التفاسير

< >
عرض

مَّثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ وَٱللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ وَٱللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
٢٦١
ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ ثُمَّ لاَ يُتْبِعُونَ مَآ أَنْفَقُواُ مَنّاً وَلاَ أَذًى لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٢٦٢
قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى وَٱللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ
٢٦٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَٰتِكُم بِٱلْمَنِّ وَٱلأَذَىٰ كَٱلَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلْكَافِرِينَ
٢٦٤
وَمَثَلُ ٱلَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوٰلَهُمُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
٢٦٥
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ ٱلثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ ٱلْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَٱحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلأيَٰتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ
٢٦٦
-البقرة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { أنبتت سبع } وبابه بالإدغام: أبو عمرو وحمزة وعلي وخلف وهشام وسهل. { يضعف } وبابه: ابن كثير وابن عامر ويزيد ويعقوب. الباقون { يضاعف } { رياء الناس } غير مهموز حيث كان يزيد والشموني والخزاعي عن ابن فليح وحمزة في الوقف. الباقون بالهمزة. { الكافرين } بالإمالة: أبو عمرو وعلي غير ليث وأبي حمدون وحمدويه ورويس عن يعقوب، وكذلك ما كان محله النصب من الإعراب كل القرآن { بربوة } بفتح الراء حيث كان ابن عامر وعاصم. الباقون بضمها { أكلها } وبابه ساكنة الكاف: ابن كثير ونافع وافق أبو عمرو فيما اتصلت بالهاء والألف { بما يعملون بصير } بالياء التحتانية: أبو/ عون عن قنبل. الباقون بالتاء للخطاب.
الوقوف: { مائة حبة } ط، { لمن يشاء } ط، { عليم } ه، { عند ربهم } ج لعطف المختلفتين، { يحزنون } ه، { أذى } ط { حليم } ه، { والأذى } (لا) لتعلق كاف التشبيه أي إبطالاً مثل إبطال الذي، { الآخر } ط، { صلدا } ط، { كسبوا } ط، { الكافرين } ه، { ضعفين } ج لابتداء الشرط مع فاء التعقيب واتحاد الكلام، { فطل } ط، { بصير } ه، { الأنهار } (لا) لأن ما بعده صفة لجنة أيضاً، { الثمرات }(لا) لأن الواو وللحال، { ضعفاء } ص والوصل أولى والوقف على { فاحترقت } ط لتناهي مقصود الاستفهام والمعنى: أيحب أحدكم احتراق جنة صفتها كذا في حال كذا؟ { تتفكرون } ه.
التفسير: إنه سبحانه لما ذكر من أصول المبدأ والمعاد ما اقتضاه المقام أتبعه ببيان التكاليف والأحكام. قال القاضي في كيفية النظم: إنه تعالى لما أجمل في قوله
