التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ ٱلْقِصَاصُ فِي ٱلْقَتْلَى ٱلْحُرُّ بِالْحُرِّ وَٱلْعَبْدُ بِٱلْعَبْدِ وَٱلأُنثَىٰ بِٱلأُنْثَىٰ فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَٱتِّبَاعٌ بِٱلْمَعْرُوفِ وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذٰلِكَ تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ ٱعْتَدَىٰ بَعْدَ ذٰلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٧٨
وَلَكُمْ فِي ٱلْقِصَاصِ حَيَٰوةٌ يٰأُولِي ٱلأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
١٧٩
-البقرة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

الوقوف: { في القتلى } ط { بالأنثى } ط لأن العفو إعطاء الدية صلحاً فكان خارجاً عن أصل موجب القتل مستأنفاً { بإحسان } ط { رحمة } ط لأن الاعتداء خارج عن أصل الموجب وفرعه فكان مستأنفاً { أليم } ه { تتقون } ه.
التفسير: هذا حكم آخر، وسببه أن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط، والنصارى يوجبون العفو فقط. فأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل وأخرى يوجبون الدية، لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من الحكمين. فإذا وقع القتل بين قبيلتين كان يقول الشريف للخسيس لنقتلن بالعبد منا الحر منهم، وبالمرأة منا الرجل منهم، وبالرجل منا الرجلين منهم، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن رجلاً قتل رجلاً من الأشراف ثم اجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول فقالوا: ماذا تريد؟ قال: إحدى ثلاث. قالوا: وما هي؟ قال: تحيون ولدي، أو تملؤن داري من نجوم السماء، أو تدفعون إليّ جملة قومكم حتى أقتلهم، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً. وكانوا يجعلون دية الشريف أضعاف دية الخسيس فبعث الله محمداً بالعدل وسوّى بين عباده في القصاص. وقيل: نزلت في واقعة قتل حمزة. ومعنى كتب فرض وأوجب كقوله
{ كتب عليكم الصيام } [البقرة: 183] ولفظة "على" أيضاً تفيد الوجوب كقوله { ولله على الناس حج البيت } والقصاص أن تفعل بالإنسان مثل ما فعل من قولك "اقتص فلان أثر فلان" إذا فعل مثل فعله. ومنه القصة لأن الحكاية تساوي المحكي والمقص لتعادل جانبيه. وقوله { في القتلى } أي بسبب قتل القتلى كقوله "في النفس المؤمنة مائة إبل" أي بسببها. فظاهر الآية يدل على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب جميع القتلى إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج عن هذا العموم. وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضاً في صور كما إذا قتل الوالد ولده، والسيد عبده، والمسلم حربياً أو معاهداً، أو مسلم مسلماً خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه. فإن قيل: لو جب القصاص لوجب إما على القاتل وليس عليه أن يقتل نفسه بل يحرم عليه ذلك، وإما على ولي الدم وهو مخير بين الفعل والترك، بل هو مندوب إلى الترك. { والعافين عن الناس } [الأعراف: 134] وإما على أجنبي وليس ذلك بالاتفاق. وأيضاً القصاص عبارة عن التسوية، ووجوب رعاية المساواة على تقدير القتل لا يوجب نفس القتل. قلنا عن الأول إن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجري مجرى الإمام، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود وهو من جملة المؤمنين فالتقدير: يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أرادوا لي الدم أستيفاء. ويحتمل أن يكون خطاباً مع القاتل لأنه كتب عليه تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص. وذلك أن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر، بل للزاني والسارق الهرب من الحدود، ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله فلا يعترفا، فكان أمر القتل أشنع، وفيه حق الآدمي أكثر. وعن الثاني أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل، والتسوية في القتل صفة للقتل، وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات. فالآية تفيد إيجاب القتل. ثم اختلفوا في كيفية المماثلة التي تجب رعايتها فقال الشافعي: إن كان قتله بقطع اليد قطعت يد القاتل، فإن مات عنه في تلك المرة وإلا حزت رقبته. وكذلك إن أحرق الأول بالنار أحرق الثاني، فإن مات في تلك المرة وإلا حزت رقبته. روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: "من حرق حرقناه ومن غرق غرقناه" ورضخ يهودي رأس جارية بالحجارة فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يفعل به مثله. ولأنه لا يجوز أن يقال: كتبت التسوية في القتلى إلا في كيفية