التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ أَرْسَلْنَآ إِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً أَنِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ
٤٥
قَالَ يٰقَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِٱلسَّيِّئَةِ قَبْلَ ٱلْحَسَنَةِ لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ
٤٦
قَالُواْ ٱطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ ٱللَّهِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ
٤٧
وَكَانَ فِي ٱلْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ يُصْلِحُونَ
٤٨
قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بِٱللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ
٤٩
وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ
٥٠
فَٱنظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ
٥١
فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوۤاْ إِنَّ فِي ذٰلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ
٥٢
وَأَنجَيْنَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٥٣
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ
٥٤
أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ
٥٥
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوۤاْ آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
٥٦
فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ ٱلْغَابِرِينَ
٥٧
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ ٱلْمُنذَرِينَ
٥٨
قُلِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلاَمٌ عَلَىٰ عِبَادِهِ ٱلَّذِينَ ٱصْطَفَىٰ ءَآللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ
٥٩
أَمَّنْ خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ
٦٠
أَمَّن جَعَلَ ٱلأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ ٱلْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱلله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ
٦١
أَمَّن يُجِيبُ ٱلْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ ٱلسُّوۤءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ ٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ
٦٢
أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ ٱلْبَرِّ وَٱلْبَحْرِ وَمَن يُرْسِلُ ٱلرِّيَاحَ بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ تَعَالَى ٱللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ
٦٣
أَمَّن يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعيدُهُ وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وٱلأَرْضِ أَإِلَـٰهٌ مَّعَ ٱللَّهِ قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٦٤
قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي ٱلسَّمَٰوٰتِ وٱلأَرْضِ ٱلْغَيْبَ إِلاَّ ٱللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ
٦٥
بَلِ ٱدَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ
٦٦
-النمل

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { لتنبيه } على الجمع المخاطب وهكذا { لتقولن }: حمزة وعلي وخلف. الباقون بالنون فيهما على التكلم { مهلك } بفتح الميم واللام: أبو بكر غير البرجمي وحماد والمفضل. وقرأ حفص بفتح الميم وكسر اللام. الباقون بضم الميم وفتح اللام والكل يحتمل المصدر والمكان والزمان { أنا دمرناهم } و { أن الناس } بالفتح فيهما: عاصم وحمزة وعلي وخلف وسهل ورويس { أئنكم } مذكور في "الأنعام" { يشكرون } بياء الغيبة: أبو عمرو وسهل ويعقوب وعاصم { أءله } مثل { أئنكم } { الريح } على التوحيد: ابن كثير وحمزة وعلي وخلف { يذكرون } بياء الغيبة: ابو عمرو وهشام. الآخرون بتاء الخطاب { بل أدرك } بقطع الهمزة وسكون الدال: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ويعقوب ويزيد المفضل { بل ادّرك } بهمزة موصولة ودال مشددة: الشموني. الباقون مثله ولكن بألف بعد الدال.
الوقوف: { يختصمون } ه { الحسنة } ج لابتداء استفهام آخر مع اتحاد القائل. { ترحمون } ه { معك } ط { تفتنون } ه { ولا يصلحون } ه { لصادقون } ه { لا يشعرون } ه { مكرهم } ط لمن قرأ. "إنا" بكسر الألف على الاستئناف. { أجمعين } ه { ظلموا } ط { يعلمون } ه { يتقون } ه { تبصرون } ه { النساء } ط { تجهلون } ه { قريتكم } ج لاحتمال تقدير لام التعليل { يتطهرون } ه { إلا أمرأته } ز لاحتمال أن ما بعده مستأنف والأظهر أنه حال تقديره استثناء امرأته مقدرة { في الغابرين } ه { مطر المنذرين } ه { اصطفى } ط { يشكرون } ه ط لأن ما بعده استفهام متسأنف و"أم" منقطعة تقديره بل أمن خلق السموات خير أمّا يشركون وكذلك نظائره { ماء } ج للعدول مع اتحاد المقول { بهجة } ط ولاحتمال الحال أي وقد ورد { خيراً } ط { القتال } ط { عزيزاً } ه ج للآية والعطف { فريقاً } ه ج لاحتمال أن يكون ما بعده استئنافاً أو حالاً { تطؤها } ط { قديراً } ه { جميلاً } ه { عظيماً } ه { ضعفين } ط { يسيراً } ه مرتين لا لأن التقدير وقد أعتدنا { كريماً } ه { معروفاً } ج للعطف { ورسوله } ط { تطهيراً } ه لوقوع العوارض بين المعطوفين { والحكمة } ط { خبيراً } ه { عظيماً } ه { من أمرهم } ط { مبيناً } ه { الناس } ج لاحتمال ما بعده الاستئناف والحال { تخشاه } ط { منهن وطراً } ط { مفعولاً } ه { له } ط { من قبل } لا { مقدوراً } ه لا بناء على أن { الذين } وصف أو بدل { إلا الله } ط { حسيباً } ه { النبيين } ط { عليماً } ه.