{ من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة } [البقرة: 245]، فصّل بعد ذلك بهذه الآية تلك الأضعاف، وإنما ذكر بين الآيتين الأدلة على قدرته على الإحياء والإماتة لأنه لولا وجود الإله المثيب المعاقب بعد الحشر لكان التكليف بالإنفاق وسائر الطاعات عبثاً كأنه قال: قد عرفت أني خلقتك وأكملت نعمي عليك بالإحياء والإقدار، وقد علمت قدرتي على المجازاة، فليكن علمك بهذه الأصول داعياً إلى إنفاق الأموال فإنه يجازي القليل بالكثير، ثم ضرب لذلك الكثير مثلاً وهو من الواحد إلى سبعمائة. وعن الأصم أنه تعالى ضرب هذا المثل بعد ما احتج على الكل بما يوجب تصديق النبي صلى الله عليه وسلم ليرغبوا في المجاهدة بالنفس والمال في نصرته وإعلاء شريعته. وقيل: إنه تعالى لما بين أنه وليّ المؤمنين، وأن الكفار أولياؤهم الطاغوت، بيّن مثل ما ينفق المؤمن في سبيل الله وما ينفق الكافر في سبيل الطاغوت. قلت: لما بين صحة المعاد ولا بد له من زاد ولا يمكن التزود من الأموال التي يمتلكها العباد بالإنفاق، أتبعه أحكامه فقال { مثل الذين } ولا بد من إضمار ليصح التشبيه أي مثل صدقاتهم كمثل حبة أو مثلهم باذر حبة. وسبيل الله دينه. فقيل الجهاد، وقيل جميع أبواب الخير. والمنبت هو الله، ولكن الحبة لما كانت سبباً أسند إليها الإنبات كما يسند إلى الأرض وإلى الماء. ومعنى إنباتها سبع سنابل أن تخرج ساقاً يتشعب منها سبع شعب لكل واحد سنبلة. وهذا التمثيل تصوير للأضعاف سواء وجد في الدنيا سنبلة بهذه الصفة أو لم توجد، على أنه قد يوجد في الجاورس والذرة وغيرهما مثل ذلك. وسبع سنابل مثل ثلاثة قروء في إقامة جمع الكثرة مقام القلة. { والله يضاعف } أي تلك المضاعفة لمن يشاء لا لكل منفق لتفاوت أحوال المنفقين في الإخلاص، أو يضاعف سبع المائة ويزيد عليها أضعافها/ لمن يستحق ذلك في مشيئته. { والله واسع } كامل القدرة على المجازاة لأن فيضه غير متناه { عليم } بمقادير الإنفاقات وبمواقعها ومصارفها بإخلاص صاحبها، وإذا كان الأمر كذلك فلن يضيع عمل عامل له عنده. ثم لما عظم أمر الإنفاق أردف ببيان الأمور التي يجب رعايتها حتى يبقى ذلك الثواب منها: ترك المن والأذى، والمنّ قد يراد به الإنعام قال تعالى { ولا تمنن تستكثر } [المدثر: 6] وقد يراد به إظهار الاصطناع وهو مذموم ولهذا قيل: صنوان مٌَّن مُنِحَ سائله ومَنٌّ منع نائله وضنّ. وذلك لما فيه من انكسار قلب الفقير، ومن تنفير ذوي الحاجة عن صدقته، ومن عدم الاعتراف بأن النعمة نعمة الله والعباد عباده، وأن المعطي هو الله. وإذا كان العبد في هذه الدرجة كان محروماً عن مطالعة الأسباب الربانية الحقيقية، وكان في درجة البهائم التي لا يترقى نظرهن من المسحوس إلى المعقول، ومن الآثار إلى المؤثرات. وأما الأذى فمهم من حمله على أذى المؤمنين على الإطلاق، والمحققون خصصوه بما تقدم ذكره وهو أن يتطاول على الفقير بما أدل إليه ويقول له: ألست إلا مبرماً وما أنت إلا ثقيل، وباعد الله ما بيني وبينك. ومعنى "ثم" تراخي الرتبة وإظهار التفاوت بين الإنفاق وترك المن والأذى، وإن تركهما خير من نفس الإنفاق بل ترك كل منهما لأنهما نكرتان في سياق النفي { لهم أجرهم } وقال فيما يجيء { فلهم أجرهم } } [البقرة: 274] لأن الموصول ههنا لم يضمن معنى الشرط وضمنه ثمة، وفرق معنوي وهو أن الفاء دلالة على أن الإنفاق سبب استحقاق الأجر وطرحها عارٍ عن تلك الدلالة. ثم إنه ذكر هنالك الإنفاق