التفاسير

< >
عرض

وَٱلْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ ٱلرَّضَاعَةَ وَعلَى ٱلْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى ٱلْوَارِثِ مِثْلُ ذٰلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُوۤاْ أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٣٣
وَٱلَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِيۤ أَنْفُسِهِنَّ بِٱلْمَعْرُوفِ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
٢٣٤
وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ ٱلنِّسَآءِ أَوْ أَكْنَنتُمْ فِيۤ أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ ٱللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـٰكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً وَلاَ تَعْزِمُوۤاْ عُقْدَةَ ٱلنِّكَاحِ حَتَّىٰ يَبْلُغَ ٱلْكِتَابُ أَجَلَهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِيۤ أَنْفُسِكُمْ فَٱحْذَرُوهُ وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ
٢٣٥
لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ ٱلنِّسَآءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى ٱلْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى ٱلْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعاً بِٱلْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى ٱلْمُحْسِنِينَ
٢٣٦
وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَن يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَاْ ٱلَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ ٱلنِّكَاحِ وَأَن تَعْفُوۤاْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَنسَوُاْ ٱلْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٣٧
-البقرة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { لا تضار } بضم الراء: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير وقتيبة. الباقون بفتح الراء ولا خلاف في قوله { ولا يضار كاتبٌ ولا شهيد } [البقرة: 282] بالفتح { ما أتيتم } مقصوراً: ابن كثير. الباقون بالمد { يتوفون } بفتح الياء وما بعده: المفضل. الباقون بضم الياء { النساء أو } بهمزتين: عاصم وعلي وحمزة وخلف وابن عامر. الباقون { النساء } وروى الخزاعي وابن شنبوذ عن أهل مكة { النساء أو }. { تماسوهن } حيث وقعت: علي وحمزة وخلف. الباقون { تمسوهن } { قدره } بالتحريك: يزيد وابن ذكوان وروح وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. الباقون بالإسكان.
الوقوف: { الرضاعة } ط { بالمعروف } ط { وسعها } ج لاستئناف اللفظ مع قرب المعنى { مثل ذلك } ج { عليهما } ط لابتداء الحكم في استرضاع الأجنبية { بالمعروف } ط { بصير } هـ { وعشراً } ج { بالمعروف } ط { خبير } هـ { أنفسكم } ط { معروفاً } ط { أجله } ط لابتداء الأمر { فاحذروه } ج للفصل بين موجبي الخوف والرجاء ولهذا كررت كلمة "واعلموا" تقديره غفور حليم فارجوه والوقف أليق { حليم } هـ { فريضة } ج لعطف المختلفتين { ومتعوهن } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى، لأن الجملة الثانية لتقدير المأمور في الأولى { قدره } الثاني ج لأن "متاعاً" مصدر "متعوهن" والوقف لبيان أنه غير متصل بما يليه من الجملتين العارضتين { بالمعروف } ج لأن "حقاً" يصلح نعتاً للمتاع أي متاعاً حقاً، ويصلح مصدر المحذوف أي حق ذلك حقاً. { المحسنين } ط { النكاح } ط { للتقوى } ط { بينكم } هـ { بصير } هـ.
التفسير: الحكم الثاني عشر: الإرضاع والوالدات. قيل: هن المطلقات والمزوجات لأن ظاهر اللفظ مشعر بالعموم. وقيل: المطلقات ولهذا ذكرت عقيب آية الطلاق. وتحقيقه أنه إذا حصلت الفرقة استتبعت التباغض والتعاند المتضمن لإيذاء الولد ليتأذى الزوج، وربما رغبت في التزوج بزوج آخر فيهمل أمر الطفل، فندب الله تعالى الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم. وأيضاً إنه تعالى قال في الآية: { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولو كانت الزوجية باقية لوجب ذلك للزوجية لا للرضاع ذكره السدي. وقال الواحدي في البسيط: الأولى أن يحمل على المزوجات في حال بقاء النكاح، لأن المطلقة لا تستحق النفقة وإنما تستحق الأجرة، ثم إن النفقة والكسوة تجبان في مقابلة التمكين، فإذا اشتغلت بالإرضاع والحضانة لم تتفرغ لخدمة الزوج، فلعل متوهماً يتوهم أن مؤنتها قد سقطت بالخلل الواقع في الخدمة فأزيل ذلك الوهم بإيجاب الرزق والكسوة وإن اشتغلت بالإرضاع ويرضعن مثل يتربصن في أنه خبر في معنى الأمر المؤكد، وهذا الأمر على سبيل الندب بدليل قوله تعالى
{ فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن } [الطلاق: 6] ولو وجب عليها الإرضاع لم تستحق الأجرة. وإنما كان ندباً من حيث إن تربية الطفل بلبن الأم أصلح، ولأن شفقتها أكثر، ولا يجوز استئجار الأم عند أبي حنيفة ما دامت زوجة أو معتدة من نكاح، وعند الشافعي يجوز، فإذا انقضت عدتها جاز بالاتفاق. وقد يفضي الأمر إلى الوجوب إذا لم يقبل الصبي إلا ثدي أمه، أو لم توجد له ظئر، أو كان الأب عاجزاً عن الاستئجار. { حولين } أي عامين، والتركيب يدور على الانقلاب. فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني، و { كاملين } توكيد كقوله { تلك عشرة كاملة } [البقرة: 196] فقد يقال: أقمت عند فلان حولين. وإنما أقام حولاً وبعض الآخر. وليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب لقوله تعالى بعد ذلك { لمن أراد أن يتم الرضاعة } أي هذا الحكم لمن أراد إتمام الإرضاع، أو اللام متعلقة بيرضعن كما تقول: أرضعت فلانة لفلان ولده أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الرضاعة من الآباء، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم وعليه أن يتخذ له ظئراً إلا إذا تطوعت الأم بإرضاعه. ثم المقصود من ذكر التحديد قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاعة، فإن أراد أحدهما أن يفطمه قبل الحولين ولم يرض الآخر لم يكن له ذلك. أما إذا اجتمعا على أن يفطما قبل تمام الحولين فلهما ذلك. وأيضاً فللرضاع حكم خاص في الشريعة وهو قوله صلى الله عليه وسلم "يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب" فيعلم من التحديد أن الإرضاع ما لم يقع في هذا الزمان لا يفيد هذا الحكم هذا هو مذهب الشافعي وبه قال علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري. وعن أبي حنيفة أن مدة الرضاع ثلاثون شهراً. وقرئ { أن يتم الرضاعة } برفع الفعل تشبيهاً لأن بما لتآخيهما في التأويل أي في المصدر لأن كلمة "ما" ستارة تقع مصدرية فلا تنصب. وقرئ { الرضاعة } بكسر الراء.
{ وعلى المولود له } وعلى الذي يولد له وهو الوالد وله في عمل الرفع على الفاعلية لما عليهم في المغضوب عليهم. وإنما قيل: { المولود له } دون الوالد ليعلم أن الوالدات إنما ولدت لهم ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات. وفيه تنبيه على أن الولد إنما يلحق بالوالد لكونه مولوداً على فراشه ما قال صلى الله عليه وسلم:
"الولد للفراش" وفيه أن نفع الأولاد عائد إلى الآباء فيجب عليهم رعاية مصالحه كما قيل: كله لك فكله عليك. فعليهم رزقهن وكسوتهن إذا أرضعه ولدهم كالأظآر ألا ترى أنه ذكره باسم الوالد حيث لم تكن هذه المعاني مقصودة وذلك قوله { واخشوا يوماً لا يجزي والدٌ عن ولده ولا مولودٌ هو جاز عن والده شيئاً } [لقمان: 33] { بالمعروف } تفسيره ما يتلوه وهو أن لا يكلف واحد منهما ما ليس في وسعه ولا يتضار. وأيضاً المعروف في هذا الباب قد يكون محدوداً بشرط وعقد، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف، لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها فقد استغنى عن تقدير الأجرة، إذ لو كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها ضرر من الجوع والعري، ويتعدى ذلك الضرر إلى الولد. وفي الآية دليل على أن حق الأم أكثر من حق الأب لأنه ليس بين الأم والطفل واسطة، وبين الأب وبينه واسطة، فإنه يستأجر المرأة على الإرضاع والحضانة بالنفقة والكسوة.
والتكليف: الإلزام. قيل: أصله من الكلف وهو الأثر على الوجه. فمعنى تكلف الأمر اجتهد أن يبين فيه أثره. وكلفه ألزمه ما يظهر فيه أثره. والوسع ما يسع الإنسان ولا يعجز عنه ولهذا قيل: الوسع فوق الطاقة. من قرأ { لا تضار } بالرفع فعلى الإخبار في معنى النهي، ويحتمل البناء للفاعل والمفعول على أن الأصل تضار بكسر الراء، أو تضار بفتحها. ومن قرأ بالفتح فعلى النهي صريحاً، ويحتمل البناءين أيضاً. وتبيين ذلك أنه قرئ { لا تضارر } و { لا تضارر } بالجزم وكسر الراء الأولى وفتحها. ومعنى لا تضار والدة زوجها بسبب ولدها وهو أن تعنف به وتطلب منه ما ليس بعدل من الزرق والكسوة وأن تشغل قلبه بسبب التفريط في شأن الولد، وأن تقول بعد ما ألفها الصبي: اطلب له ظئراً ونحو ذلك { ولا يضار مولودٌ له } امرأته بسبب ولده بأن يمنعها شيئاً مما وجب عليه من الرزق والكسوة، أو يأخذه منها وهي تريد إرضاعه، أو يكرهها على الإرضاع. وهكذا إذا كان مبنياً للمفعول كان نهياً عن أن يلحق بها الضرر من قبل الزوج، وعن أن يلحق الضرر بالزوج من قبلها بسبب الولد. ويحتمل أن يكون تضار بمعنى تضر، والباء من صلته أي لا تضر والدة بولدها بأن تسيء غذاءه وتعهده أو تفرّط فيما ينبغي له ولا تدفعه إلى الأب بعد ما ألفها، ولا يضر الوالد به بأن ينتزعه من يدها أو يفرط في شأنها فتقصر هي في حق الولد. وإنما قيل: { بولدها } و { بولده } لأن المرأة لما نهيت عن المضارة أضيف إليها الولد استعطافاً لها عليه وأنه ليس بأجنبي منها فمن حقها أن تشفق عليه وكذلك الوالد.