التفسير: لما فرغ من توبيخ المنافقين حث جمع المكلفين على مواساة الرسول وموازرته كما واساهم بنفسه في الصبر على الجهاد والثبات في مداحض الأقدام. والأسوة القدوة وهو المؤتسى به أي المقتدى به، فالمراد أنه في نفسه كما تقول في البيضة عشرون منا حديداً اي هي في نفسها هذا المبلغ من الحديد. والمراد أن فيه خصلة هي المواساة بنفسه فمن حقها أن يؤتسى بها وتتبع. قال في الكشاف: قوله { لمن كان } بدل من قوله { لكم } وضعف بأن بدل الكل لا يقع من ضمير المخاطب فالأظهر أنه وصفة الأسوة. والرجاء بمعنى الأمل أو الخوف. وقوله { يرجو الله واليوم الآخر } كقولك: رجوت زيداً وفضله أي رجوت فضل زيد، أو اريد يرجو ايام الله واليوم الآخر خصوصاً. وقوله { وذكر } معطوف على { كان } وفيه أن المقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي واظب على ذكر الله وعمل ما يصلح لزاد المعاد. ثم حكى أن ما ظهر من المؤمنين وقت لقاء الأحزاب خلاف حال المنافقين. وقوله { هذا } إشارة إلى الخطب أو البلاء. عن ابن عباس: كان النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: إن الأحزاب سائرون إليكم تسعاً أو عشراً اي في آخر تسع ليال أو عشر، فلما رأوهم قد اقبلوا للميعاد قالوا: هذا ما وعدنا الله ورسوله وقد وقع. { وصدق الله ورسوله } في كل وعد { وما زادهم إلا إيماناً } بمواعيده إلا فساد هم بقتل نبيهم. والتقاسم التحالف فإن كان أمراً فظاهر وإن كان خبراً فمحله نصب بإضمار "قد" اي قالوا متقاسمين: والتبيت العزم على إهلاك العدوّ ليلاً. وأشير على الإسكندر بالبيات فقال: ليس من آيين الملوك استراق الظفر. قال في الكشاف" كأنهم اعتقدوا أنهم إذا بيتوا صالحاً وبيتوا أهله فجمعوا بين البياتين. ثم قالوا لولاة دمه: ما شهدنا مهلك أهله فإذا ذكروا أحدهما كانوا صادقين لأنهم فعلوا البياتين جميعاً لا أحدهما. قلت: إنما ارتكب هذا التكليف لأنه استقبح أن يأتي العاقل بالخبر على خلاف المخبر عنه. يروى أنه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلي فيه فقالوا: زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه ومن أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب مبادرين وقالوا: إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إلى أهله فقتلناهم فهذا مكرهم، فبعث الله صخرة فطبقت عليهم فم الشعب فلم يدر قومهم أين هم ولم يدروا ما فعل بقومهم، وعذب الله كلاً في مكانه ونجى صالحاً ومن معه وهذا مكر الله. وقيل: جاؤا بالليل شاهري سيوفهم وقد أرسل الله الملائكة فدمغوهم بالحجارة يرون الحجارة ولا يرون رامياً. من قرأ { أنا دمرناهم } بالفتح فمرفوع المحل بدلاً من العاقبة أو خبراً لمحذوف أي هي تدميرهم، أو منصوب على أنه خبر "كان" أي كان عاقبة مكرهم الدمار، أو مجرور تقديره: لأنا وجوز في الكشاف على هذا التقدير أن يكون منصوباً بنزع الخافض. وانتصب { خاوية } على الحال والعامل معنى الإشارة في تلك. وإنما قال في هذه السورة { وأنجينا الذين آمنوا } موافقة لما بعده { فأنجيناه وأهله } { وأمطرنا } وكله على "أفعل". وقال في "حم السجدة"
{ { ونجينا الذين آمنوا وكانوا يتقون } [فصلت: 18] موافقة لما قبله وما بعده وزينا وقيضنا والله أعلم.
