بحذافيره. وفي تكرير الباء إيذان بأنهم ادعوا كل واحد من الإيمانين على صفة الصحة والاستحكام. فإن قلت: إن كان هؤلاء المنافقون من المشركين فظاهر عدم إيمانهم بالله واليوم الآخر، وإن كانوا من اليهود فكيف يصح ذلك؟ قلت: إيمان اليهود بالله ليس بإيمان لقولهم "عزير ابن الله" وكذلك إيمانهم باليوم الآخر لأنهم يعتقدونه على خلاف صفته. فقولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق بل على عقيدتهم فهو كفر لا إيمان. فإذا قالوه على وجه النفاق خديعة واستهزاء وتخييلاً للمسلمين أنهم مثلهم في الإيمان الحقيقي كان خبثاً إلى خبث وكفراً إلى كفر. والمراد باليوم الآخر إما طرف الأبد الذي لا ينقطع لأنه متأخر عن الأوقات المنقضية، أو الوقت المحدود من النشور إلى أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، لأنه آخر الأوقات المحدودة التي لا حد للوقت بعده. فإن قلت: كيف طابق قوله "وما هم بمؤمنين" قولهم "آمنا" والأول في ذكر شأن الفعل لا الفاعل، والثاني بالعكس؟ قلت: لما أتوا بالجملة الفعلية ليكون معناها أحدثنا الدخول في الإيمان لتروج دعواهم الكاذبة، جيء بالجملة الأسمية ليفيد نفي ما انتحلوا إثباته لأنفسهم على سبيل ألبت والقطع وأنهم ليس لهم استئهال أن يكونوا طائفة من طوائف المؤمنين، فكان هذا أوكد وأبلغ من أن يقال: إنهم لم يؤمنوا. ونظير الآية قوله تعالى { يريدون أن يخرجوا من النار وما هم بخارجين منها } [البقرة: 167]. ثم إن قوله "وما هم بمؤمنين" يحتمل أن يكون مقيداً وترك لدلالة التقييد في "آمنا". ويحتمل الإطلاق أي أنهم ليسوا من الإيمان في شيء قط، لا من الإيمان بالله وباليوم الآخر ولا من الإيمان بغيرهما.
البحث الثاني: في قوله { يخادعون الله } إلى { يكذبون }.
أعلم أن الله ذكر من قبائح أفعال المنافقين أربعة أشياء: أحدها المخادعة وأصلها الإخفاء، ومنه سميت الخزانة المخدع. والأخدعان عرفان في العنق خفيان. وخدع الضب خدعاً إذا توارى في جحره فلم يظهر إلا قليلاً. والخديعة مذمومة لأنها إظهار ما يوهم السداد والسلامة وإبطان ما يقتضي الإضرار بالغير أو التخلص منه، فهي بمنزلة النفاق في الكفر والرياء في الأفعال الحسية. فإن قيل: مخادعة الله والمؤمنين لا تصح لأن العالم الذي لا يخفى عليه خافية لا يخدع، والحكيم الحليم الذي لا يفعل القبيح لا يخدع، والمؤمنين وإن جاز أن يخدعوا كما قال ذو الرمة:

تلك الفتاة التي علقتها عرضاً إن الحليم ذا الإسلام يختلب

لم يجز أن يخدعوا. قلنا: كانت صورة صنعهم مع الله - حيث يتظاهرون بالإيمان وهم كافرون - صورة صنع الخادعين، وصورة صنع الله معهم - حيث أمر بإجراء أحكام المسلمين عليهم وهم عنده أهل الدرك الأسفل من النار - صورة صنع الخادع، وكذلك صورة صنع المؤمنين معهم - حيث امتثلوا أمر الله فيهم فأجروا أحكامه عليهم. ويحتمل أن يكون ذلك ترجمة عن معتقدهم وظنهم أن الله ممن يصح خداعه، لأنه من كان ادعاؤه الإيمان بالله تعالى نفاقاً لم يكن عارفاً بالله ولا بصفاته، فلم يبعد من مثله تجويز أن يكون الله مخدوعاً ومصاباً بالمكروه من وجه خفي، أو تجويز أن يدلس على عباده ويخدعهم. ويحتمل أن يذكر الله ويراد الرسول لأنه خليفته والناطق بأوامره ونواهيه مع عباده { إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله } [الفتح: 10]. ويحتمل أن يكون من قولهم "أعجبني زيد وكرمه" فيكون المعنى يخادعون الذين آمنوا بالله، وفائدة هذه الطريقة قوة الاختصاص. ولما كان المؤمنون من الله بمكان سلك بهم هذا المسلك ومثله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } [التوبة: 62] { { إن الذين يؤذون الله ورسوله } [الأحزاب: 57] وقولهم "علمت زيداً فاضلاً" الغرض ذكر الإحاطة بفضل زيد، لأن زيداً كان معلوماً له قديماً كأنه قيل: علمت فضل زيد ولكن ذكره توطئة وتمهيداً. ووجه الاختصار بخادعت على واحد أن يقال: عني به فعلت إلا أنه أخرج في زنة "فاعلت" لأن الزنة في أصلها للمغالبة والمباراة، والفعل متى غولب فيه فاعله جاء أبلغ وأحكم منه إذا زاوله وحده من غير مغالب ولا مبار لزيادة قوة الداعي إليه. "ويخادعون" بيان ليقول، ويجوز أن يكون مستأنفاً كأن قيل: ولم يدعون الإيمان كاذبين؟ فقيل: يخادعون. وكان غرضهم من الخداع الدفع عن أنفسهم أحكام الكفار من القتل والنهب وتعظيم المسلمين إياهم وإعطائهم الحظوظ من المغانم واطلاعهم على أسرار المسلمين لاختلاطهم بهم. والسؤال الذي يذكر ههنا من أنه تعالى لم أبقى المنافق على حاله من النفاق ولم يظهر أمره حتى لا يصل من أغراض الخداع إلى ما وصل؟ وأرد على استبقاء الكفار وسائر أعداء الدين، بل على استبقاء إبليس وذريته وتنحل العقدة في الجميع بما سلف لنا من الحقائق ولا سيما في تفسير قوله تعالى { ختم الله على قلوبهم } [البقرة: 7] وقراءة من قرأ { وما يخادعون إلا أنفسهم } [البقرة: 9] أي وما يعاملون تلك المعاملة المضاهية لمعاملة المخادعين إلا أنفسهم، لأن مكرهاً يحيق بهم ودائرتها تدور عليهم لأن الله تعالى يدفع ضرر الخداع عن المؤمنين ويصرفه إليهم كقوله { إن المنافقين يخادعون الله وهو خادعهم } [النساء: 142] ويحتمل أن يراد حقيقة المخادعة لأنهم يخدعون أنفسهم حيث يمنونها الأباطيل، وأنفسهم أيضاً تمنيهم وتحدثهم بالأكاذيب. وأن يراد "وما يخدعون" فجيء به على لفظ يفاعلون للمبالغة. والنفس ذات الشيء وحقيقته ولا يختص بالأجسام لقوله تعالى { تعلم ما في نفسي } [المائدة: 116] والشعور علم الشيء علم حس ومشاعر الإنسان حواسه. والمعنى أن لحوق ضرر ذلك بهم كالمحسوس، وهم لتمادي غفلتهم كالذي لا حس له. والمرض حالة توجب وقوع الخلل في الأفعال الصادرة عن موضوعها، واستعمال المرض في القلب يجوز أن يكون حقيقة بأن يراد الألم كما تقول: في جوفه مرض. ومجازاً بأن يستعار لبعض أعراض القلب كسوء الاعتقاد والغل والحسد والميل إلى المعاصي، فإن صدورهم كانت تغلي على الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنين غلاً وحنقاً { { وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ } [آل عمران: 119] وناهيك بما كان من ابن أبي، وقول سعد بن عبادة لرسول له صلى الله عليه وسلم اعف عنه يا رسول الله واصفح، فوالله لقد أعطاك الله الذي أعطاك، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة أن يعصبوه بالعصابة - وذلك شيء منظوم بالجواهر شبه التاج - أي يجعلوه ملكاً، فلما رد الله ذلك بالحق الذي أعطاكه شرق بذلك. أو يراد ما يداخل قلوبهم من الضعف والخور لأنهم كانوا يطمعون أن ريح الإسلام تهب حيناً ثم تركد، فكانت تقوى قلوبهم بذلك الطمع. فلما شاهدوا شوكة المسلمين وإعلاء كلمة الحق وما قذف الله في قلوبهم من الرعب ضعفت جبناً وخوراً. ومعنى زيادة الله إياهم مرضاً أنه كلما أنزل على رسوله الوحي فكفروا به ازدادوا كفراً إلى كفرهم، فأسند الفعل إلى المسبب له كما أسند إلى السورة في قوله { فزادتهم رجساً إلى رجسهم } [التوبة: 125] وهذا كما قال الحكيم: البدن الغير النقي كلما فدوته زدته شراً. وكلما زاد رسوله نصرة وتبسطاً ازدادوا حسداً وبغضاً. ويحتمل أن يراد بزيادة المرض الطبع، ويحتمل أن يقال: الغل والحسد قد يفضي إلى تغير مزاج القلب ويؤدي إلى تلف صاحبه كقوله:

اصبر على مضض الحسو د فإن صبرك قاتله
النـــــــار تأكــــل نفســـــها إن لم تجد ما تأكلـه

فإفضاء صاحبه إلى الهلاك هو المعني بالزيادة. والأليم الوجيع. ووصف العذاب به على طريقة قولهم "جد جده" والألم بالحقيقة للمؤلم كما أن الجد للجاد. والمراد بكذبهم قولهم { آمنا بالله وباليوم الآخر }. وفي ترتب الوعيد على الكذب دليل على قبح الكذب وسماجته. وما يروى عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم أنه كذب ثلاث كذبات أحدها قوله { إني سقيم } [الصافات: 89] وثانيها قوله لسارة حين أراد أن يغصبها ظالم "إنها أختي" وثالثها قوله { بل فعله كبيرهم هذا } [الأنبياء: 63] فالمراد التعريض "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب" ولكن لما كانت صورته صورة الكذب سمي به. والكذب الإخبار بالشيء على خلاف ما هو به، وقد يعتبر فيه علم المخبر بكون المخبر عنه مخالفاً للخبر، والصدق نقيضه. وقراءة من قرأ "يكذبون" بالتشديد إما من كذبه الذي هو نقيض صدقه، وإما من كذب الذي هو مبالغة في كذب كما بولغ في صدق فقيل "صدق" نحو: بان الشيء وبين الشيء ومنه قوله:

قد بين الصبح لذي عينين

أو بمعنى الكثرة نحو "موتت البهائم"، أو من قولهم "كذب الوحشي إذا جرى شوطاً ثم وقف لينظر ما وراءه" لأن المنافق متوقف متردد في أمره مذبذب بين ذلك. وقال صلى الله عليه وسلم: "مثل المنافق كمثل الشاة العائرة بين الغنمين تعير إلى هذه مرة وإلى هذه مرة" وما في قوله "بما كانوا" مصدرية أي بكذبهم، وكان مقحمة لتفيد الثبوت والدوام أي بسبب أن هذا شأنهم وهجيراهم.
البحث الثالث: في قوله تعالى { وإذا قيل لهم لا تفسدو في الأرض } إلى قوله }ولكن لا يشعرون }.
هذا هو النوع الثاني من قبائح أفعال المنافقين. فقوله "وإذا قيل" إما معطوف على "كانوا يكذبون" أي ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون وبما كانوا إذا قيل لهم كذا قالوا كذا، وإما على "يقول" أي ومن الناس من إذا قيل له. ويحتمل أن يقال الواو للاستئناف، وإسناد "قيل" إلى "لا تفسدوا" و "آمنوا" ليس من إسناد الفعل إلى الفعل فإنه لا يصح، ولكنه إسناد إلى لفظ الفعل. أي وإذا قيل لهم هذا القول نحو: زعموا مطية الكذب. والقائل لهم إما النبي صلى الله عليه وسلم إذا بلغه عنهم النفاق ولم يقطع بذلك نصحهم فأجابوا بما يحقق إيمانهم وأنهم في الصلاح، وإما بعض من كانوا يلقون إليه الفساد كان لا يقبل منهم ويعظمهم، وإما بعض المؤمنين، ولا يجوز أن يكون القائل ممن لا يختص بالدين. والفساد خروج الشيء عن أن يكون منتفعاً به، ونقيضه الصلاح وهو الحصول على الحالة المستقيمة النافعة. عن ابن عباس والحسن وقتادة والسدي أن المراد بالإفساد المنهي عنه إظهار معصية الله تعالى، فإن الشرائع سنن موضوعة بين العباد، فإذا تمسك الخلق بها زال العدوان ولزم كل أحد شأنه، فحقنت الدماء وضبطت الأموال وحفظت الفروج وكان ذلك صلاح الأرض وأهلها. وأما إذا أهملت الشريعة وأقدم كل واحد على ما يهواه، اشتعلت نوائر الفتن من كل جانب، وحدثت المفاسد. وقيل: هو مداراة المنافقين الكافرين ومخالطتهم إياهم لأنهم إذا مالوا إلى الكفار مع أنهم في الظاهر مؤمنون، أوْهَمَ ذلك ضعف أمر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فيصير سبباً لطمع الكفار في المؤمنين، فتهيج الفتن والحروب. وقيل: كانوا يدعون في السر إلى تكذيبه ويلقون الشبه ويفشون أسرار المؤمنين، ولما نهوا عن الإفساد في الأرض كان قولهم "إنما نحن مصلحون" كالمقابل له. فههنا احتمالات: أحدها: أنهم اعتقدوا في دينهم أنه هو الصواب وكان سعيهم لأجل تقوية ذلك الدين، فزعموا أنهم مصلحون. وثانيها: إذا فسر الإفساد بموالاتهم الكافرين أن يكون مرادهم أن الغرض من تلك الموالاة هو الإصلاح بين المسلمين كقولهم فيما حكى الله سبحانه
{ إن أردنا إلا إحساناً وتوفيقاً } [النساء: 62] وثالثها: أن يكون المراد إنكار إذاعة أسرار المسلمين ونسبة أنفسهم إلى الاستقامة والسداد، وجيء بأداة القصر دلالة على أن صفة المصلحين خلصت لهم وتمحضت، أي حالنا مقصورة على الإصلاح لا تتعداه إلى غيره. "وألا" مركبة من همزة الاستفهام وحرف النفي، فيفيد التنبيه على تحقيق ما بعدها كقوله تعالى { أليس ذلك بقادر } [القيامة: 40] ولإفادتها التحقيق لا تكاد تقع الجملة بعدها إلا مصدرة بنحو ما يتلقى به القسم. وأختها التي هي "أما" من مقدمات اليمين وطلائعها. قال:

أما والذي أبكى وأضحك والذي أمات وأحيا والذي أمره الأمر

رد الله ما ادعوه من الانضمام في زمرة المصلحين أبلغ رد من جهة الاستئناف، فإن ادعاءهم ذلك مع توغلهم في الفساد مما يشوق السامع أن يعرف ما حكمهم، فرد الله عليهم. وكان وروده بدون الواو هو المطابق، ومن جهة ما في "ألا" وفي "أن" من التأكيد، ومن قبيل تعريف الخبر وتوسيط الفصل وقوله "لا يشعرون".
البحث الرابع: في قوله { وإذا قيل لهم آمنوا } الآية.
هذا هو النوع الثالث من قبائح أفعال المنافقين، وذلك أن المؤمنين أتوهم في النصيحة من وجهين: أحدهما: تقبيح ما كانوا عليه مما يجرّ إلى الفساد والفتنة، والثاني: دعوتهم إلى الطريقة المثلى من اتباع ذوي الأحلام. وبعبارة أخرى أمرهم أولاً بالتخلية عما لا ينبغي، وثانياً بالتحلية بما ينبغي لأن كمال حال الإنسان في هاتين. وكان من جوابهم فيما بينهم أو للقائل أن سفهوهم لتمادي سفههم، وفي هذا تسلية للعالم إذا لم يعرف حقه الجاهل.

وإذا أتتك مذمتي من ناقص فهي الشهادة لي بأني كامل

وما في "كما" يجوز أن تكون كافة تصحح دخول الجار على الفعل وتفيد تشبيه مضمون الجملة بالجملة كقولك: يكتب زيد كما يكتب عمرو، أو زيد صديقي كما عمرو أخي. ويجوز أن تكون مصدرية مثلها في { بما رحبت } [التوبة: 25 - 118] واللام في الناس للعهد أي كما آمن الرسول صلى الله عليه وسلم ومن معه وهم ناس معهودون أي ليكن إيمانكم ثابتاً كما أن إيمان هؤلاء ثابت، أو ليحصل إيمانكم كحصول إيمان هؤلاء، أو آمنوا كما آمن عبد الله بن سلام وأتباعه لأنهم من جلدتهم أي كما آمن أصحابكم. ويحتمل أن تكون للجنس أي كما آمن الكاملون في الإنسانية من الإقرار اللساني الناشئ عن الاعتقاد القلبي، أو جعل المؤمنون كأنهم الناس ومن عداهم كالنسناس في عدم التمييز بين الحق والباطل. والاستفهام في "أنؤمن" في معنى الإنكار، واللام في "السفهاء" مشار بها إلى الناس كقولك لصاحبك: إن زيداً قد سعى بك. فتقول: أوقد فعل السفيه؟ أو للجنس وينطوي تحته الجاري ذكرهم على زعمهم لأنهم عندهم أعرق الناس في السفه وهو ضد الحلم، وأصله الخفة والحركة يقال: تسفهت الريح الشجر إذا مالت به، قال ذو الرمة:

جرين كما اهتزت رماح تسفهت أعاليها مر الرياح النواسم

وإنما سفهو المؤمنين مع رجحان عقول أهل الإيمان، لأنهم لجهلهم وإخلالهم بالنظر الصحيح اعتقدوا أن ما هم فيه هو الحق، ولأنهم كانوا في رياسة وثروة وكان أكثر المؤمنين فقراء ومنهم موالٍ كصهيب وبلال وخباب، فدعوهم سفهاء تحقيراً لشأنهم كما قال قوم نوح { { وما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا } [هود: 27] أو أرادوا عبد الله بن سلام وأشياعه لما غاظهم من إسلامهم وفتَّ في أعضائهم. عن أنس "أنه سمع عبد الله بن سلام بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض مخترف، فاتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: إني سائلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي. فما أوّل أشراط الساعة؟ وما أول طعام أهل الجنة؟ وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال صلى الله عليه وسلم:أخبرني بهن جبريل آنفاً. أما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد حوت. وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الوالد، وإذا سبق ماء المرأة نزعت. قال: أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله يا رسول الله، إن اليهود قوم بهت وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم بهتوني. فجاءت اليهود فقال: أي رجل عبد الله فيكم؟ قالوا: خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا. قال: أرأيتم إن أسلم عبد الله بن سلام. قالوا: أعاذه الله من ذلك. فخرج عبد الله فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله. فقالوا: شرنا وابن شرنا فانتقصوه. قال: هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله" . ثم إن الله تعالى ألقى عليهم هذا اللقب مقروناً بالمؤكدات التي بيناها في قوله "ألا إنهم هم المفسدون" وذلك أن من أعرض عن الدليل ثم نسب المتمسك به إلى السفه فهو السفيه، وكذا من باع آخرته بدنياه. قال صلى الله عليه وسلم: "الكيِّس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" وأيضاً من السفه معاداة المحمديين { يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم } [الصف: 8].

