التفاسير

< >
عرض

يسۤ
١
وَٱلْقُرْآنِ ٱلْحَكِيمِ
٢
إِنَّكَ لَمِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٣
عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
٤
تَنزِيلَ ٱلْعَزِيزِ ٱلرَّحِيمِ
٥
لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ
٦
لَقَدْ حَقَّ ٱلْقَوْلُ عَلَىٰ أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
٧
إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ
٨
وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ
٩
وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ
١٠
إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ ٱتَّبَعَ ٱلذِّكْرَ وَخشِيَ ٱلرَّحْمـٰنَ بِٱلْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ
١١
إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي ٱلْمَوْتَىٰ وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِيۤ إِمَامٍ مُّبِينٍ
١٢
وَٱضْرِبْ لَهُمْ مَّثَلاً أَصْحَابَ ٱلقَرْيَةِ إِذْ جَآءَهَا ٱلْمُرْسَلُونَ
١٣
إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوۤاْ إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ
١٤
قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ ٱلرَّحْمَـٰنُ مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ
١٥
قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ
١٦
وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ ٱلْبَلاَغُ ٱلْمُبِينُ
١٧
قَالُوۤاْ إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ
١٨
قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
١٩
وَجَآءَ مِنْ أَقْصَا ٱلْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَىٰ قَالَ يٰقَوْمِ ٱتَّبِعُواْ ٱلْمُرْسَلِينَ
٢٠
ٱتَّبِعُواْ مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً وَهُمْ مُّهْتَدُونَ
٢١
وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ ٱلَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ
٢٢
أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ ٱلرَّحْمَـٰنُ بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ
٢٣
إِنِّيۤ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ
٢٤
إِنِّيۤ آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فَٱسْمَعُونِ
٢٥
قِيلَ ٱدْخُلِ ٱلْجَنَّةَ قَالَ يٰلَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ
٢٦
بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ ٱلْمُكْرَمِينَ
٢٧
وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ ٱلسَّمَآءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ
٢٨
إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ
٢٩
يٰحَسْرَةً عَلَى ٱلْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٠
أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ ٱلْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ
٣١
وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ
٣٢
وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلأَرْضُ ٱلْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ
٣٣
وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ ٱلْعُيُونِ
٣٤
لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ
٣٥
سُبْحَانَ ٱلَّذِي خَلَق ٱلأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ ٱلأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ
٣٦
وَآيَةٌ لَّهُمُ ٱلَّيلُ نَسْلَخُ مِنْهُ ٱلنَّهَارَ فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ
٣٧
وَٱلشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَـا ذَلِكَ تَقْدِيرُ ٱلْعَزِيزِ ٱلْعَلِيمِ
٣٨
وَٱلْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّىٰ عَادَ كَٱلعُرجُونِ ٱلْقَدِيمِ
٣٩
لاَ ٱلشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ ٱلقَمَرَ وَلاَ ٱلَّيلُ سَابِقُ ٱلنَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ
٤٠
وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي ٱلْفُلْكِ ٱلْمَشْحُونِ
٤١
وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ
٤٢
وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ
٤٣
إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا وَمَتَاعاً إِلَىٰ حِينٍ
٤٤
-يس