القصة الخامسة قصة لوط { و } انتصب { لوطاً } بإضمار "اذكر" أو بما دل عليه { ولقد أرسلنا } و"إذ" بدل على الأول بمعنى مجرد الوقت ظرف على الثاني، و{ يبصرون } إما من بصر الحاسة فكأنهم كانوا معلنين بتلك المعصية في ناديهم، أو أراد ترون آثار العصاة قبلكم، أو من بصر القلب والمراد تعلمون أنها فاحشة لم تسبقوا بمثلها، وعلى هذا فمعنى قوله { بل أنتم قوم تجهلون } أنكم تفعلون فعل الجاهلية بأنها فاحشة مع علمكم بذلك، أو اراد جهلهم بالعاقبة، أو اراد بالجهل السفاهة والمجانة التي كانوا عليها. أو الخطاب في قوله { تجهلون } تغليب ولو قرئ بياء الغيبة نظراً إلى الموصوف وهو قوم لجاز من حيث العربية، وباقي القصة مذكور في "الأعراف" { قل الحمد لله } قيل: هو خطاب للوط عليه السلام أن يحمد الله على هلاك كفار قومه ويسلم على من اصطفاه بالعصمة من الذنوب وبالنجاة من العذاب. وقيل: أمر لنبينا صلى الله عليه وسلم بالتحميد على الهالكين من كفار الأمم وبالتسليم على الأنبياء وأشياعهم الناجين، والأكثرون على أنه خطاب مستأنف لأنه صلى الله عيله وسلم كان كالمخالف لمن تقدمه من الأنبياء من حيث إن عذاب الاستئصال مرتفع عن قومه، فأمره الله سبحانه بأن يشكر ربه على هذه النعمة ويسلم على الأنبياء الذين صبروا على مشاق الرسالة. ثم شرع في الدلالة على الوحدانية والرد على عبدة الأوثان، وفيه توقيف على أدب حسن وبعث على التيمن بالحمد والصلاة قبل الشروع في كل كلام يعتد به، ولذا توارثه العلماء خلفاً عن سلف فافتتحوا بهما أمام كل كتاب وخطبة، وعند التكلم بكل أمر له شأن. قال جار الله: معنى الاستفهام "وأم" المتصلة في قوله { الله خير أمّا يشركون } إلزام وتبكيت وتهكم بحالهم وتنبيه على الخطأ المفرط والجهل المفرط؛ فمن المعلوم أنه لا خير فيما اشركوه أصلاً حتى يوازن بينه وبين من هو خالق كل خير ومالكه. قلت: يحمل أن يكون هذا من قبيل الكلام المنصف. عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا قرأها قال: بل الله خير وأبقى وأجل وأكرم. ثم عدل عن الاستفهام بذكر الذات إلى الاستفهام بذكر الصفات مبتدئاً بما هو أبين الحسيات فقال: { أمن خلق السموات } وإنما قال ههنا { وأنزل لكم } واقتصر في إبراهيم على قوله
{ { وأنزل } [إبراهيم: 32] لأن لفظة { لكم } وردت هناك بالآخرة، وليس قوله { ما كان لكم } مغنياً عن ذكره لأنه نفي لا يفيد معنى الأول. ومعنى الالتفات من الغيبة إلى التكلم في قوله { فأنبتنا } تأكيد معنى اختصاص الإنبات بذاته لأن الإنسان قد يتوهم أن له مدخلاً في ذلك من حيث الغرس والسقي. والحدائق جمع حديقة البستان عليه حائط من الإحداق والإحاطة. والبهجة الحسن والنضارة لأن الناظر يبتهج به. وإنما لم يقل ذوات بهجة على الجمع لأن المعنى جماعة حدائق كما يقال: النساء ذهبت. ومعنى { أءله مع الله } أغيره يقرن به ويجعل شريكاً له. قال في الكشاف: قوله { بل هم } بعد الخطاب أبلغ في تخطئة رأيهم. قلت: إنما تعين الغيبة ههنا لأن الخطاب في قوله { ما كان لكم } إنما هو لجميع الناس أي ما صح وما ينبغي للإنسان أن يتأتى منه الإنبات. ولو قال بعد ذلك بل أنتم لزم أن يكون كل الناس مشركين وليس كذلك. وقوله { يعدلون } من العدل أو من العدول اي يعدلون به غيره أو يعدلون عن الحق الذي هو التوحيد.
