التفاسير

< >
عرض

ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوۤاْ إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ ٱلنَّاسِ وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ ٱللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ ٱلْمَسْكَنَةُ ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ ٱللَّهِ وَيَقْتُلُونَ ٱلأَنْبِيَآءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذٰلِكَ بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ
١١٢
لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ ٱلْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ ٱللَّهِ آنَآءَ ٱللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ
١١٣
يُؤْمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِٱلْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي ٱلْخَيْرَاتِ وَأُوْلَـٰئِكَ مِنَ ٱلصَّالِحِينَ
١١٤
وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ بِٱلْمُتَّقِينَ
١١٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَأُوْلَـٰئِكَ أَصْحَابُ ٱلنَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ
١١٦
مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَـٰذِهِ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوۤاْ أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ ٱللَّهُ وَلَـٰكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ
١١٧
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ
١١٨
هَآأَنْتُمْ أُوْلاۤءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِٱلْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوۤاْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ ٱلأَنَامِلَ مِنَ ٱلْغَيْظِ قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
١١٩
إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ ٱللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
١٢٠
-آل عمران

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { ويسارعون } وبابه كـ { سارعوا } [آل عمران:133] و { نسارع } } [المؤمنون:56] ممالة: قتيبة وأبو عمرو طريق بن عبدوس. { ما يفعلوا } { فلن يكفروه } بياء الغيبة: حمزة وعلي وخلف وحفص أبو عمرو مخير. الباقون: بتاء الخطاب { تسؤهم } وبابه من كل همزة مجزومة بغير همزة: الأعشى وأوقية، والأصفهاني عن ورش وحمزة في الوقف { لا يضركم } من الضير: أبو عمرو وسهل ويعقوب وابن كثير ونافع. وقرأ المفضل { لا يضركم } بالفتح الباقون: { لا يضركم } بالضم كلاهما من الضر مجزوماً ثم محركاً للساكنين فالفتح للخفة والضم للإتباع { تعملون محيط } بتاء الخطاب: سهل. الباقون: بياء الغيبة.
الوقوف: { المسكنة } ط { بغير حق } ط { يعتدون } ه قيل: لا وقف عليه لأن ضمير { ليسوا } يعود إلى ما يعود إليه ضمير { منهم المؤمنون } لبيان الفضل بين الفريقين، والذين / عصوا واعتدوا أحد الفريقين { سواء } ط { يسجدون } ه قيل: لا وقف على جعل { يؤمنون } حالاً لضمير { يسجدون } ولا يصح بل الإيمان والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أوصاف لهم مطلقة غير مختصة بحال السجود { الخيرات } ط { الصالحين } ه { يكفروه } ط { المتقين } 5 { شيئاً } ط { النار } ج { خالدون } 5 { فأهلكته } ط { يظلمون } ج { خبالاً } ط { ما عنتم } ج لاحتمال كون قد بدت حالا { أكبر } ط { تعقلون } ه { كله } ج للعطف مع الحذف أي وهم لا يؤمنون بكتابكم { آمنا } ق قد قيل: والوصل أولى لأن المقصود بيان تناقض حاليهم في النفاق { من الغيظ } ط { يغيظكم } ط { الصدور } ه { تسؤهم } ز للابتداء بشرط آخر والوصل أجوز إذ الغرض تقرير تضاد الحالين منهم. { يفرحوا بها } ط لتناهي وصف الذم لهم وابتداء شرط على المؤمنين { شيئاً } ط { محيط } ه.