كالطود يحقر نطحة الأوعال

إنما فصلت هذه الآية "بلا يعلمون" والتي قبلها "بلا يشعرون" لأن الوقوف على أن المؤمنين على الحق وهم على الباطل أمر عقلي نظري، وأما النفاق وما يؤول إليه من الفساد في الأرض فأمر دنيوي مبني على العادات، وخصوصاً عند العرب في جاهليتهم. وما كان قائماً بينهم من التحارب والتجاذب فهو كالمحسوس المشاهد، ولأنه قد ذكر السفه وهو جهل فكان ذكر العلم معه أحسن طباقاً له.
البحث الخامس: في قوله { وإذا لقوا الذين آمنوا } الآيات.
هذا هو النوع الرابع من قبائح أفعالهم، والفرق بين هذه الآية وبين قوله "ومن الناس من يقول آمنا" أن تلك في بيان مذهبهم والترجمة عن نفاقهم، وهذه في بيان معاملتهم مع المؤمنين من التكذيب لهم والاستهزاء بهم. عن ابن عباس: نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي وأصحابه، وذلك أنهم خرجوا ذات يوم فاستقبلهم نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عبد الله بن أبي: انظروا كيف أرد هؤلاء السفهاء عنكم. فذهب فأخذ بيد أبي بكر فقال: مرحباً بالصديق سيد بني تيم وشيخ الإسلام وثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار، الباذل نفسه وماله، ثم أخذ بيد عمر فقال: مرحباً بسيد بني عدي بن كعب الفاروق القوي في دين الله الباذل نفسه وماله لرسول الله، ثم أخذ بيد علي عليه السلام فقال: مرحباً بابن عم رسول الله وختنه سيد بني هاشم ما خلا رسول الله. ثم افترقوا فقال عبد الله لأصحابه: كيف رأيتموني فعلت، فإذا رأيتموهم فافعلوا كما فعلت، فأثنوا عليه خيراً. فرجع المسلمون إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبروه بذلك فنزلت. ويقال: لقيته ولاقيته إذا استقبلته قريباً منه. وخلوت بفلان وإليه إذا انفردت معه، ويجوز أن يكون من خلال بمعنى مضى، وخلاك ذم أي عداك ومضى عنك، ومنه القرون الخالية، أو من خلوت به إذا سخرت منه وهو من قولك "خلا فلان بعرض فلان" عبث به، ومعناه إذا أنهوا السخرية بالمؤمنين إلى شياطينهم وحدثوهم بها كما تقول: أحمد إليك فلاناً أو أذمه إليك أي أنهي إليك حمدي لفلان أو ذمي. وعن ابن عباس: إني أحمد إليك عسل الإحليل أي أعلمكم أنه أمر محمود. وشياطينهم رؤساؤهم وأكابرهم الذين ماثلوا الشياطين في تمردهم. وهم إما أكابر المنافقين فالقائلون. إنا معكم أي مصاحبوكم وموافقوكم على أمر دينكم أصاغرهم، وإما أكابر الكافرين فالقائلون يحتمل أن يكون جميع المنافقين. وإنما فسرنا الشياطين بالرؤساء لأنهم هم القادرون على الإفساد في الأرض، وإنما خاطبوا المؤمنين بأضعف الجملتين وهي الفعلية، وشياطينهم بأقواهما أعني الاسمية المحققة بان لأنهم في ادعاء حدوث الإيمان الناشئ عن صميم القلب منهم لا في ادعاء أنهم أوحديون في الإيمان كاملون، إما لأن أنفسهم لا تساعدهم عليه وهكذا كل قول لم يصدر عن صدق رغبة وباعث داخلي، وإما لأنه لا يروج عنهم لو قالوه على وجه التوكيد وهم بين ظهراني المهاجرين والأنصار القائلين "ربنا إننا آمنا" وإما مخاطبة إخوانهم فعن وفور نشاط ورغبة وفي حيز القبول والرواج فكان مظنة للتحقيق ومئنة للتوكيد، وإنما فقد العاطف بين قوله "إنا معكم" وبين قوله "إنما نحن مستهزءون" الأوّل معناه الثبات على الكفر، والثاني ردّ للإسلام. لأن المستهزئ بالشيء منكر له دافع، ودفع نقيض الشيء إثبات وتأكيد للشيء. أو لأن الثاني بدل منه لأن من حقر الإسلام فقد عظم الكفر، أو لأنه استئناف كأنه قيل: ما بالكم إن صح أنكم معنا توافقون أهل الإسلام؟ فقالوا: إنما نحن مستهزءون. والاستهزاء السخرية والاستخفاف، وأصله الخفة من الهزء وهو القتل السريع. ثم إن الله تعالى أجابهم بأشياء: أحدها قول الله "يستهزئ بهم" وهو استئناف في غاية الجزالة والفخامة، كأنه سئل ما مصير أمرهم وعقبى حالهم؟ فقيل: الله يستهزئ بهم. وفي الالتفات من الحكاية إلى المظهر، أن الله عز وجل هو الذي يستهزئ بهم الاستهزاء الأبلغ الذي استهزاؤهم بالنسبة إلى ذلك كالعدم. وفي تخصيص الله بالذكر مع قرينة أن المؤمنين هم الذين استهزئ بهم دلالة على أن الله هو الذي يتولى الاستهزاء بهم انتقاماً للمؤمنين، ولا يحوج المؤمنين أن يعارضوهم باستهزاء مثله. فإن قيل: الاستهزاء جهالة
{ قالوا أتتخذنا هزواً قال أعوذ بالله أن أكون من الجاهلين } [البقرة: 67] فما معنى استهزاء الله بهم؟ قلنا: معناه إنزال الهوان والحقارة بهم وهو المقصد الأقصى للمستهزئ، أو سمي جزاء الاستهزاء استهزاء مثل { فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم } [البقرة: 194] أو عاملهم الله معاملة المستهزئ في الدنيا لأنه كان يطلع الرسول على أسرارهم مع كونهم مبالغين في إخفائها، وفي الآخرة على ما روي عن ابن عباس: إذا دخل المؤمنون الجنة والكافرون النار، فتح الله من الجنة باباً على الجحيم في الموضع الذي هو مسكن المنافقين، فإذا رأى المنافقون الباب مفتوحاً أخذوا يخرجون من الجحيم ويتوجهون إلى الجنة - وأهل الجنة ينظرون إليهم - فإذا وصلوا إلى باب الجنة فهناك يغلق دونهم الباب فذلك قوله تعالى { { فاليوم الذين آمنوا من الكفار يضحكون على الأرائك ينظرون } [المطففين: 34] فهذا هو الاستهزاء، وإنما لم يقل الله مستهزئ ليكون طبقاً لقوله "إنما نحن مستهزءُون" لأن المراد تجدد الاستهزاء بهم وقتاً بعد وقت، وهكذا كانت نكايات الله فيهم ونزول الآيات في شأنهم { { أو لايرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين } [التوبة: 26] { يحذر المنافقون أن تنزل عليهم سورة تنبئهم بما في قلوبهم قل استهزءوا إن الله مخرج ما تحذرون } } [التوبة: 64] وثانيها قوله و"ويمدهم في طغيانهم" هو من مد الجيش أمده إذا زاده وألحق به ما يقوّيه، وكذلك مد الدواة والسراج زادهما ما يصلحهما. وإنما قلنا: إنه من المدد لا من المد في العمر والإمهال لقراءة نافع في موضع آخر { { وإخوانهم يمدونهم في الغي } [الأعراف: 202] على أن الذي بمعنى أمهله إنما هو مد له مع اللام كأملى له قاله في الكشاف، وهو مخالف لنقل الجوهري مده في غيه أي أمهله. والطغيان الغلو في الكفر ومجاوزة الحد في العتوّ، ومعنى مدد الله تعالى إياهم في الطغيان يعرف من تفسير { ختم الله على قلوبهم } وقد يوجه بأنه لما منعهم ألطافه التي منحها المؤمنين بقيت قلوبهم يتزايد الرين والظلمة فيها تزايد الانشراح والنور في صدور المؤمنين، فسمي ذلك التزايد مدداً. أو بأنه لم يقسرهم، أو بأنه أسند فعل الشيطان إلى الله تعالى لأنه بتمكينه وإقداره، ولا يخفى ما في هذا التوجيه من التكلف، لأنه انتهاء الكل إلى مسبب الأسباب. ومن هذا القبيل ما قيل: إن النكتة في إضافة الطغيان إليهم هي أن يعلم أن التمادي في الضلالة مما اقترفته أنفسهم، وأن الله بريء منه، فإن الانتهاء إلى الله تعالى لما كان ضرورياً فكيف يتبرأ من ذلك؟ "ويعمهون" في موضع الحال. والعمه كالعمى، إلا أن العمى في البصر وفي الرأي، والعمه في الرأي خاصة وهو التحير والتردد لا يدري أين يتوجه. وثالثها: قوله { أولئك الذي اشتروا الضلالة بالهدى } أي اختاروها عليه واستبدلوها به، وهذه استعارة لأن الاشتراء فيه إعطاء بدل وأخذ آخر قال أبو النجم:

أخذت بالجمـة رأســـاً أزعرا وبالثنايا الواضحات الدردرا
وبالطويل العمر عمراً جيدراً كما اشترى المــلم إذ تنصرا

وعن وهب قال الله تعالى فيما يعيب به بني إسرائيل: تفقهون لغير الدين، وتعلمون لغير العمل، وتبتاعون الدنيا بعمل الآخرة. جعلوا لتمكنهم من الهدى بحسب الفطرة الإنسانية الشخصية كأنه في أيديهم، فتركوه واستبدلوا به الضلالة وهي الجور عن القصد وفقد الاهتداء. وفي المثل "ضل دريص نفقة" أي جحره، والدرص ولد الفأرة ونحوها، يضرب لمن يعيا بأمره. فاستعيرت الضلالة للذهاب عن الصواب في الدين. والربح الفضل على رأس المال، والتجارة مصدر وإنما أسند الخسران إليها وهو لصاحبها إسناداً مجازياً لملابسة التجارة بالمشترين. وقد يقال: ربح عبدك وخسرت جاريتك مجازاً إذا دلت الحال. ولما ذكر الله سبحانه شراء الضلالة بالهدى مجازاً أتبعه ما يشاكله ويواخيه من الربح والتجارة لتكون الاستعارة مرشحة كقوله:

ولما رأيت النسر عز ابن دأية وعشش في وكريه جاش له صدري

لما شبه الشيب بالنسر، والشعر الفاحم بالغراب، أتبعه ذكر التعشيش والوكر. "وما كانوا مهتدين" لطرق التجارة لأن مطلوب التاجر في متصرفاته شيئان: سلامة رأس المال والربح. وهؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معاً، لأن رأس مالهم كان هو الهدى فلم يبق لهم مع الضلالة، والضلالة أمر عدمي فلا عوض ولا معوّض، فلا ربح ولا رأس المال. وهكذا حال من يدعي الإرادة ولا يخرج من العادة ويريد الجمع بين مقاصد الدنيا ومصالح الدين، كالمنافق أراد الجمع بين عشرة الكفار وصحبة المسلمين، والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم، وإذا أقبل الليل من ههنا أدبر النهار من ههنا نعوذ بالله من الغواية، ونسأله أن يعصمنا من الضلالة بعد الهداية.