ثم شرع في الاستدلال بأحوال الأرض وما عليها. والقرار المستقر اي دحاها وسواها بحيث يمكن الاستقرار عليها. والحاجز البرزخ كما في "الفرقان". ثم استدل بحاجة الإنسان إليه على العموم. والمضطر الذي عراه ضر من فقر أو مرض فألجأه إلى التضرع إلى الله سبحانه، وإنه افتعال من الضر. وعن ابن عباس: هو المجهود. وعن السدي: الذي لا حول له ولا قوة. وقيل: هو المذنب ودعاؤه استغفاره. والمضطر اسم جنس يصلح للكل وللبعض فلا يلزم من الآية إجابة جميع المضطرين، نعم يلزم الإجابة بشرائط الدعاء كما مر في "البقرة" وفي ادعوني وقوله { ويكشف السوء } كالبيان لقوله { يجيب المضطر } والخلافة في الأرض إما بتوارث السكنى وإما بالملك والتسلط وقد مر في آخر "الأنعام". وقوله { قليلاً ما تذكرون } معناه تذكرون تذكراً قليلاً، ويجوز أن يراد بالقلة العدم. ثم استدل لحاجة الناس وخصوصاً الهداية في البر والبحر بالعلامات وبالنجوم، ثم استدل باحوال المبدأ والمعاد وما بينهما وذلك أنهم كانوا معترفين بالإبداء ودلالة الإبداء على الإعادة دلالة ظاهرة فكأنهم كانوا مقرين بالإعادة أيضاً، فاحتج عليهم بذلك لذلك. والرزق من السماء الماء ومن الأرض النبات. واعلم أن الله سبحانه ذكر قوله { أءله مع الله } في خمس آيات على التوالي وختم الأولى بقوله { بل هم قوم يعدلون } ثم بقوله { بل أكثرهم لا يعلمون } ثم بقوله { قليلاً ما تذكرون } ثم بقوله { تعالى الله عما يشركون } ثم { هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين } والسر فيه أن أول الذنوب العدول عن الحق، ثم لم يعلموا ولو علموا ما عدلوا، ثم لم يتذكروا فيعلموا بالنظر والاستدلال فاشركوا من غير حجة وبرهان. قل لهم يا محمد: هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين أن مع الله إلهاً آخر. وحين بين اختصاصه بكمال القدرة أراد أن يبين اختصاصه بعلم الغيب. قال في الكشاف: هذا على لغة بني تميم يرفعون المستثنى المنقطع على البدل إذا كان المبدل منه مرفوعاً يقولون: ما في الدار أحد إلا حمار كأن أحداً لم يذكر كقوله:

وبلدة ليس بها أنيس إلا اليعافير وإلا العيس

والمعنى إن كان الله ممن في السموات والأرض فهم يعلمون الغيب كما أن معنى البيت إن كانت اليعافير أنيساً ففيها أنيس بتاً للقول بخلوها عن الأنيس. قلت: لقائل أن يقول: إن استثناء نقيض المقدم غير منتج فلا يلزم من استحالة كون الله سبحانه في كل مكان ممن في السموات والأرض أنهم لا يعلمون الغيب، ولا من امتناع كون اليعافير أنيساً القطع بخلوّ البلدة عن الأنيس. وقال غيره: إن الاستثناء متصل لأن الله سبحانه في كل مكان بالعلم فيصح الرفع عند الحجازيين ايضاً. وزيفه في الكشاف بأن كونه في السموات والأرض بالعلم مجاز، وكون الخلق فيهن حقيقة من حيث حصول ذواتهم في تلك الأحياز، ولا يصح أن يريد