قوله سبحانه { وعلى الوارث مثل ذلك } للعلماء فيه أقوال من حيث إنه تقدم ذكر الوالد والولد والوالدة واحتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى كل واحد من هؤلاء. فعن ابن عباس أن المراد وارث الأب، وقوله { وعلى الوارث } عطف على قوله { وعلى المولود له رزقهن } وما بينهما تفسير للمعروف. فالمعنى وعلى وارث المولود مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة أي إن مات المولود ألزم من يرثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور من العدل وتجنب الضرار. وقيل: المراد وارث الولد الذي لو مات الصبي ورثه، فيجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب، وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي. ثم اختلفوا في أنه أيّ وارث هو؟ فقيل: العصبات دون الأم والأخوة من الأم وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم. وقيل: هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث، عن قتادة وابن أبي ليلى. وقيل: وعلى الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى عن أبي حنيفة وأصحابه. وعند الشافعي لا نفقة فيما عدا الولاد أي الأب والابن. وقيل: المراد من الوارث هو الصبي نفسه فإنه إن مات أبوه وورثه وجبت عليه أجرة رضاعه في ماله إن كان له مال، فإن لم يكن له مال أجبرت الأم على إرضاعه. وقيل: المراد من الوارث الباقي من الأبوين كما في الدعاء المروي "واجعله الوارث منا" أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة { فإن أرادا فصالاً } أي فطاماً وليس من باب المفاعلة وإنما هو ثلاثي على "فعال" كالعثار والإباق. وذلك أن الولد ينفصل عن الاغتذاء بثدي أمه إلى غيره من الأقوات. وعن أبي مسلم أنه يحتمل أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الولد والأم إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك، ولم يرجع ضرر إلى الولد وليكن الفصال صادراً { عن تراضٍ منهما وتشاور } مع أرباب التجارب وأصحاب الرأي { فلا جناح عليهما } في ذلك زادا على الحولين لضعف في تركيب الصبي، أو نقصاً. وهذه أيضاً توسعة بعد التحديد وذلك أن الأم قد تمل من الإرضاع فتحاول الفطام والأب أيضاً قد يمل إعطاء الأجرة على الإرضاع فيطلب الفطام دفعاً لذلك لكنهما قد يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس فلهذا اعتبرت المشاورة مع غيرهما، وحينئذٍ يبعد موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد، وإن اتفقوا على الفطام قبل الحولين وهذا غاية العناية من الرب بحال الطفل الضعيف، ومع اجتماع الشروط لم يصرح بالإذن بل رفع الحرج فقط. ولما بيّن حكم الأم وأنها أحق بالرضاع بيّن أنه يجوز العدول في هذا الباب عنها إلى غيرها فقال: { وإن أردتم أن تسترضعوا } أي المراضع أولادكم { فلا جناح عليكم } يقال: أرضعت المرأة الصبي واسترضعتها الصبي بزيادة السين مفعولاً ثانياً كما تقول: أنجا لحاجة واستنجته إياها. فحذف أحد المفعولين للعلم به. وعن الواحدي: التقدير أن تسترضعوا لأولادكم فحذف اللام للعلم به مثل { وإذا كالوهم أو وزنوهم } أي كالوا لهم أو وزنوا لهم. ومن موانع الإرضاع للأم ما إذا تزوجت بزوجٍ آخر، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الإرضاع. ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الإرضاع ليتزوج بها زوج آخر. ومنها أن تأبى المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق. ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها. فعند أحد هذه الأمور إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها، فإن لم نجد مرضعة أخرى أو وجدنا ولكن لا يقبل الطفل لبنها فالإرضاع واجب على الأم. { إذا سلمتم } إلى المراضع { ما آتيتم } ما آتيتموه المرأة أي ما أردتم إيتاءه مثل { إذا قمتم إلى الصلاة } قرأ { ما أتيتم } بالقصر فهو من أتى إليه إحساناً إذا فعله كقوله تعالى { إنه كان وعده مأتياً } أي مفعولاً. وروى شيبّان عن عاصم { ما أوتيتم } أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة، وليس التسليم شرطاً للجواز والصحة وإنما هو ندب إلى الأولى. وفيه حث على أن الذي يعطي المرضعة يجب أن يكون يداً بيد حتى يكون أهنأ وأطيب لنفسها لتحتاط في شأن الصبي، ولهذا قيد التسليم بأن يكون بالمعروف وهو أن يكونوا حينئذٍ مستبشري الوجوه ناطقين بالقول الجميل مطيبين لأنفس المراضع بما أمكن قطعاً لمعاذيرهن. ثم أكد الجميع بأن ختم الآية بنوع من التحذير فقال: { واتقوا الله واعلموا أن الله بما تعملون بصير }.