القتل، وحيث لم يستثن دخل. وأيضاً الحكم بالعموم يوجب التخصيص في بعض الصور كما لو قتله بالسحر فلا يقتل السحر لأنه محرم بل بالسيف. وكما لو قتل صغيراً باللواط فإنه يقتل بالسيف على الأصح. ولو لم يحكم بالعموم لزم الإجمال، والتخصيص أهون منه. وأيضاً لو لم تفد الآية إلا إيجاب التسوية في أمر من الأمور فلا شيئين إلا وهما متساويان في بعض الأمور، فلا يستفاد من الآية شيء ألبتة. وقال أبو حنيفة: المراد بالمماثلة تماثل النفس ويتعين السيف لقوله صلى الله عليه وسلم: "لا قود إلا بالسيف" واتفقوا على أن القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة له من الله. أما إذا تاب فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة للدلائل الدالة على قبول التوبة { وهو الذي يقبل التوبة عن عباده } [الشورى: 25] فما الحكمة في وجوب قتله؟ أجاب أصحابنا بأنه تعالى يفعل ما يشاء ولا يسأل عما يفعل. وقالت المعتزلة: إنما شرع ليكون لطفاً. وكيف يتصور هذا اللطف ولا تكليف بعد القتل؟ قالوا: فيه منفعة للقاتل من حيث إنه إذا علم أنه لا بد وأن يقتل صار ذلك داعياً له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد، ومنفعة لولي المقتول من حيث التشفي، ومنفعة لسائر المكلفين من حيث الانزجار عن القتل.
قوله عز من قائل { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } الباء للبدل نحو "بعت هذا بذاك" أي الحر مقتول بدل الحر. ثم فيه قولان: الأول ويروى عن عمر بن عبد العزيز والحسن البصري وعطاء وعكرمة، أن لا يكون القصاص مشروعاً إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين، لأن الألف واللام تفيد العموم أي كل حر يقتل بحر. فلو كان قتل حر بعبد مشروعاً لكان ذلك الحر مقتولاً بعير حر وهو يناقض الآية. ولأن هذا القول خرج مخرج البيان لقوله { كتب عليكم القصاص } وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال للتسوية فلا يكون مشروعاً وهو يناقض الآية، وإلى هذا ذهب الشافعي ومالك وقالا: لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه أولى، وكذا القول في قتل الأنثى بالذكر. وأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع، وكأن سنده أن الذكورة والأنوثة فضيلتان كالعلم والجهل والشرف والخسة، فكما أنه لم يفرق بين العالم والجاهل فكذلك بين الذكر والأنثى، ويروى عن عمرو بن حزم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى أهل اليمن
"أن الذكر يقتل الأنثى" . القول الثاني ويروى عن سعيد بن المسيب والشعبي والنخعي وقتادة والنوري وهذا مذهب أبي حنيفة، أن الحر بالحر لا يفيد الحصر ألبتة بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على حال سائر الأقسام. لأن قوله { والأنثى بالأنثى } يقتضي قصاص الحرة بالمرأة الرقيقة، فلو كان قوله { الحر بالحر والعبد بالعبد } مانعاً من ذلك تناقض. وأيضاً قوله { كتب عليكم القصاص } جملة مستقلة وقوله { الحر بالحر } تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر، فلا يمنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات. ويؤيد ما ذكرنا قوله تعالى { النفس بالنفس } وقوله صلى الله عليه وسلم "المسلمون تتكافأ دماؤهم" وقد يقتل الجماعة بواحد فدل على أن التفاضل غير معتبر في الأنفس ثم إنهم قالوا: الفائدة في تخصيص هذه الجزئيات بالذكر ما ذكرنا في سبب النزول أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل فمنعوا عن ذلك. وأيضاً نقل عن علي رضي الله عنه والحسن البصري أن الغرض أن هذه الصورة هي التي يكتفى فيها بالقصاص. أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعاً بين الحر والعبد وبين الذكر والأنثى فهناك لا يكتفي بالقصاص، بل لا بد من التراجع. فأيما حر قتل عبداً فقود به، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا قيمة العبد من دية الحر ويؤدوا إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن قتل عبد حراً فهو به فإن شاء أولياء الحر قتلوا وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته، وإن شاءوا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد. وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا بعد ذلك نصف ديته إلى أوليائه، وإن شاءوا تركوا قتله وأخذوا ديتها. وإذا قتلت امرأة رجلاً فهي به قود، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية، وإن شاءوا تركوها وأخذوا كل الدية، فعلى هذا الغرض من الآية أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين، فأما عند اختلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع.