التفسير: هذا خبر آخر من مستقبلات أحوال اليهود المعلومة بالوحي. والمعنى ضربت عليهم الذلة والهوان في عامة الأحوال بالقتل والسبي والنهب أينما وجدوا إلا معتصمين أو متلبسين أي إلا في حال اعتصامهم { بحبل من الله وحبل من الناس } يعني ذمة الله وذمة المسلمين، فهما في حكم واحد أي لا عزلهم قط إلا هذه الواحدة وهي التجاؤهم إلى الذمة بقبول الجزية، فحينئذٍ يكون دمهم محقوناً ومالهم مصوناً وهو نوع من العزة وقيل: حبل الله الإسلام، وحبل الناس الذمة. فعلى هذا يكون الواو بمعنى "أو". وقيل: ذمة الله الجزية المنصوص عليها، وذمة الناس ما يزيد الإمام عليها أو ينقص بالاجتهاد. وإنما صح الاستثناء المفرغ من الموجب نظراً إلى المعنى لأن ضرب الذلة عليهم معناه لا تنفك عنهم { وباؤا بغضب من الله } قيل: إنه من قولك "تبوأ فلان منزل كذا" والمعنى مكثوا في غضب الله. وسواء قولك حل بهم الغضب وحلوا بالغضب. { وضربت عليهم المسكنة } عن الحسن أن المراد بها الجزية، وإنما أفردت بالذكر بعد الاستثناء ليعلم أنها باقية غير زائلة بعد اعتصامهم بالذمة. وقال آخرون: المراد أنك لا ترى منهم ملكاً قاهراً ولا رئيساً مطاعاً لكنهم مستخفون في جميع النواحي والأكناف، يظهرون من أنفسهم الفقر والمدقعة ألبتة. وباقي الآية قد مر تفسيره في البقرة إلا أنه سبحانه قال في هذا الموضع من هذه السورة وفي النساء { الأنبياء بغير حق } لأن جمع التكسير يفيد التكثير فذكر في الموضعين أعني في البقرة وفي أول السورة ما ينبىء عن القلة مع أن ذلك موافق لما بعده من جموع السلامة كالذين والصابئين وغيرهما. ثم تدرج إلى ما هو نص في الكثرة في الموضعين الآخرين نعياً علهيم وتفظيعاً لشأنهم، ولمثل هذا عرّف الحق في البقرة إشارة إلى الحق الذي أذن الله أن / تقتل النفس به وهو قوله:
{ ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق } [الأنعام:151] ثم نكر في المواضع الباقية أي يغير ما حق أضلالاً في نفس الأمر ولا بحسب معتقدهم وتدينهم. { لسوا سواء } كلام تام وما بعده كلام مستأنف للبيان. قال الفراء وابن الأنباري: تقديره من أهل الكتاب أمة قائمة ومنهم أمة مذمومة، إلا أنه أضمر ذكر هذا القسم على مذهب العرب من الاكتفاء بأحد الضدين لخطورهما بالبال معاً غالباً. قال أبو ذؤيب:

عاني إليها القلب إني لأمرها مطيع فما أدري أرشد طلابها؟

أراد أم غيّ فاكتفى بذكر الرشد عن ضده. وتقول: زيد وعبد الله لا يستويان، زيد عاقل دين ذكي. فيغني هذا عن أن يقال: وعبد الله ليس كذلك. وقيل: وهو اختيار أبي عبيدة أن { أمة } مرفوعة بـ { ليس } على لغة من قال: أكلوني البراغيث. أو هو بدل من الضمير على نحو { أسروا النجوى الذين ظلموا } [الأنبياء:3] والتقدير: ليسوا سواء أمة قائمة وأمة مذمومة. وفي تفسير أهل الكتاب قولان: الأول وعليه الجمهور أنهم اليهود والنصارى. قال ابن عباس ومقاتل: لما أسلم عبد الله بن سلام وأضرابه قالت أحبار اليهود: ما آمن بمحمد إلا شرارنا، ولو كانوا من خيارنا لما تركوا دين آبائهم وقالوا لهم: لقد خسرتم حين استبدلتم بدينكم دنياً غيره فنزلت. وعن عطاء أنها نزلت في أربعين من أهل نجران، واثنين وثلاثين من الحبشة، وثمانية من الروم كانوا على دين عيسى وصدقوا بمحمد صلى الله عليه وسلم الثاني أنهم كل من أوتي الكتاب من أهل الأديان فعلى هذه يكون المسلمون منهم. عن ابن مسعود قال: "أخر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة صلاة العشاء، ثم خرج إلى المسجد فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: إنه ليس من أهل الأديان أحد يذكر الله في هذه الساعة غيركم" .