الحكم الثالث عشر: عدة الوفاة { والذين يتوفون } ومعناه يموتون ويقبضون قال:
{ الله يتوفى الأنفس حين موتها } [الزمر: 42] وأصل التوفي أخذ الشيء كاملاً وافياً. ويبنى للمفعول ومعناه ما قلنا، وللفاعل ومعناه استوفى أجله ورزقه وعليه قراءة علي رضي الله عنه { يتوفون } بفتح الياء. والذي يحكى أن أبا الأسود الدؤلي كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل: من المتوفي - بكسر الفاء -؟ فقال: الله. وكان أحد الأسباب الباعثة لعليّ رضي الله عنه على أن أمره بأن يضع كتاباً في النحو. فلعل السبب فيه أن ذلك الشخص لم يكن بليغاً وهذا المعنى من مستعملات البلغاء فلهذا لم يعتد بقوله، وحمله على متعارف الأوساط { ويذرون } يتركون ولا يستعمل منه الماضي والمصدر استغناء عنهما بتصاريف ترك. والأزواج ههنا النساء { يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر } مثل قوله { يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء } [البقرة: 228] وقد مر. { وعشراً } أي يعتددن هذه المدة وهي أربعة أشهر وعشرة أيام. وإنما قيل: { عشراً } ذهاباً إلى الليالي والأيام داخلة معها. قال في الكشاف: ولا نراهم قط يستعملون التذكير فيه ذاهبين إلى الأيام. وقيل في سبب التغليب: إن مبدأ الشهر من الليل، والأوائل أقوى من الثواني. وأيضاً هذه الأيام أيام الحزن، وأيام المكروه خليقة أن تسمى ليالي استعارة، أو المراد عشر مدد كل منها يوم بليلته. وذهب الأوزاعي والأصم إلى ظاهر الآية وأنها إذا انقضت لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج نقل عن الحسن وأبي العالية أنه تعالى إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة. قلت: ولعل هذا من الأمور التي لا يعقل معناها كأعداد الركعات ونصب الزكوات، وإنما الله ورسوله أعلم بذلك. وهذه العدة واجبة على كل امرأة مات زوجها إلا إذا كانت أمة فإن عدتها نصف عدة الحرة عند أكثر الفقهاء. وعن الأصم أن عدتها عدة الحرائر تمسكاً بظاهر عموم الآية، وقياساً على وضع الحمل وإلا إذا كانت المرأة حاملاً فإنها إذا وضعت الحمل حلت وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة لقوله تعالى { وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن } [الطلاق: 4].
ولو زعم قائل أن ذلك في الطلاق فليعول على قصة سبيعة الأسلمية، ولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم:
"حللت فانكحي من شئت" . وعن علي رضي الله عنه أنها تتربص أبعد الأجلين. ولا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وذات الأقراء وغيرها والمدخول بها وغيرها. وقال ابن عباس: لا عدة عليها قبل الدخول. ورد بعموم الآية، ولهذا أيضاً لم يفرق بين أن ترى المعتدة في المدة المذكورة دم الحيض على عادتها أو لا تراه خلافاً لمالك فإنه قال: لا تنقضي عدتها حتى ترعادتها من الحيض في تلك الأيام مثل التي كانت عادتها. فإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة يكفيها حيضة واحدة، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا يكفيها الشهور، ثم مذهب الشافعي أنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة، كما أن ذات الأقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط وتعتبر المدة بالهلال ما أمكن، فإن مات الزوج في خلال شهر هلالي والباقي أكثر من عشرة أيام فتعد ما بقي وتحسب ثلاثة أشهر بعده بالأهلة وتكمل ذلك الباقي ثلاثين وتضم إليها عشرة أيام، فإذا انتهت من اليوم الأخير إلى الوقت الذي مات فيه الزوج فقد انقضت العدة، وإن كان الباقي دون عشرة أيام فتعده وتحسب أربعة أشهر بالأهلة وتكمل الباقي عشرة من الشهر السادس، وإن كان الباقي عشرة أيام فتعتد بها وبأربعة أشهر بالأهلة بعدها، وإن انطبق الموت على أول الهلال فتعتد بأربعة أشهر بالأهلة وبعشرة أيام من الشهر الخامس. واختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة؟ فعن بعضهم - ويوافقه جديد قول الشافعي - أنها ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة لما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "امرأة المفقود امرأته حتى يأتيها يقين موته أو طلاقه" وأيضاً فالنكاح معلوم بيقين فلا يزال إلا بيقين. وقال الأكثرون: السبب هو الموت. فلو انقضت المدة أو أكثرها ثم بلغها خبر وفاة الزوج وجب أن تعتد بما انقضى، والدليل عليه أن الصغيرة التي لا علم لها تكفي في انقضاء عدتها هذه المدة. ثم المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح بالإجماع، والامتناع عن الخروج من المنزل إلا عند الضرورة والحاجة والإحداد ويعني به ترك التزين بثياب الزينة وترك التحلي والتطيب والتدهن والاكتحال بالإثمد، ويحرم عليها أن تخضب بالحناء ونحو ذلك فيما يظهر من اليدين والرجلين والوجه. ولا منع منه فيما تحت الثياب ولا منع من التزين في الفرش والبسط والستور وأثاث البيت ومن التنظيف بغسل الرأس والامتشاط وقلم الأظفار والاستحداد ودخول الحمام وإزالة الأوساخ. والعدة تنقضي إن تركت الإحداد ولكنّها تعصي لما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً" وعن الحسن والشعبي أنه غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه لكنه صلى الله عليه وسلم قال: "المتوفى عنها زوجها لا تلبس المعصفر من الثياب ولا الممشقة ولا الحلى ولا تختضب ولا تكتحل" والممشقة المصبوغة بالمشق وهو الطين الأحمر. وقد يحتج بقوله { والذين يتوفون منكم } من قال: الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الشرائع وإلا لم يخص الخطاب في { منكم } بالمؤمنين. والجواب إنما خصوا بالخطاب لأنهم هم العاملون بذلك كقوله تعالى { إنما أنت منذر من يخشاها } [النازعات: 45] مع أنه منذر للكل { ليكون للعالمين نذيراً } [الفرقان: 1] { فإذا بلغن أجلهن } إذا انقضت عدتهن { فلا جناح عليكم } أيها الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد، أو أيها الحكام وصلحاء المسلمين لأنهن إذا تزوجن في مدة العدة وجب على كل أحد منعهن عن ذلك، فإن عجز استعان بالسلطان وذلك لأن المقصود من هذه العدة الأمن من اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول. وقيل: معناه لا جناح عليكم وعلى النساء فيما فعلن في أنفسهن من التعرض للخطاب بالتزين والتطيب ونحوهما مما تنفرد المرأة بفعله، وفيه دليل على وجوب الإحداد بالمعروف بالوجه الذي يحسن عقلاً وشرعاً. وقد يحمل أصحاب أبي حنيفة الفعل ههنا على التزويج فيستدلونه به على جواز النكاح بلا ولي. بعد تسليم أن المراد من الفعل هو التزويج أن الفعل قد يسند إلى المسبب مثل "بنى الأمير داراً" وقد تقدم في قوله { أن ينكحن أزواجهن } [البقرة: 232] ثم ختم الآية بالتهديد المشتمل على الوعيد فقال: { والله بما يعملون خبير }.
الحكم الرابع عشر: خطبة النساء وذلك قوله سبحانه { ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء } والتعريض ضد التصريح ومعناه أن تضمر كلامك كي يصلح للدلالة على المقصود وعلى غير المقصود إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح، ولهذا قد يقال: إنه سوق الكلام لموصوف غير مذكور كما يقول المحتاج: جئتك لأنظر إلى وجهك الكريم. ومنه قول الشاعر:

وحسبك بالتسليم مني تقاضياً

وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ولهذا قيل: "إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب" وهو قسم من أقسام الكناية. والخطبة أصلها من الخطب وهو الأمر والشأن خطب فلان فلانة أي سألها أمراً وشأناً في نفسها. وكذا في الخطبة والخطاب فإن في كل منهما شأناً. ثم النساء على ثلاثة أقسام: أحدها: أن تجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً وهي الخالية عن الزوج والعدة إلا إذا كان قد خطبها آخر وأجيب إليه، وعليه يحمل قوله صلى الله عليه وسلم "لا يخطب أحدكم على خطبة أخيه" فإن وجد صريح الإباء أو لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد فالأصح أنه يجوز خطبتها لأن السكوت لا يدل على الرضا خلافاً لمالك. وثانيها: ما لا يجوز خطبتها تعريضاً ولا تصريحاً وهي منكوحة الغير، لأن خطبتها ربما صارت سبباً لتشويش الأمر على زوجها، ولامتناع المرأة عن أداء حقوق الزوج إذا وجدت