قوله تعالى { فمن عفي له من أخيه شيء } المعنى فمن عفي له من جهة أخيه شيء من العفو كقولك "سير بزيد بعض السير وطائفة من السير" ولا يصح أن يكون شيء في معنى المفعول به لأن عفا لا يتعدى إلى مفعول به إلا بواسطة. فإن قيل: إن "عفا" يتعدى بعن لا باللام فما وجه قوله { فمن عفى له } فالجواب أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب فيقال: عفوت عن فلان وعن ذنبه. قال تعالى
{ عفا الله عنك } [التوبة: 23] فإذا تعدى إلى الذنب وإلى الجاني معاً قيل "عفوت لفلان عما جنى" كما تقول "غفرت له ذنبه" وتجاوزت له عنه. فمعنى الآية فمن عفى له عن جنابته. فاستغنى عن ذكر الجناية. فإنما قيل شيء من العفو ليعلم أنه إذا عفي له طرف من العفو وبعض منه بأن يعفى عن بعض الدم أو عفا عنه بعض الورثة تم العفو وسقط القصاص ولم يجب إلا الدية. وأخوه هو ولي المقتول وإنما قيل له أخوه لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم ومطالبه به كما تقول للرجل "قل لصاحبك كذا" إذا كان بينهما أدنى تعلق. أو ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية والإسلام. وقد يستدل بهذا على أن الفاسق مؤمن لأنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم، ولا شك أن هذه الأخوة بسبب الدين { إنما المؤمنون إخوة } [الحجرات: 10] مع أن قتل العمد العدوان بالإجماع من الكبائر. وأيضاً إنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل، والعفو إنما يليق عن المؤمن. ويحتمل أن يجاب بأن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمناً فلعله تعالى سماه مؤمناً بهذا التأويل، وبأن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمناً. ثم إنه تعالى أدخل غير التائب فيه على سبيل التغليب. وأيضاً لعل الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحداً. ولا شك أن المؤمنين أخوة قبل الإقدام على القتل. وأيضاً الظاهر أن الفاسق يتوب، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخاً له. وأيضاً يجوز أن يكون قد جعله أخاً له في النسب كقوله تعالى { وإلى عاد أخاهم هوداً } [هود: 50] { فاتباع بالمعروف } أي فليكن اتباع، أو فالأمر، أو فحكمه اتباع. أو فعلية اتباع فقيل: على العافي اتباع بالمعروف بأن يشدد في المطالبة بل يجري فيها على العادة المألوفة، فإن كان معسراً فالنظرة وإن كان واجداً لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق، وإن كان واجداً بغير المال الواجب فالإمهال إلى أن يستدل وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات { و } إلى المعفو عنه { أداء إليه بإحسان } بأن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل من غير مطل وبخس، هذا قول ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد. وقيل: هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان { ذلك } قيل: إشارة إلى الاتباع والأداء. وعن ابن عباس: وهو الأقرب إنه إشارة إلى الحكم بسرع القصاص والدية والعفو، فإن هذه الأمة خيرت بينهن توسعة وتيسيراً، ولم يكن لليهود إلا القصاص وللنصارى إلا العفو وإثبات