منهم على سبيل المواظبة والاستمرار فكان التأكيد بما يوجب الربط بينهما ما هنالك أنسب. { ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون } أي لا يخافون فوات ثواب الإنفاق. ولا يحزنون بالفوات كقوله { ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً } [طه: 112] والمراد أنهم يوم القيامة لا يخافون العذاب ولا يحزنهم الفزع الأكبر. ويعلم من قوله { في سبيل الله } أن قوله { لهم أجرهم } مشروط بأن لا يوجد منهم الكفر، ويعلم من قوله { ثم لا يتبعون } أن المن والأذى من قبيل الكبائر حيث يخرجان هذه الطاعة العظيمة عن الاعتداد بها. احتجت المعتزلة بالآية من وجهين: الأول أن العمل يوجب الأجر لقوله { لهم أجرهم } وأجيب بأن ذلك بسبب الوعد لا بسبب نفس العمل. الثاني أن الكبائر تحبط ثواب فاعلها وإلا لم يكن المن والأذى مبطلين ثواب الإنفاق، وأجيب بأن الإنفاق على تقدير المن والأذى لا ثواب له أصلاً، فكيف يتصور رفع ما لم يوجد؟ { قول معروف } تقبله القلوب ولا تنكره وذلك أن يرد السائل بطريق أحسن وعدة حسنة { ومغفرة } عفو عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول لأنه إذا رد بغير مقصوده فربما حمله ذلك على بذاءة اللسان أو نيل مغفرة من الله بسبب الرد الجميل أو عفو من جهة السائل بأن يعذر المسؤول إذا رده رداً جميلاً { خير من صدقة يتبعها أذى } لأنه إذا أتبع الإيذاء الإعطاء فقد جمع بين الإنفاع والإضرار، وربما لم يف ثواب النفع بعقاب الضر. وأما القول المعروف ففيه إنفاع من حيث إيصال السرور إلى قلب المؤمن ولا إضرار، فكان الأولى { ومن الناس } الناس من خصص الآية بالتطوع لأن الواجب لا يحل منعه ولا رد السائل فيه. ورد بأن الواجب قد يعدل به عن سائل إلى سائل وعن فقير إلى فقير { والله غني } عن صدقة كل منفق، فما وجه المن؟ { حليم } عن معاجلته بالعقوبة إذا مَنّ، ولا يخفى ما فيه من الوعيد. ثم إنه تعالى ضرب لكل واحد من المؤذي وغير المؤذي مثلاً فقال تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } وعن ابن عباس: بالمن على الله والأذى للفقير، { كالذي } أي كإبطال المنافق الذي { ينفق ماله رئاء الناس } وهو أن يرائي بعمله غيره ولا يريد رضا الله وثواب الآخرة، ويجوز أن تكون الكاف في محل النصب على الحال أي لا تبطلوا صدقاتكم مماثلين للذي ينفق، فمثله الضمير إما أن يكون عائداً إلى المنافق على أنه تعالى شبه المانّ بالمرائي المنافق، ثم شبه المنافق بالحجر. وإما أن يعود إلى المانِّ المؤذى على أنه شبهه بالمنافق ثم شبهه بالحجر. والصفوان الحجر الأملس، الوابل المطر العظيم القطر، والصلد الأجرد النقي ومنه صلد جبين الأصلع إذا برق. وهذا المثل ضربه الله لعمل المانِّ المؤذي ولعمل المنافق، فإن الناس يرون في الظاهر أن لهؤلاء أعمالاً كما يرى التراب على هذا الصفوان، فإذا كان يوم القيامة اضمحل كله وبطل لأنه تبين أن تلك الأعمال ما كانت لله تعالى ولم يؤت بها على وجه يستحق الثواب كما أذهب الوابل ما كان على الصفوان من التراب. وأما المعتزلة فقالوا: إن تلك الصدقة أوجبت الأجر والثواب، ثم إن المنَّ والأذى أزالا ذلك الأجر بناء على مذهبهم من الإحباط والتكفير. فعلى مذهبنا: العمل الظاهر كالتراب، والمان المؤذي أو المنافق كالصفوان ويوم القيامة كالوابل. وعلى قولهم: المن والأذى كالوابل، وعن القفال: ان عمل المانِّ مشبه بما إذا طرح بذراً في صفوان صلد عليه غبار قليل، فإذا أصابه مطر جود بقي مستودع بذره خالياً لا شيء فيه. ألا ترى أنه ضرب مثل المخلص بجنة فوق ربوة؟ وعلى هذا فقوله { لا يقدرون على شيء } الضمير فيه عائد إلى معلوم غير مذكور، أي لا يقدر أحد من الخلق على ذلك البذر الملقى في ذلك التراب الذي فرض على الصفوان لأنه خرج عن الانتفاع به، فكذا المانُّ والمؤذي والمنافق لا ينتفع واحد منهم بعمله يوم القيامة، وناهيك بكون المانِّ والمنافق ملزوزين في قرن شناعة شأن المن والأذى، وقيل: الضمير عائد إلى الذي إما لأن "من" و "الذي" متعاقبان فكأنه قيل: كمّن ينفق، وإما لأن المراد المراد الفريق الذي، وإما لأنه أشير/ بالذي إلى الجنس والجنس في حكم العام. وقيل: المعنى لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى فإنكم إن فعلتم ذلك لم تقدروا على شيء مما كسبتم، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة كقوله { حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم } [يونس: 22]. { والله لا يهدي القوم الكافرين } معناه - على قولنا - سلب الإيمان عنهم، وعلى قول المعتزلة أنه يضلهم عن الثواب وطريق الجنة لسوء اختيارهم { ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله } طلباً لمرضاته { وتثبيتاً من أنفسهم } قيل: أي يوطنون أنفسهم على حفظ هذه الطاعة وترك ما يفسدها من المن والأذى. وقيل: تثبيتاً من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة في الإيمان مخلصة فيه، ويعضده قراءة مجاهد { وتبييناً } من البيان. وقيل: إن النفس لا ثبات لها في موقف العبودية إلا إذا صارت مقهورة بالرياضة ومعشوقها أمران الحياة العاجلة والمال، فإذا بذل ماله وروحه معاً فقد ثبت نفسه كلها { وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم } [الصف: 11] وإذا بذل ماله لوجه الله فقد ثبت بعض نفسه، فعلى هذا "من" للتبعيض ذكره في الكشاف، قال الزجاج: تصديقاً للإسلام وتحقيقاً للجزاء من أصل أنفسهم جازمين بأن الله تعالى لا يضيع ثوابهم فـ "من" على هذا للابتداء، وجزمهم بالثواب هو المراد بالتثبيت. وعن الحسن ومجاهد وعطاء: المراد أنهم يثبتون أنفسهم تثبيتاً في طلب المستحق وصرف المال في وجهه. قال الحسن: كان الرجل إذا هَمَّ بصدقة يتثبت فإن كان لله أمضى وإن خالطه شك أمسك. وقيل: إنه إذا أنفق لأجل عبودية الحق لا لأجل غرض النفس وحظ من حظوظها فهناك اطمأن قلبه واستقرت نفسه ولم يحصل لنفسه منازعة مع قلبه فذلك الاستقرار هو التثبيت. ويحتمل أن يكو ن المراد به حصول ملكة الإنفاق بحيث يحصل عنه بطريق الاطراد والاعتياد لا بطريق البخت والاتفاق، فإن الأخلاق ما لم تصر ملكات لصاحبها لم تكد يظهر على جوهر النفس صفاؤها ونوريتها. والمعنى أن مثل نفقة هؤلاء في زكائها عند الله كمثل جنة وهي البستان. وقرىء { كمثل جنة بربوة } بمكان مرتفع من ربا الشيء يربو إذا زاد وارتفع، ومنه