راغباً فيها، وكذا الرجعية فإنها في حكم المنكوحة بدليل أنه يصح طلاقها وظهارها ولعانها وتعتد منه عدة الوفاة ويتوارثان. وثالثها: ما يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية سواء كانت معتدة عن وفاة، أو عن طلقات ثلاث، أو عن طلقة بائنة كالمختلعة، أو عن فسخ. وسبب ا لتحريم أنها مستوحشة بالطلاق فربما كذبت في انقضاء العدة بالأقراء مسارعة إلى مكافاة الزوج. وأما المعتدة عن وفاة فظاهر الآية يدل على أنها في حقها لأنها ذكرت عقيب آية عدة المتوفى عنها زوجها، ثم إنه خص التعريض بعدم الجناح فوجب أن يكون التصريح بخلافه، ثم المعنى يؤكد ذلك وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح، فالغالب أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها إلى الكذب. قال الشافعي: والتعريض كثير كقوله "رب راغب فيك" أو "من يجد مثلك" أو "لست بأيم" و "إذا حللت فأعلميني". وعد آخرون من ألفاظ التعريض أو يقول لها: "إنك لجميلة" أو "صالحة" و "من غرضي أن أتزوج" و "عسى الله أن ييسر لي امرأة صالحة" ونحو ذلك من الكلام الموهم أنه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه. والتصريح أن يقول: إني أريد أن أنكحك أو أتزوجك أو أخطبك. وعن أبي جعفر محمد بن علي أنها دخلت عليه امرأة وهي في العدة فقال: قد علمت قرابتي من رسول الله صلى الله عليه وسلم وحق جدي عليّ وقدمي في الإسلام. فقالت: غفر الله لك أتخطبني في عدتي وأنت يؤخذ عنك؟ فقال: إنما أخبرتك بقرابتي من نبي الله. قد دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أم سلمة وكانت عند ابن عمها أبي سلمة فتوفي عنها فلم يزل يذكر لها منزلته من الله وهو متحامل على يده حتى أثر الحصير في يده. فما كانت تلك خطبة { أو أكننتم في أنفسكم } أو سترتم وأضمرتم في قلوبكم فلم تذكروه بألسنتكم، لا معرّضين ولا مصرحين. أباح التعريض في الحال أولاً ثم أباح أن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء العدة، ثم ذكر الوجه الذي لأجله أباح التعريض فقال: { علم الله أنكم ستذكرونهن } لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لم يكد المرء يصبر عن النطق بما ينبئ عن ذلك فأسقط الله تعالى عنه الحرج. ثم قال: { ولكن } أي فاذكروهن ولكن { لا تواعدوهن سراً } والسر وقع كناية عن النكاح الذي هو الوطء لأنه مما يسر. ثم عبر به عن النكاح الذي هو العقد لأنه سبب فيه كما فعل بالنكاح { إلا أن تقولوا قولاً معروفاً } وهو أن تعرضوا ولا تصرحوا. والمعنى لا تواعدوهن مواعدة سرية إلا مواعدة الإحسان إليها والاهتمام بمصالحها حتى يصير ذكر هذه الأشياء مؤكداً لذلك التعريض. فالمواعدة المنهي عنها إما أن تكون المواعدة في السر بالنكاح فيكون منعاً من التصريح، وإما المواعدة بذكر الجماع كقوله: إن نكحتك آنك الأربعة والخمسة. وعن ابن عباس أو كقوله: دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك. عن الحسن أو يكون ذلك نهياً عن مسارة الرجل المرأة الأجنبية لأن ذلك يورث نوع ريبة، أو نهياً أن يواعدها أن لا تتزوج بأحد سواه. ويحتمل أن يكون السر صفة للموعود به أي لا تواعدوهن بشيء يوصف بكونه سراً إلا بأن تقولوا قولاً معروفاً وهو التعريض. وعن ابن عباس هو أن يتواثقا أن لا تتزوج غيره { ولا تعزموا عقدة النكاح } من عزم الأمر وعزم عليه. والعزم عقد القلب على فعل من الأفعال معناه ولا تعزموا عقد عقدة النكاح، أو لا تعزموا عقدة النكاح أن تعقدوها، وإذا نهى عن العزم فعن نفس الفعل أولى. وقيل: معنى العزم القطع أي لا تحققوا ذلك ولا توجبوه ومنه قوله صلى الله عليه وسلم "لا صيام لمن لم يعزم الصيام من الليل" وروي "لم يبيت الصيام" وقيل: لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح مثل عزمت عليك أن تفعل كذا. وأصل العقد الشد والعهود والأنكحة تسمى عقوداً تشبيهاً بالحبل الموثق بالعقد { حتى يبلغ الكتاب أجله } المراد منه المكتوب أي تبلغ العدة المفروضة آخرها وانقضت، ويحتمل أن يكون مصدراً بمعنى الفرض أي حتى يبلغ هذا التكليف نهايته. وباقي الآية بيان موجبي الخوف والرجاء كما تقدم.