وفي رواية: "فبشر صلى الله عليه وسلم أنه لا يصلي هذه الصلاة أحد من أهل الكتاب فأنزل الله هذه الآيات" { ليسوا سواء } إلى قوله: { والله عليم بالمتقين } قال القفالرحمه الله : لا يبعد أن يقال: أولئك الحاضرون كانوا نفراً من مؤمني أهل الكتاب. فقيل: ليس يستوي من أهل الكتاب هؤلاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم فأقاموا صلاة العشاء في الساعة التي ينام فيها غيرهم مع أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا. ولا يبعد أيضاً أن يقال: المراد كل من آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم فسماهم الله أهل الكتاب كأنه قيل: أولئك الذين سموا أنفسهم بأهل الكتاب حالهم وصفتهم تلك الخصال الذميمة، والمسلمون الذين سماهم الله تعالى أهل الكتاب حالهم وصفتهم كذا فكيف يستويان؟ فيكون الغرض من هذه الآية تقرير فضيلة أهل الإسلام تأكيداً ما تقدم من قوله: { كنتم خير أمة } [آل عمران:110] كقوله: { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } [السجدة:18] ثم إنه تعالى مدح الأمة المذكورة بصفات ثمان: الأولى: أنها / قائمة. قيل: أي في الصلاة. وقيل: ثابتة على التمسك بدين الحق ملازمة له غير مضطربة. وقيل: أي مستقيمة عادلة من قولك: "أقمت العود فقام" بمعنى استقام. وههنا نكتة وهي أن الآية دلت على أن المسلم قائم بحق العبودية. وقوله: { قائماً بالقسط } [آل عمران:18] دل على أن المولى قام بحق الربوبية وهذه حقيقة قوله: { وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم } } [البقرة:40] الصفة الثانية:{ يتلون } أي أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل. فالتلاوة القراءة. وأصل الكلمة الإتباع. فكأن التلاوة هي إتباع اللفظ، وآيات الله القرآن. وقد يراد بها أصناف مخلوقاته الدالة على صانعها. وآناء الليل ساعاته واحدها أنى مثل "معاً" و "أني" و"أنوا" مثل "نحى" و"تلو". الصفة الثالثة: { وهم يسجدون } يحتمل أن يكون حالاً من { يتلون } كأنهم يقرأون في القرآن السجدة تخشعاً إلا أن ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " "ألا إني نهيت أن أقرأ راكعاً وساجداً" يأباه وأن يكون كلاماً مستقلاً أي يقومون تارة ويسجدون أخرى ويبتغون الفضل والرحمة بكل ما يمكن كقوله: { يبيتون لربهم سجداً وقياماً } [الفرقان:64] قال الحسن: يريح رأسه بقدميه وقدميه برأسه وذلك لإحداث النشاط والراحة، وأن يكون المراد: وهم يصلون ويتهجدون. والصلاة تسمى سجدة وركعة وسبحة، وأن يراد وهم يخضعون لله كقوله: { ولله يسجد من في السموات والأرض } [الرعد:15] وعلى هذين الاحتمالين لا منع من كونه حالاً. الصفة الرابعة: { يؤمنون بالله واليوم الآخر } فالصفات المتقدمة إشارة إلى كمال حالهم في القوة العملية. وهذه إشارة إلى كمالهم بحسب القوة النظرية، فإن حاصل المعارف معرفة المبدأ والمعاد. ولا يخفى أن غير مؤمني أهل الكتاب ليسوا من القبيلين في شيء بسبب تحريفاتهم واعتقاداتهم الفاسدة. الخامسة والسادسة: { ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر } وهاتان الصفتان إشارة إلى أنهم فوق التمام وذلك لسعيهم في تكميل الناقصين بإرشادهم إلى ما ينبغي ومنعهم عما لا ينبغي. وفيه تعريض بالأمة المذمومة أنهم كانوا مداهنين. وعن سفيان الثوري: إذا كان الرجل محبباً في جيرانه محموداً عند إخوانه فاعلم أنه مداهن. الصفة السابعة { يسارعون في الخيرات } أي المذكورات كلها وهي من صفات المدح لأن المسارعة في الخير دليل فرط الرغبة فيه حتى لا يفوت ففي التأخير آفات.وما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال: " "العجلة من الشيطان " مخصوص بهذه الآية. على أنها لا تفيد كلية الحكم لأن القضية أهملت إهمالاً، كيف لا والأمور متفاوتة.