المتكلم بلفظ واحد حقيقة ومجازاً معاً. وأجيب بأنا نحمل كون الخلق فيهن على المعنى المجازي أيضاً لأنهم أيضاً عالمون بتلك الأماكن لا أقل من العلم الإجمالي. وضعفه في الكشاف بأن فيه إيهام تسوية بين الله وبين العبد في العلم وهو خروج عن الأدب. ومن هنا قال صلى الله عليه وسلم: "بئس خطيب القوم أنت" . لمن قال: ومن يعصهما فقد غوى. والحق أن وقوع اللفظ على الواجب وعلى الممكن بمعنى واحد لا بد أن يكون بالتشكيك إذ هو في الواجب أدل وأولى لا محالة، فهذا الوهم مدفوع عند العاقل ولا يلزم منه سوء الأدب، ولهذا جاز إطلاق العالم والرحيم والكريم ونحوهما على الواجب وعلى الممكن معاً من غير محذور شرعي ولا عقلي، وليس هذا كالجمع بين الضميرين إذا كان يمكن للقائل أن يفرق بينهما فيزداد الكلام جزالة وفخامة. عن عائشة: من زعم أنه يعلم ما في غد فقد أعظم على الله الفرية والله تعالى يقول { قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله } وعن بعضهم: أخفى غيبه عن الخلق ولم يطلع عليه أحداً لئلا يأمن الخلق مكره. قال المفسرون: سال المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة فنزلت. وأيان بمعنى متى. إلا أنه لا يسأل به إلا عن أمر ذي بال وهو "فعال" من أن يئين فلو سمي به لانصرف، وحين ذكر أن العباد لا يعلمون الغيب ولا يشعرون البعث الكائن ووقته بين أن عندهم عجزاً آخر أبلغ منه وهو أنهم ينكرون الأمر الكائن مع أن عندهم أسباب معرفته فقال { بل ادّارك } أي تدارك. ومن قرأ بغير الألف فهو "افتعل" من الدرك أي تتابع واستحكم. ومعنى أدرك بقطع الهمزة انتهى وتكامل علمهم في الآخرة أي في شأنها ومعناها، ويمكن أن يكون وصفهم باستحكام العلم وتكامله تهكماً بهم كما يقول لأجل الناس: ما أعلمك. وإذا لم يعرفوا نفس البعث يقيناً فلأن لا يعرفوا وقته أول. ويحتمل أن تكون أدرك بمعنى انتهى وفني من قولهم "أدركت الثمرة" لأن تلك غايتها التي عندها تعدم. وقد فسره الحسن باضمحل علمهم وتدارك من تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك، وصفهم أوّلاً بأنهم لا يشعرون وقت البعث ثم أضرب عن ذلك قائلاً إنهم لا يعلمون القيامة فضلاً عن وقتها ثم إن عدم العلم قد يكون مع الغفلة الكلية فأضرب عن ذلك قائلاً إنهم ليسوا غافلين بالكلية ولكنهم في شك ومرية، ثم إن الشك قد يكون بسبب عدم الدليل فأضرب عن ذلك قائلاً إنهم عمون عن إدراك الدليل مع وضوحه، وقد جعل الآخرة مبدأ أعمالهم ومنشأه فلهذا عداه بمن دون "عن" والضمائر تعود إلى من في السموات والأرض. وذلك أن المشركين كانوا في جملتهم فنسب فعلهم إلى الجميع كما يقال: بنو فلان فعلوا. وإنما فعله ناس منهم قاله في الكشاف. قلت: قد تقدّم ذكر المشركين في قوله { بل هم قوم يعدلون } وغيره فلا حاجة إلى هذا التكلف ولو لم يتقدّم جاز للقرينة.