الحكم الخامس عشر: حكم المطلقة قبل الدخول وقبل فرض المهر وذلك قوله عز من قائل { لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة } واعلم أن عقد النكاح يوجب بدلاً على كل حال، وذلك البدل إما أن يكون مذكوراً أو غير مذكور. فإن كان مذكوراً فإن حصل الدخول استقر كله وعدتها ثلاثة قروء كما سبق، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق كما يجيء في الآية التالية، وإن لم يكن البدل مذكوراً فإن لم يحصل الدخول فحكمها في هذه الآية وهو أن لا مهر لها ويجب لها المتعة، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل قياساً على الموطوءة بالشبهة، بل أولى لوجود النكاح الصحيح. وقد يستنبط حكمها من قوله تعالى
{ فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن } [النساء: 24] ويحتمل أن يقال: هذه الآية تدل على أنه لا مهر للتي لا تكون ممسوسة ولا مفروضاً لها، فيعرف من ذلك وجود المهر للممسوسة غير المفروض لها وللمفروض لها غير الممسوسة. وقد سلف حكم الممسوسة المفروض لها فتبين اشتمال القرآن على أحكام جميع الأقسام. فإن قيل: ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح على المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك، فإنه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس. قلنا: لعل الآية وردت لبيان إباحة الطلاق على الإطلاق، وهذا الإطلاق لا يصح إلا قبل المسيس إذ بعده يحتاج إلى أن يكون الطلاق في طهر لم يجامعها فيه، أو لعل "ما" بمعنى "التي" لا للمدة. والتقدير: لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن. ولا يلزم منه وجود الجناح في تطليق غيرهن، أو المراد من الجناح في الآية لزوم المهر أي لا مهر عليكم ولا تبعة في تطليقهن، فإن الجناح في اللغة الثقل يقال: جنحت السفينة إذا مالت بثقلها. ومما يؤكد ذلك أنه نفي الجناح ممدوداً إلى غاية هي إما المسيس أو الفرض. والجناح الذي ثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر فحصل القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر. وأيضاً إن تطليق النساء قبل المسيس إما أن يكون قبل تقدير المهر أو بعده. وفي القسم الثاني أوجب نصف المفروض كما يجيء فيجب أن يكون المنفي في القسم الأول مقابل المثبت في الثاني. واتفقوا على أن المراد بالمسيس أو المماسة في الآية الجماع، ولا يخفى حسن موقع هذه الكناية، وفيه تأديب للعباد في اختيار أحسن الألفاظ للتخاطب والتفاهم. والفرض في اللغة التقدير أي تقدروا مقدراً من المهر. ومعنى "أو" ههنا أن رفع الجناح منوط بعدم المسيس، أو بعدم الفرض على سبيل منع الخلوة فقط، ولهذا صح اجتماعهما في هذا الحكم. وقيل: إنها بمعنى الواو. وقيل: بمعنى "إلا أن" وقيل: بمعنى "حتى" والكل تعسف. ثم إنه تعالى لما بيّن أنها لا مهر لها قبل المسيس والتسمية، ذكر أن لها المتعة فقال: { ومتعوهن } فذهب الشافعي وأبو حنيفة إلى أنها واجبة نظراً إلى الأمر، وأنه للوجوب ظاهراً وهو قول شريح والشعبي والزهري. وعن مالك: ويروى عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة لأنه تعالى قال في آخر الآية: { حقاً على المحسنين } فجعلها من باب الإحسان. ورد بأن لفظ "على" منبئ عن الوجوب. وكذا قوله { حقاً } وأصل المتعة والمتاع ما ينتفع به انتفاعاً منقضياً ولهذا قيل: الدنيا متاع. ويسمى التلذذ تمتعاً لانقطاعه بسرعة. { على الموسع قدره وعلى المقتر قدره } أوسع الرجل إذا كان في سعة من ماله، وأقتر ضده من القترة وهي الغبار، فكأنه التصق بالأرض لضيق ذات يده. وقدره أي قدراً مكانه وطاقته فحذف المضاف، أو قدره مقداره الذي يطيقه لأن ما يطيقه هو الذي يختص به. والقدر والقدر لغتان في جميع معانيهما، وفي الآية دليل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات وبيّن أن الموسع يخالف المقتر. قال الشافعي: المستحب على الموسع خادم، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً، وعلى المقتر مقنعة. وعن ابن عباس أنه قال: أكثر المتعة خادم، وأقلها مقنعة، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة، والنظر في اليسار والإعسار إلى العادة. وقال أبو حنيفة: المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل، لأن حال المرأة التي سمي لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها. ثم لما لم يجب زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول فهذه أولى. { متاعاً } تأكيد لمتعوهن أي تمتيعاً بالمعروف بالوجه الذي يحسن في الدين والمروءة، وعلى قدر حال الزوج في الغنى والفقر، وعلى ما يليق بالزوجة بحسب الشرف والوضاعة حق ذلك { حقاً على المحسنين } لأنهم الذين ينتفعون بهذا البيان، أو من أراد أن يكون محسناً فهذا شأنه وطريقته، أو على المحسنين إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى.