منها ما يحمد فيه التأخير لكونه مما يحصل على مهل وتدريج فلو طلب منه خلاف وضعه / فات الغرض وضاع السعي، أو لكونه غير معلوم العاقبة فيفتقر إلى مزيد تدبر وتأمل. ومنها ما يحمد فيه التعجيل لضد ما قلنا فتنتهز فيه الفرصة وتغتنم، فإن الفرص تمر مر السحاب. قال صلى الله عليه وسلم:
" اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك وصحتك قبل سقمك وغناك قبل فقرك وفراغك قبل شغلك وحياتك قبل موتك " الصفة الثامنة: { أولئك من الصالحين } وذلك أن الأمور بخواتيمها والعاقبة غير معلومة إلا في علم الله تعالى فإذا أخبر عنهم بانخراطهم في سلك الصالحين فذلك المقصود وقصارى المجهود. ثم شرط للأمة الموصوفة بل بجميع المكلفين إيصال الجزاء إليهم ألبتة تأكيداً للإخبار عنهم بقوله: { وأولئك من الصالحين } فقال: { وما يفعلوا من خير فلن يكفروه } أي لن يحرموا ثوابه ولن يمنعوه. فضمن الكفران معنى الحرمان ولهذا يعدى إلى مفعولين، مع أن الأصل فيه التعدية إلى واحد نحو: شكر النعمة وكفرها. وسمى منع الجزاء كفراً كما سمى إيصال الثواب شكراً في قوله: { فإن الله شاكر عليم } [البقرة:158] ثم ختم الكلام بقوله: { والله عليم بالمتقين } مع أنه عالم بكل الأشياء بشارة لهم بجزيل الثواب، ودلالة على أنه لا يفوز عنده بالكرامة إلا أهل التقوى، وتنبيهاً على أن الملتزم لوعدهم هو معبودهم الحق القادر الغني الحميد الخبير الذي لا غاية لكرمه ولا نهاية لعلمه، فما ظنك بمثيب هذا شأنه؟! ثم بين أحوال أهل الشقاء بقوله: { إن الذين كفروا } الآية. وقد سبق تفسير مثله من أول السورة. ثم إنه لما بين أن أموال الكفار لا تغني عنهم شيئاً أمكن أن يخطر ببال أحد أن الذي ينفقون منه في وجوده الخيرات لعلهم ينتفعون بذلك فأزال ذلك الوهم بقوله: { مثل ما ينفقون } الآية. قال أكثر المفسرين وأهل اللغة: الصر البرد الشديد. وهو منقول عن ابن عباس وقتادة والسدي وابن زيد. وفي الصحاح: الصر بالكسر برد يضر بالنبات والحرث. وعلى هذا فمعنى الآية: كمثل ريح فيها برد وذلك ظاهر. وجوز في الكشاف أن يكون الصر صفة معناه البارد فيكون موصوفة محذوفاً بمعنى فيها قرّة صر كما تقول: برد بارد على المبالغة، أو تكون "في" تجريدية كما يقال: رأيت فيك أسداً أي أنت أسد، وإن ضيعني فلان ففي الله كافٍ وكافل. وقيل: الصر السموم الحارة. وروى ابن الأنباري بإسناده عن ابن عباس { فيها صر } قال: فيها نار. وعلى القولين، الغرض من التشبيه حاصل سواء كان برداً مهلكاً أو حرّاً محرقاً فإنه يصير مبطلاً للحرث فيصح التشبية. وهذا في التشبية المركب الذي مر ذكره في أول سورة البقرة. ويجوز أن يراد مثل إهلاك ما ينفقون كمثل إهلاك ريح، أو مثل ما ينفقون كمثل مهلك ريح وهو الحرث. والمراد ما كانوا ينفقون من أموالهم في المكارم والمفاخر وكسب الثناء وحسن الذكر بين الناس لا يبتغون بها وجه الله، ولهذا قيده بقوله: { في هذه الحياة / الدنيا } فشبه ذلك بالزرع الذي حسه البرد فصار حطاماً. وقيل: مثل