الخيرة فضل من الله ورحمة في حقنا، لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إذا كان محتجاً إلى المال، وقد يكون القود آثر عنده إذا كان راغباً في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه. وقد يؤثر ثواب الآخرة فيعفو عن القصاص وعن بدله جميعاً وهو الدية. { فمن اعتدى بعد ذلك } التخفيف فتجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل مع قتل القاتل أو دونه أو قتل بعد أخذ الدية والعفو فقد كان لولي في الجاهلية يؤمن القاتل بقبوله الدية ثم يظفر به فيقتله { فله عذاب أليم } نوع من العذاب الأليم في الآخرة. وعن قتادة: العذاب الأليم أن يقتل لا محالة ولا يقبل من الدية كما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال "لا أعافي أحداً قتل بعد أخذه الدية" وهو مذهب الحسن وسعيد بن جبير وضعفه غيرهم. ولما كانت الآية مشتملة على إيلام العبد الضعيف وأنه لا يليق بكمال رحمته عقبها بقوله { ولكم في القصاص حياة }. قال المفسرون: القصاص إزالة الحياة، وإزالة الشيء لا تكون نفس ذلك الشيء فالمراد لكم في شرع القصاص حياة وأيّ حياة. وذلك أنهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، وكم قتل مهلهل بأخيه كليب حتى كاد يفني بكر بن وائل. وكان يقتل بالمقتول غير قاتله فتثور الفتنة، ويحتمل أن يقال: نفس القصاص سبب لنوع من الحياة وهي الحاصلة بالارتداع عن القتل، لأن القاتل إذا قيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ولم يقتل فكان القصاص سبب حياة نفسين. وقرأ أبو الجوزاء { ولكم في القصص حياة } أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص. وقيل: القصص القرآن أي لكم في القرآن حياة للقلوب. وهذا وقد اتفق علماء البيان على أن قوله سبحانه { ولكم في القصاص حياة } بلغ في الإيجاز نهاية الإعجاز، وذلك أن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثيرة كقولهم "قتل البعض أحياء للجميع" وأكبروا القتل وأوجز ذلك قولهم "القتل أنفى للقتل". والترجيح مع ذلك للآية من وجوه: الأول أن قولهم لا يصح على العموم لأن القتل ظلماً ليس أنفى للقتل قصاصاً بل أدعى له. ولو خصص فقيل "القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً" طال. والآية تفيد هذا المعنى من غير تقدير وتكلف. الثاني: أن القتل قصاصاً لا ينفي القتل ظلماً من حيث إنه قتل بل من حيث إنه قصاص. وهذه الحيثية معتبرة في الآية لا في كلامهم. الثالث: أن الحياة هي الغرض الأصلي ونفي القتل إنما يراد لحصول الحياة. فالتنصيص على المقصود الأصلي أولى. الرابع: التكرار من غير ضرورة مستهجن وأنه في كلامهم لا في الآية. الخامس: أن الحروف الملفوظة التي يعتمد عليها في اعتبار الوجازة لا المكتوبة هي في الآية عشرة، وفي كلامهم أربعة عشر. السادس: أن الأغلب في كلامهم أسباب خفاف وذلك مما يخل بسلاسة التركيب، والآية مع غاية وجازتها فيها السبب والوتد والفاصلة. السابع: ظاهر قولهم يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال، وفي الآية جعل نوع من القتل وهو القصاص سبباً لنوع من الحياة ولا استبعاد فيه لظهور