الحكم السادس عشر: حكم المطلقة قبل الدخول وبعد فرض المهر وذلك قوله سبحانه { وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن } الآية. واعلم أن مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر. وقال أبو حنيفة: الخلوة الصحيحة تقرر المهر وهي أن لا يكون هناك مانع حسي أو شرعي. فالحسي نحو الرتق والقرن والمرض أو يكون معهما ثالث وإن كان نائماً. والشرعي كالحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق فرضاً كان أو نفلاً. وقوله { وقد فرضتم } في موضع الحال. ومعنى قوله { فنصف ما فرضتم } فعليكم نصف ذلك، أو فنصف ما فرضتم ساقط أو ثابت { لا أن يعفون } أي المطلقات على أزواجهن فتقول المرأة: ما رآني ولا خدمته ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً؟ والفرق بين قولك "النساء يعفون" وبين "الرجال يعفون" هو أن الواو في الأول لام الفعل والنون ضمير جماعة النساء ولم يحذف منه شيء، وإنما وزنه يفعلن والفعل مبني لا أثر في لفظه للعامل، والواو في الثاني ضمير جماعة الذكور واللام محذوف ووزنه "يعفون" والنون علامة الرفع، فقوله { أو يعفو } عطف على محل { أن يعفون } والذي بيده عقدة النكاح الولي وهو قول الشافعي، ويروى عن الحسن ومجاهد وعلقمة. وقيل: الزوج وهو مذهب أبي حنيفة ويروى عن علي وسعيد بن المسيب. وكثير من الصحابة والتابعين قالوا: ليس للولي أن يهب مهر مولاته صغيرة كانت أو كبيرة. وأيضاً الذي بيد الولي هو عقدة النكاح، فإذا عقد حصلت العقدة أي المعقودة كالأكلة واللقمة، ثم هذه العقدة بيد الزوج لا الولي وعن جبير بن مطعم أنه تزوج امرأة وطلقها قبل الدخول فأكمل لها الصداق وقال: أنا أحق بالعفو. حجة الأولين أن الصادر عن الزوج هو أن يعطها كل المهر وذلك يكون هبة والهبة لا تسمى عفواً اللهم إلا أن يقال: كان الغالب عندهم أن يسوق إليها المهر عند التزوج فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها. أو يقال: سماه عفواً على طريقة المشاكلة، أو لأن العفو والتسهيل. فعفو الرجل هو أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة. حجة أخرى لو كان المراد به الزوج وقد قال أولاً: { وإن طلقتموهن } ناسب أن يقال: { إلا أن يعفون } أو تعفو على سبيل الخطاب أيضاً، وأجيب بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة هو التنبيه على المعنى الذي لأجله يرغب في العفو. والمعنى إلا أن يعفون أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق، وإن فارقها الزوج فلا جرم كان حقيقاً بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها. ثم قال الشافعي: إذا ثبت أن الذي بيده عقدة النكاح هو الولي، فهم منه أن النكاح لا ينعقد بدون الولي، وذلك للحصر المستفاد من تقديم { بيده } على { عقدة النكاح } فتبين أنه ليس في يد المرأة من ذلك شيء { وأن تعفوا أقرب للتقوى } قيل: اللام بمعنى "إلى" والتقدير: العفو أقرب إلى التقوى. والخطاب للرجال والنساء جميعاً إلا أنه غلب الذكور لأصالتهم وكمالهم، وإنما كان عفواً لبعض عن البعض أقرب إلى حصول معنى الاتقاء لأن من سمح بترك حقه تقرباً إلى ربه فهو من أن يأخذ حق غيره أبعد، ولأنه إذا استحق بذلك الصنع الثواب فقد اتقى العقاب واحترز عنه { ولا تنسوا الفضل } لا تتركوا التفضل والتسامح فيما بينكم، وليس نهياً عن النسيان فإن ذلك غير مقدور، بل المراد منه الترك. وذلك أن الرجل إذا تزوج المرأة فقد يتعلق قلبها به فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سبباً لتأذيها منه. وأيضاً إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهرها من غير أن يكون قد انتفع بها صار ذلك سبباً لتأذيه منها، فلا جرم ندب الله تعالى كلاً منهما إلى تطييب قلب الآخر ببذل كل المهر أو تركه وإلا فالتنصيف. عن جبير بن مطعم أنه دخل على سعد بن أبي وقاص فعرض عليه بنتاً له فتزوجها. فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كملاً فقيل له: لم تزوجتها؟ فقال: عرضها علي فكرهت رده. قيل: فلم بعثت بالصداق؟ قال: فأين الفضل؟ ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجري مجرى الوعد والوعيد على العادة المعلومة فقال: { إن الله بما تعملون بصير }.