ما ينفقون يعني أبا سفيان وأصحابه من سفلة اليهود المنفقين على أحبارهم في إيذاء رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي جمع العساكر عليه صلى الله عليه وسلم في كونه مبطلاً لما أتوا به قبل ذلك من أعمال البر، كمثل ريح فيها صر في كونه مبطلاً للحرث. والظاهر أن الضمير في { ينفقون } عائد إلى جميع الكفار. وذلك أن إنفاقهم إما أن يكون لمنافع الدنيا فلا يبقى له أثر في الآخرة في حق المسلم فضلاً عن الكافر، وإما أن يكون لمنافع الآخرة فالكفر مانع عن الانتفاع، ولعلهم كانوا ينفقون في الخيرات نحو بناء الرباطات والقناطر والإحسان إلى الضعفاء والأرامل راجين خيراً كثيراً في المعاد، لكنهم إذا قدمواالآخرة رأوا كفرهم مبطلاً لآثار تلك الخيرات، فكان كمن زرع زرعاً وتوقع منه نفعاً كبيراً فأصابه جائحة فلا يبقى معه إلا الحزن والأسف. ولعلهم كانوا ينفقون فيما ظنوه خيراً وهو معصية كإنفاق الأموال في إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم وفي تخريب ديار المسلمين. ولا يبعد أيضاً تفسير الآية بخيبتهم في الدنيا فإنهم أنفقوا أموالاً كثيرة في تجهيز الجيوش والإغراء على المسلمين وتحملوا المتاعب ثم انقلب الأمر عليهم وأظهر الله الإسلام وأعز أهله، فلم يبق مع الكفار من ذلك الإنفاق إلا الحيرة والحسرة. وقيل: المراد بالإنفاق ههنا هو جميع أعمالهم التي يرجون الانتفاع بها في الآخرة كقوله: { لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل } [البقرة:188] والمراد جميع الانتفاعات. أما فائدة قوله: { ظلموا أنفسهم } وعدم الاقتصار على قوله: { أصابت حرث قوم } فهي أن الغرض تشبيه ما ينفقون بشيء يذهب بالكلية حتى لا يبقى منه أثر ولاعثر، وحرث المسلم المطيع ليس كذلك لأنه إذا أصابته جائحة في الدنيا أبدله الله خيراً منه في الدنيا أو في الآخرة. فإن المسلم مثاب على كل ألم يصيبه حتى الشوكة يشاكها، أما الذين عصوا الله فاستحقوا إهلاك حرثهم عقوبة لهم فحرثهم هو الذي لا يتصور منه بعد الإهلاك فائدة أصلاً. ويحتمل أن يراد بالظالم ههنا وضع الزرع في غير موضعه. فإن من زرع لا في موضعه وفي غير أوانه ثم أصابته الآفة كان أولى بأن يصير ضائعاً. والضمير في { وما ظلمهم } للمنفقين أي ما ظلمهم بأن لم يقبل نفقاتهم، ولكنهم ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها مستحقة للقبول، أو لأصحاب الحرث أي ما ظلمهم الله بإهلاك حرثهم، ولكن ظلموا أنفسهم بارتكاب ما ستحقوا به العقوبة. ثم إنه تعالى لما بالغ في شرح احوال المؤمنين والكافرين شرع في تحذير المؤمنين من مخالطة الكافرين. قال ابن عباس ومجاهد: نزلت في قوم من المؤمنين كانوا يصافون المنافقين ويواطؤن رجالاً من اليهود لما كان بينهم من القرابة والصداقة والحلف والجوار والرضاع، فنهاهم الله عن مباطنتهم خوف الفتنة منهم عليهم وبطانة الرجل خصيصه وصفيه الذي يفضي / إليه بشقوره أي أموره اللاصقة بالقلب المهمة له. الواحد شقر وأصله من البطن