التغاير. الثامن: المطابقة مرعية في الآية لمكان التضاد بين لفظي القصاص وحياة بخلاف كلامهم. التاسع: اشتمال الآية على لفظ يصلح للتفاؤل وهو الحياة، بخلاف كلامهم فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان وأنه لكما يليق بهم. العاشر: اشتمال الآية على اسمين وأداة، واشتمال كلامهم على ثلاثة أسماء وأداة. وإن اعتبرت أداة التعريف ففي الآية واحدة وفي كلامهم ثنتان، وإن اعتبر التنوين في الآية تقاصت الأدوات وتبقى زيادة الأسماء بحالها، على أن أفعل التفضيل إذا لم يكن فيه اللام والإضافة يستعمل بمن. فتقدير كلامهم "القتل أنفى للقتل من كل شيء" فأين الوجازة { يا أولي الألباب } يا ذوي العقول وأولو جمع لا واحد له من لفظه، وواحده ذو بمعنى صاحب. وأولات للإناث واحدتها ذات بمعنى صاحبة قال تعالى { وأولات الأحمال } [الطلاق: 4] وإعراب أولو كإعراب جمع المذكر السالم. وزادوا في "أولي" واواً فرقاً بينها وبين "إلى" وأجرى "أولو" عليه. واللب العقل، ولب النخلة قلبها، وخالص كل شيء لبه. خاطب العقلاء الذين يتفكرون في العواقب ويعرفون جهات الخوف فلا يرضون بإتلاف أنفسهم لإتلاف غيرهم إلا في سبيل الله { لعلكم تتقون } يتعلق بمحذوف أي أريتكم ما في القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس لتكونوا على بصيرة في إقامته، راجين أن تعملوا عمل أهل التقوى في الحكم به. وهو خطاب له فضل اختصاص بالأئمة، أو لعلكم تتقون نفس القتل الخوف القصاص. عن الحسن والأصم: وقد بقي على الآية بحث، وهو أنه سئل إذا صح أن المقتول إن لم يقتل فهو يموت لأن المقدر من عمره ذلك القدر، وكذا إذا هم إنسان بقتل آخر فارتدع خوفاً عن القصاص فإن ذلك الآخر يموت وإن لم يقتله ذلك الإنسان لأن كل وقت صح وقوع قتله صح وقوع موته، فكيف يفيد شرع القصاص حياة؟ والجواب أنه تعالى قد جعل لكل شيء سبباً يدور مسببه معه وجوداً وعدماً. وشرعية القصاص مما جعلها تعالى سبباً لحياة من أراد حياته بعد أن تصور الهامّ قتله، وذلك بأن تذكر القصاص فارتدع عما هم به. ففائدة شرع القصاص هي فائدة سائر الأسباب والوسائط ومنكر فائدتها. وكلا الإنكارين مذموم وصاحبهما عند العقلاء ملوم والله أعلم.
التأويل: كما كتب القصاص في قتلاكم كتب على نفسه الرحمة في قتلاه وقال: من أحبني قتلته ومن قتلته فأنا ديته { الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } أي من كان متوجهاً إليه تعالى بالكلية كان فيضه تعالى متصلاً به بالكلية، ومن كان في رق غيره من المكوّنات لم يتصل به فيضه غاية الاتصال، ومن كان ناقصاً في دعوى محبته لم يكن مستحقاً لكمال محبته { فمن عفي له } من الأحباء والأصفياء { شيء } من أنواع البلاء والابتلاء الذي هو موكل بالأنبياء والأولياء فإنه معروف من معارفه. فالواجب على العبد أداء شكره إلى الله بإحسان. { فمن اعتدى بعد ذلك } الوفاء بملابسة الجفاء وألقى جلباب الحياء { فله عذاب أليم } فإن الكفر مرتعه وخيم { ولكم في القصاص حياة } الدارين والتقاء برب الثقلين { يا أولي الألباب } الذين بدلوا قشر الروح الإنساني عند شهود الجلال الصمداني { لعلكم تتقون } شرك وجودكم.