التأويل: { ولقد أرسلنا } صالح القلب بالإلهام الرباني إلى صفات القلب وهو الفريق المؤمن، وإلى النفس وصفاتها وهو الفريق الكافر. والسيئة طلب الشهوات واللذات الفانية، والحسنة طلب السعادات الباقية. وكان في مدينة القالب الإنساني { تسعة رهط } هم خواص العناصر الأربعة والحواس الخمس { يفسدون } في ارض القلب بإفساد الاستعداد الفطري { تقاسموا } بالموافقة على السعي في إهلاك القلب وصفاته وأن يقولوا لوليه وهو الحق سبحانه. ما أهلكناهم وما حضرنا مع النفس الأمَّارة حين قصدت هلاكهم { ومكروا مكراً } في هلاك القلب بالهواجس النفسانية والوساوس الشيطانية { ومكرنا مكراً } بتوارد الواردات الربانية وتجلي صفات الجمال والجلال { وهم لا يشعرون } أن صلاحهم في هلاكهم. فمن قتلته فأنا ديته { فانظر كيف كان عاقبة مكرهم } أنا أفنينا خواص التسعة وآفاتها وأفنينا قومهم أجميعن وهم النفس وصفاتها { فتلك بيوتهم } وهي القالب والأعضاء التي هي مساكن الحواس خالية عن الحواس المهلكة والآفات الغالبة { بما ظلموا } أي وضعوا من نتائج خواص العناصر وآفات الحواس في غير موضعها وهو القلب، وكان موضعها النفس بأمر الشارع لا بالطبع لصلاح القالب وبقائه { وأنجينا الذين آمنوا } وهم القلب وصفاته من شر النفس وصفاتها. ولوط الروح { إذ قال لقومه } وهم القلب والسر والعقل عند تبدل أوصافهم بمجاورة النفس { أتأتون الفاحشة } وهي كل ما زلت به اقدامهم عن الصراط المستيم وأمارتها في الظاهر إتيان المناهي على وفق الطبع، وفي الباطن حب الدنيا وشهواتها { وأنتم تبصرون } تميزون الخير من الشر. وإتيان الرجال دون النساء عبارة عن صرف الاستعداد فيما يبعد عن الحق لا فيما يقرب منه { فما كان جواب قومه } وهم القلب المريض بتعلق حب الدنيا والسر المكدر بكدورات الرياء والنفاق والعقل المشوب بآفة الوهم والخيال { أخرجوا } الصفات الروحاينة من قرية الشخص الإنساني { إنهم أناس يتطهرون } من لوث الدنيا وشهواتها { فأنجيناه وأهله } وهم السر والعقل وصفاتهما من عذاب تعلق الدنيا { إلا امرأته } وهي النفس الأمارة بالسوء { وأمطرنا } على النفس وصفاتها مطراً بترك الشهوات { فساء مطر المنذرين } أي صعب فإِن الفطام من المألوفات شديد وهذه حالة مستدعية للحمد والشكر فلهذا قال { قل الحمد لله وسلام } من تعلقات الكونين وآفات الوجود المجازي { على عباده } { أمن خلق } سموات القلوب وأرض النفوس وأنزل من سماء القلب ماء نظر الرحمة { فأنبتنا به حدائق } من العلوم والمعاني والأسرار { أءله مع الله } من الهوى { أمن جعل } أرض النفس { قراراُ } في الجسد { وجعل خلالها أنهاراً } من دواعي البشرية { وجعل لها رواسي } من القوى والحواس { وجعل بين } بحر الروح وبحر النفس { حاجزاً } القلب فإن في اختلاطهما فساد حالهما { أءله مع الله } كما زعمت الطبائعية { أمن يجيب المضطر إذا دعاه } في العدم بلسان الحال { ويجعلكم } مستعدين لخلافته في الأرض { أءله مع الله } كما يزعم أرباب الحلول والاتحاد { أمن يهديكم في ظلمات } بر البشرية وبحر الروحانية وإن كانت الروحانية نورانية بالنسبة إلى ظلمة البشرية والمراد يهديكم بإخراجكم من ظلمات البشرية إلى نور الروحانية، ومن ظلمات خلقته الروحانية إلى نور الربوبية وذلك حين يرسل رياح العناية بين يدي سحاب الهداية { أءله مع الله } كما يقول المنجمون: مطرنا بنوء كذا. وكما يقوله قاصروا النظر: هدانا الشيخ والمعلم إلى كذا { من يبدأ الخلق } بالوجود المجازي { ثم يعيده } بالوجود الحقيقي إلى عالم الوحدة { ومن يرزقكم } من سماء الربوبية لتربية الأرواح ومن أرض بشرية الأشباح { أءله مع الله } كائناً من كان دليله أنه لا يعلم الغيب إلا هو ومن جملته علم قيام الساعة والله أعلم.