خلاف الظهر، ومنه بطانة الثوب للذي يلي منه الجسد خلاف الظهارة، نهاهم عن مودة كل كافر لأن قوله: { بطانة } نكرة في سياق النفي. وقوله: { من دونكم } يؤكد ذلك. وهو إما أن يتعلق بـ { لا تتخذوا } ويكون صفة لبطانة أي بطانة كائنة من دونكم مجاوزة لكم والأول أولى، لأن الغرض ليس هو النهي عن اتخاذ البطانة وإنما المقصود النهي عن الاتخاذ من غير أبناء جنسهم وأهل ملتهم بطانة، وأنهم يقدمون الأهم والذي هم بشأنه أعنى. و"من" للتبيين وقيل: زائدة. ثم ذكر علة النهي فقال: { لا يألونكم خبالاً } يقال: ألا في الأمر يألو إذا قصر فيه، ثم استعمل معدى إلى مفعولين في قولهم: "لا آلوك نصحاً أو جهداً" على التضمين أي لا أمنعك نصحاً. والخبال الفساد والنقصان ومنه رجل مخبول ومخبل ناقص العقل فاسدة. وقيل: خبالاً نصب على التمييز، وقيل: مصدر في موضع الحال. والمعنى لا يتركون جهدهم في مضرتكم وفساد حالكم. { ودّوا ما عنتم } أي عنتكم على أن "ما" مصدرية. والعنت الوقوع في أمر شاق ومنه يقال للعظم المجبور إذا أصابه شيء فهاضه قد أعنته. والمراد أحبوا وتمنوا أن يضروكم في دينكم ودنياكم أشد الضرر. والحاصل من الجمليتن أنهم لا يقصرون في إفساد أموركم فإن لم يمكنهم ذلك لمانع من خارج فحب ذلك غير زائل عن قلوبهم { قد بدت البغضاء } هي شدة البغض كالضراء شدة الضر. والأفواه جمع الفم وأصله فوه بدليل تكسيره كسوط وأسواط. فحذفت الهاء تخفيفاً وأقيمت الميم مقام الواو لأنهما حرفان شفويان. وظهور البغضاء من اليهود واضح لقشرهم العصا وكشرهم عن الأنياب وعدم التقية في تكذيب النبي صلى الله عليه وسلم والكتاب. وأما من المنافقين فذلك أن المداجي لا بد أن ينفلت من لسانه ما يكشف عن نفاقه وخبث طويته. وعن قتادة قد بدت البغضاء لأوليائهم من المنافقين والكفار لاطلاع بعضهم بعضاً على ذلك. { وما تخفي صدورهم أكبر } لأن فلتات اللسان متناهية وكوامن الصدور تكاد تكون غير متناهية. ثم بيّن أن إظهار هذه الأسرار للمؤمنين من غاية العناية وحثهم على إعمال العقل في مدلولات هذه النصائح فقال: { قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون } من أهل العقول. وقيل: إن كنتم تعقلون الفصل بين ما يستحقه العدوّ والولي. ثم إن سياق هذه الجمل يحتمل أن يكون على سبيل تنسيق الصفات للبطانة كأنه قيل: لا تتخذوا بطانة غير آليكم خبالاً وادّين عنتكم بادية بغضاؤهم. وأما { قد بينا } فكلام مبتدأ، أو أحسن من ذلك وأبلغ أن تكون الجمل مستأنفات كلها على جهة التعليل للنهي كما قلنا، فكأنه قيل: لم لا نتخذهم بطانة، فقيل: لأنهم لا يقصرون فقيل: لم يفعلون ذلك؟ فقيل: لأنهم يودون عنتكم. ثم قيل: وما آية / ودادة العنت؟ فقيل: قد بدت والله أعلم. أما كون هذا التقدير أحسن فلأن الجمل المتعاقبة على سبيل التنسيق يتوسط بينها العاطف ولا عاطف ههنا، وأما كونه أبلغ فلبناء الكلام على السؤال والجواب ولتقليل اللفظ وتكثير المعنى ولإثبات الدعاوى بالبراهين، ولا يخفى جلالة قدر هذه الفوائد. ثم استأنف للتحذير نمطاً آخر من البيان مشتملاً على التوبيخ فقال: { ها أنتم أولاء } الخاطئون في موالاة منافقي أهل الكتاب، ثم ذيله ببيان الخطأ وهو قوله: { تحبونهم ولا يحبونكم } لأنكم تريدون لهم الإسلام وهو خير الأشياء ويريدون لكم الكفر وهو أقبح الأشياء، أو تحبونهم لما بينكم وبينهم من الرضاعة والقرابة ولا يحبونكم لاختلاف الدين، أو تحبونهم لأنهم أظهروا لكم الإيمان ولا يحبونكم لتمكن الكفر في باطنهم، أو تحبونهم لأنهم يظهرون لكم محبة الرسول ومحب المحبوب محبوب ولا يحبونكم لأنكم تحبون الرسول وهم يبغضونه ومحب المبغوض مبغوض، أو تحبونهم فتفشون إليهم أسراركم في أمور دينكم ولا يحبونكم لأنهم لا يفعلون مثل ذلك بكم، أو تحبونهم لأنكم لا تريدون وقوعهم في المحن ولا يحبونكم لأنهم يتربصون بكم الدوائر. والحق أن هذه الاعتبارات وأمثالها مما لا تكاد تنحصر داخلة في الآية. ثم ذكر سبباً آخر مما يأبى أن يكون بينهما جامع فقال: { وتؤمنون بالكتاب كله } وأضمر قرينه وهو "وهم لا يؤمنون به" لأن ذكر أحد الضدين يغني عن الآخر غالباً. والمراد بالكتاب الجنس كقولهم "كثر الدرهم في أيدي الناس". وفي الكشاف: إن الواو في { وتؤمنون } للحال، واللام في { الكتاب } للعهد أي لا يحبونكم والحال أنكم تؤمنون بكتابهم كله. وفيه توبيخ شديد لأنهم في باطنهم أصلب منكم في حقكم. ثم ذكر مضادة أخرى فقال: { وإذا لقوكم قالوا آمنا } أحدثنا الدخول في الإيمان { وأذا خلوا عضوا } ويوصف المغتاظ أو النادم بعض الأنامل والبنان والإبهام لأن هذا الفعل كثيراً ما يصدر منهما فجعل كناية عن الغضب والندم، وإن لم يكن هناك عض وإنما حصل لهم هذا الغيظ وهو شدة الغضب لما رأوا من ائتلاف المؤمنين وعلو دينهم وارتفاع شأنهم { قل موتو بغيظكم } دعاء عليهم بأن يزداد ما يوجب غيظهم من قوة الإسلام وعز أهله، فإن ذلك يتضمن ذلهم وخزيهم. والحاصل أنه أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبرهم بأن الله تعالى أتاح أن يظهر دين الإسلام علىالأديان كلها والمقدر كائن، فإن كان هذا سبباً لغيظكم فلا محالة يكون موتكم على هذا الغيظ. ثم إن قوله: { إن الله عليم بذات الصدور } أي بصواحباتها وهي الخواطر القائمة بالقلب والدواعي والصوارف الموجودة فيه. إن كان داخلاً في جمل المقول، فمعناه أخبرهم بما يسرونه من الغيظ وقل لهم: إن غيظكم سيزداد إلى أن يذيبكم أو تموتوا عليه، وقل لهم: إن الله يعلم ما هو أخفى / مما تسرونه وهو مضمرات القلوب وخفياتها. وإن كان خارجاً فالمعنى قل لهم ذلك يا محمد ولا تتعجب من إطلاعي إياك على أسرارهم فإني أعلم ما أضمره الخلائق ولم يظهروه على ألسنتهم أصلاً. ويجوز أن لا يكون أمراً بالقول لفظاً بل يراد حدّث نفسك بأنهم سيهلكون غيظاً وحسداً، فيكون أمراً للرسول بطيب النفس وقوة الرجاء والاستبشار بوعد الله ونصره. ثم ذكر نوعاً آخر من مضادتهم ومعاداتهم فقال: { إن تمسسكم حسنة } أي حسنة كانت من منافع الدنيا كالصحة