الربو لزيادة التنفس، والربا في المال. قيل: وإنما خص المكان المرتفع لأن الشجر فيها أزكى وأحسن ثمراً. واعترض عليه بأن المكان المرتفع لا يحسن ريعه لبعده عن الماء وربما تضربه الرياح كما أن الوهاد لكونها مصب المياه قلما يحسن ريعها، فإذن البستان لا يصلح له إلا الأرض المستوية، فالمراد بالربوة أرض طيبة حرة تنتفخ وتربو إذا نزل عليها المطر، فإنها إذا كانت على هذه الصفة كثر دخلها وكمل شجرها كقوله تعالى { وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت } } [الحج: 5] ومما يؤكد ما ذكرنا أن هذا المثل، في مقابلة المثل الأول، فكما أن الصفوان لا/ يربو ولا ينمو بسبب نزول المطر عليه فينبغي أن تكون هذه الأرض بحيث تربو وتنمو { فآتت أكلها } أي ثمرتها وما يؤكل منها { ضعفين } مثلي ما كان يعهد منها. وقيل: مثلي ما يكون في غيرها { فإن لم يصبها وابل فطل } مطر صغير القطر يصيبها ولا ينتقص شيء من ثمرها لكرم منبتها، أو المراد أنها على جميع الأحوال لا تخلو من أن تثمر قل أم كثر، وكذلك من أخرج صدقة لوجه الله لا يضيع كسبه وفّر أم نزر. ويحتمل أن يمثل حالهم عند الله بالجنة على الربوة، ونفقتهم القليلة والكثيرة بالوابل والطل، وكما أن الكل واحد من المطرين يضعف أكل الجنة فكذلك نفقتهم تزيد في زلفاهم وحسن حالهم { والله بما تعملون } من وجوه الإنفاق وكيفيتها والأمور الباعثة عليها { بصير } فيجازي بحسب النيات وخلوص الطويات. ثم إنه سبحانه رغب في الإنفاق المعتبر الجامع لشرائطه وحذر عن ضده بأن ضرب مثالاً آخر فقال { أيود أحدكم } والهمزة للإنكار البالغ أي لن يود. قرىء { له جنات } وقد وصف الله تعالى الجنة بثلاثة أوصاف الأول: كونها من نخيل وأعناب كأن الجنة إنما تكوّنت منهما لكثرتهما فيها. الثاني: تجري من تحتها الأنهار، ولا شك أن ذلك يزيد في رونقها وبهائها. والثالث: فيها من كل الثمرات، وإنما خص النخيل والأعناب أولاً بالذكر لأنهما أكرم الشجر أو أكثرها منافع. قال في الشكاف: ويجوز أن يريد بالثمرات المنافع التي كانت تحصل له فيهما كقوله { وكان له ثمر } [الكهف: 34] بعد قوله { جنتين من أعناب وحففناهما بنخل } [الكهف: 32]. ثم شرع في بيان شدة حاجة المالك إلى هذه الجنة فقال { وأصابه الكبر } أي والحال أنه قد أصابه الكبر. وقال الفراء: إنه معطوف على { يود } واستقام نظر المعنى لأنه يقال: وددت أن يكون كذا، ووددت لو كان كذا، فكأنه قيل: أيود أحدكم لو كانت له جنة واصابه الكبر وله ذرية ضعفاء. وقرىء { ضعاف } أي صبيان وأطفال { فأصابها إعصار } ريح تستدير في الأرض ثم تسطع نحو السماء كالعمود { فيه نار فاحترقت } أي الجنة ولا يخفى أن هذه المثل في المقصود أبلغ الأمثال، فإن الإنسان إذا كان له جنة في غاية الكمال، وكان هو في نهاية الاحتياج إلى المال - وذلك أوان الكبر مع وجود الأولاد الأطفال - فإذا أصبح وشاهد تلك الجنة محترقة بالصاعقة، فكم يكون في قلبه من الحسرة وفي عينه من الحيرة؟ فكذا الإنفاق نظير الجنة المذكورة وزمان الاحتياج يوم القيامة، فإذا أتبع الإنفاق النفاق أو المن والأذى كان ذلك كالإعصار الذي يحرق تلك الجنة ويورثه الخيبة والندامة.