والخصب والغنيمة والظفر على الأعداء والائتلاف بين الأحباء { تسؤهم } ساءه يسوءه نقيض سره يسره { وإن تصبكم سيئة } ضد من أضداد ما عددنا. { يفرحوا بها } ولم يفرق صاحب الكشاف ههنا بين المس والإصابة وجعل المعنى واحداً. وأقول: يشبه أن يكون المس أقل من الإصابة وأنه أدخل في بيان شدة العداوة، وذلك أن الحسد لا ينهض لقليل من الخير إلا أن يكون هناك كمال البغض، والشماتة قلما توجد إذا أصاب العدوّ بلية عظمى كما قيل:

عند الشدائد تذهب الأحقاد

إلا أن يكون ثمة غاية الحقد. وإذا كان حال القوم مع المسلمين في القضيتين بالخلاف دل ذلك على شدة بغضهم ونهاية حقدهم، وعلى هذا فلا يبعد أن يقال التنوين في { حسنة } للتقليل وفي { سيئة } للتعظيم { وإن تصبروا } على عداوتهم { وتتقوا } ما نهيتم عنه من موالاتهم، أو إن تصبروا على أوامر الله تعالى وتتقوا محارمه { لا يضركم كيدهم } وهو احتيال الإنسان لإيقاع غيره في مكروه. وقال ابن عباس: هو العداوة. { شيئاً } من الضرر بل كنتم في كنف الله وحفظه. وفيه إرشاد من الله تعالى إلى أن يستعان على دفع مكايد الأعداء بالصبر والتقوى، فمن كان لله كان الله له. وفي كلام الحكماء إذا أردت أن تكبت من يحسدك فازدد فضلاً في نفسك. وقال بعضهم:

إذا ما شئت إرغام الأعادي بلا سيف يسل ولا سنان
فزد في مكرماتك فهي أعدى على الأعداء من نوب الزمان

{ إن الله بما تعملون } في عداوتكم أو بما تعملون أنتم من الصبر والتقوى. { محيط } فيجازي كل أحد بما هو أهله.
التأويل: ضربت عليهم ذلة الطمع ومسكنة الحرص إلا أن يعتصموا بمحبة الله وطلبه وحبل من الناس يعني متابعة النبي صلى الله عليه وسلم وسيرته. ويقتلون الأنبياء يميتون سنتهم وسيرهم. ليسوا أي العلماء الربانيون والمداهنون. فلن تكفروه لأنه من تقرب إليه شبراً تقرب إليه ذراعاً. ثم أخبر عن نفقات أهل الشهوات في استيفاء اللذات الجسمانية بقوله: { مثل ما / ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح } هي هواء الهوى { فيها صر } الشهوة { أصابت حرث قوم } هو الحرث الروحاني { ظلموا أنفسهم } بإبطال الاستعداد الإنساني. ثم نهي أهل المحبة عن مباطنة أهل السلو من هذا الحديث فقال: { لا تتخذوا بطانة من دونكم لا يألونكم خبالاً } لا يقصرون في إنكاركم والاعتراض عليكم والطعن فيكم { ودّوا } من نعيم الدنيا ومشتهياتها { ما عنتم } ما مقتموه وتركتموه لدناءة همتهم وعلو همتكم، أو فرحوا بما قاستيم من المجاهدات والتزام الفقر والصبر على المكاره { قد بدت البغضاء من أفواههم } اعتراضاتهم الفاسدة { وما تخفي صدورهم } الحاسدة من الغل والحقد { أكبر } { تحبونهم } محبة الرحمة والشفقة { ولا يحبونكم } لتناكر الأرواح واختلاف حال الأشباح { ويؤتون بالكتاب كله } بجميع ما في القرآن من ترك الدنيا وجهاد النفس { عليم بذات الصدور } بالقلوب التي في الصدور أن موتها في الغيظ والحسد. { إن تمسسكم حسنة } كرامة من الله وقبول من الخلق. سيئة إنكار من الجهال وطعن.