التأويل: { الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله } فلهم الجنة، والذين ينفقون أرواحهم وقلوبهم في سبيل الله فلهم الله،
"ومن أعطى تمرة إلى فقير يأخذها الله بيمينه ويربيها كما يربي/ أحدكم فلوة أو فصيلة حتى تكون أعظم من الجبل" . فمن أعطى قلبه إلى الله فهو يربيه بين أصبعي جلاله حتى يصير أعظم من العرش بما فيه، وإن قوماً بذلوا المال لله، وقوماً بذلوا الحال بإيثار صفاء الأوقات وفتوحات الخلوات على طلاب الحق وأرباب الصدق للقيام بأمورهم في تشفي ما في صدورهم { ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة } } [الحشر: 9] فبذلوا ليحصلوا، وحصلوا لينفصلوا، وانفصلوا ليتصلوا، واتصلوا ليصلوا الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله في طلبه لا في طلب غيره من الثناء والجزاء { إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكوراً } [الدهر: 9] { ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا } على الله بأن يقول: عملت هذا العمل لأجلك ووجب لي عليك الأجر { ولا أذى } بأن يطلب من الله غير الله. رأى أحمد بن خضرويه ربه في المنام فقال له: كل الناس يطلبون مني إلا أبا يزيد فإنه يطلبني { لهم أجرهم عند ربهم } ينزلهم في مرتبة العندية { عند مليك مقتدر } [القمر: 55] لا عند الجنة ولا عند النار. { قول معروف } يصدر عن العارف بالله في طلب المعروف { ومغفرة } له وأن لم يكن عنده ما يتصدق { خير } له عند ربه { من صدقة يتبعها } من الجهل { أذى } طلب غير الحق من الحق { والله غني } عن غيره { حليم } لا يعجل بالعقوبة على من يختار في الطلب غيره، ولولا حلمه فما للتراب ورب الأرباب { يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى } فالمعاملات إذا كانت مشوبة بالأغراض ففيها نوع من الإعراض، ومن أعرض عن الحق فقد أقبل على الباطل ومن أقبل على الباطل فقد أبطل حقوقه في الأعمال { فماذا بعد الحق إلا الضلال } [يونس: 32]. ولو كان قصدك في الصدقة طلب الحق لما مننت على الفقير بل كنت رهين منته حيث صار سبب وصولك إلى الحق، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم " لولا الفقراء لهلك الأغنياء" " أي لم يجدوا سبيلاً إلى الحق. وفسر بعضهم اليد العليا بيد الفقير، واليد السفلى بيد الغني. لأن الفقير يأخذ منه الدنيا ويعطيه الآخرة { كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر } لأنه لو كان مؤمناً بالله لكان ينفق لله، ولو كان يؤمن بالآخرة لأنفق للآخرة لا للناس فمثل المرائي { كمثل صفوان عليه تراب } هو عمله { فأصابه وابل } وهو وابل الرد. " "أنا أغنى الأغنياء عن الشرك " { فتركه صلداً } مفلساً خائباً. { لا يقدرون عل شيء مما كسبوا } ليتوسلوا به إلى الله. { والله لا يهدي القوم الكافرين } بنعمة طلب شهود جماله فحرموا عن دولة وصاله. { وتثبيتاً من أنفسهم } وتخليصاً لنياتهم في طلب الحق ومرضاته من خطوط أنفسهم { كمثل جنة }/ هي قلب المخلص { بربوة } في رتبة عالية عند الحق { أصابها وابل } الواردت الربانية { فإن لم يصبها وابل فطل } الإلهامات { فآتت أكلها ضعفين } ضعف من نعيم الجنة وضعف من دولة الوصال وشهود "ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر" ، فإن الله تعالى كما يعطي أهل الآخرة نصيباً من الدنيا بالتبعية ولا يعطي أهل الدنيا نصيباً من الآخرة، فكذلك يعطي أهل الله نصيباً من الآخرة بالتبعية ولا يعطي أهل الآخرة ما لأهل الله من القربة { والله بما تعملون بصير } كيف تعملون ولماذا تعملون لابتغاء المرضاة أو لاستيفاء اللذات واستبقاء الحياة. ثم ضرب مثلاً لروح الإنسان وقلبه بجنةٍ له فيها من كل الثمرات إذا خلق في أحسن تقويم، مستعداً لجميع الكرامات، مشرفاً بعلم السمات، منوراً بأنوار العقل والحواس السليمات، متوحداً بحمل الأمانة، متفرداً برتبة الخلافة. جنة هي منظور نظر العناية تجري من تحتها أنهار الهداية، وأصاب صاحبها ضعف الإنسانية، { وله ذرية ضعفاء } من متولدات القوى البشرية في غاية الافتقار إلى التربية بأغذية ثمراتها { فأصابها إعصار } من أعمال البر { فيه نار } من الرياء والنفاق { فاحترقت } جنة الروحانية بنار صفات البشرية وتبدلت الأخلاق الروحية بالنفسية، والملكية بالشيطانية { كذلك يبين الله لكم الآيات لعلك تتفكرون } في إحسانه معكم بإيتاء الاستعداد الفطري، فلا تبطلوه بقبيح فعالكم، ولا تضيعوا أعماركم في طلب آمالكم، وتستعدوا للموت قبل حلول آجالكم والله المستعان وهو حسبي.