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { يس } بإظهار النون: أبو عمرو وسهل ويعقوب غير رويس وابن كثير غير ابن فليح وحمزة وأبو جعفر ونافع غير النجاري عن ورش والحلواني عن قالون وعاصم غير يحيى وابن ابي غالب. وقرأ حمزة وعلي وخلف ويحيى وحماد بالإمالة. { تنزيل } بالنصب: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير أبي بكر وحماد. والباقون: بالرفع { سدّاً } بفتح السين في الحرفين: حمزة وعلي وخلف وحفص وابو زيد { فعززنا } بالتخفيف: أبو بكر وحماد والمفضل { آين } بالمد والياء أبو عمرو وقالون وزيد مثله ولكن بالقصر ابن كثير ونافع غير قالون وسهل ويعقوب غير زيد. { أئن } بهمزتين: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير المفضل وابن عامر، هشام يدخل بينهما مدة وقرأ المفضل { أين } على وزن "كيف" { آن } بسكون النون وبالمد: يزيد مثل { آنذرتهم } { ذكرتم } بالتخفيف: زيد { ومالي } بسكون الياء: حمزة ويعقوب { ينقذوني } في الحالين بالياء: يعقوب وافق ورش وسهل وعباس في الوصل { إني إذا } بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وأبو عمرو { إني آمنت } بفتح الياء: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو { إلا صيحة واحدة } بالرفع وكذلك ما بعدها: يزيد { لما } بالتشديد: ابن عامر وحمزة وعاصم { الميتة } بالتشديد: أبو جعفر ونافع { عملت } بغير هاء الضمير: حمزة وعلي وخلف وعاصم غير حفص والمفضل { لمستقر } بكسر القاف: زيد عن يعقوب { والقمر } بالرفع على الابتداء: ابن كثير وأبو عمرو وسهل ونافع ويعقوب غير رويس. الآخرون: بالنصب إضماراً على شريطة التفسير { ذرياتهم } على الجمع: أبو جعفر ونافع وابن عامر وسهل ويعقوب.
الوقوف: { يس } ه كوفي { الحكيم } ه لا لجواب القسم { المرسلين } ه لا لأن الجار والمجرور خبر بعد خبر أو مفعول ثانٍ لمعنى الفعل في { المرسلين } أي أرسلت على صراط { مستقيم } ه ط على القراءتين فمن نصب فمعناه نزل تنزيل أو أعني تنزيل ومن رفع فالتقدير هذا تنزيل { الرحيم } ه لا لتعلق لام كي بمعنى التنزيل والإرسال { غافلون } ه { لا يؤمنون } ه { مقمحون } ه { لا يبصرون } ه { لا يؤمنون } ه { بالغيب } ه لانقطاع النظم مع دخول الفاء { كريم } ه { وآثارهم } ط { مبين } ه { القرية } ه لأن "إذ" ليس ظرفاً { لاضرب } بل التقدير وإذكر إذ جاءها. وجوّز في الكشاف أن يكون "إذ" بدلاً من { أصحاب القرية } فلا وقف. { المرسلون } ه ج لاحتمال أن يكون "إذ" بدلاً أو معمولاً لعامل آخر مضمر { مرسلون } ه { مثلنا } لا { من شيء } لا لاتحاد المقول فيهما { تكذبون } ه { لمرسلون } ه ج { المبين } ه { بكم } ج للإبتداء بما في معنى القسم مع اتحاد المقول { أليم } ه { معكم } ط { ذكرتم } ط { مسرفون } ه { المرسلين } ه لأن { اتبعوا } بدل من الأوّل { مهتدون } ه { ترجعون } ه { ولا ينقذون } ه ج للابتداء بان مع تعلق "إذا" بما قبلها أي أني إذا اتخذت آلهة لفي ضلال { مبين } ه { فاسمعون } ه ط لأن التقدير فلم يسمعوا قوله فقتلوه ثم قيل له ادخل { الجنة } ط { يعلمون } ه لا لتعلق الباء. { المكرمين } ه { منزلين } ه { خامدون } ه { العباد } ج لأن ما بعده يصلح استئنافاً وحالاً والعامل معنى في حسرة { يستهزؤن } ه { لا يرجعون } ه { محضرون } ه { يأكلون } ه { العيون } ه لا { ثمر } ه ط لمن جعل "ما" نافية ومن جعلها موصولة لم يقف { ايديهم } ط { يشكرون } ه { لا يعلمون } ه { مظلمون } ه ط { لها } ط { العليم } ه لا لمن قرأ { والقمر } بالرفع بالعطف على { الليل }، ومن قرأ بالنصب وقف مطلقاً { القديم } ه { النهار } ط { يسبحون } ه { المشحون } ه لا { يركبون } ه { ينقذون } ه لا { حين } ه.
التفسير: الكلام الكلي في فواتح السور قد مر في أوّل البقرة وغيرها والذي يختص بالمقام ما قيل إن معناه يا سيد أو يا أنيسين فاقتصر على البعض رواه جار الله عن ابن عباس. ولا يخفى أن النداء على هذا يكون لمحمد صلى الله عليه وسلم يؤيده قوله { إنك لمن المرسلين } وكثيراً ما يستعمل القسم بعد إفحام الخصم الألدّ كيلا يقول إنك قد افحمت بقوّة جدالك وأنت في نفسك خبير بضعف مقالك. وأيضاً الابتداء بصورة اليمين يدل على أن المقسم عليه أمر عظيم والأمر العظيم تتوفر الدواعي على الإصغاء إليه، وكانت العرب يتحرزون من الأيمان الفاجرة ويقولون إنها تدع الديار بلا قع، وكان من المعلوم أن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعظمون القرآن غاية التعظيم وكان اليمين به موقوفاً عليه عند الكفرة. وقوله { على صراط } كالتأكيد لأن المرسلين لا يكونون إلا على المنهج القويم. وتنكير صراط للتعظيم. قيل: فيه دليل على فساد قول المباحية القائلين بأن المكلف إذا صار واصلاً لم يبق عليه تكليف فإن المرسلين لم يستغنوا عن رعاية الشريعة فكيف غيرهم. وقوله { ما أنذر آباؤهم } كقوله في "القصص"
{ لتنذر قوماً ما أتاهم من نذير } [الآية: 46] وقد مر أنه يشمل اليهود والنصارى لأن آباءهم الأدنين لم ينذروا بعدما ضلوا { فهم غافلون } لهذا السبب. وقد يقال: إن "ما" مصدرية أو موصولة أي أرسلت لتنذرهم إنذارا آبائهم أو ما أنذر آباؤهم فإنهم في غفلة، فعلى هذا كونهم غافلين سبب باعث على الإنذار، وعلى الأول عدم الإنذار سبب غفلتهم. ثم بين أن السبب الحقيقي للغفلة هو أنه تعالى جعلهم من جملة المطبوع على قلوبهم ومن زمرة أهل النار وهو قوله فيهم { { لأملأنّ جهنم منك وممن تبعك } [ص: 85] أو أراد بالقول سبق علمه فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤمنون. وقيل: أراد أن القول بالدعوة بلغ أكثرهم ولكنهم لا يؤمنون جحوداً وعناداً، وذلك أن من يتوقف على استماع الدليل في مهلة النظر يرجى منه الإيمان إذا بان له البرهان، أما بعد البيان والوضوح فلا يكون عدم الإيمان إلا للمكابرة. وحين بيّن أنهم لا يؤمنون ذكر أن ذلك من الله تعالى فقال { إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً } فيكون مثلاً لتصميمهم على الكفر كالطبع والختم. وقيل: إنه إشارة إلى إمساكهم وأنهم لا ينفقون في سبيل الله كما قال { ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك } [الإسراء: 29] وعلى هذا يمكن أن يكون معنى قوله { فهم لا يؤمنون } أنهم لا يزكون كأنه عبر بالإيمان عن الزكاة كما عبر به عن الصلاة في قوله { وما كان الله ليضيع إيمانكم } [البقرة: 143] وقيل: نزلت في بني مخزوم وذلك أن أبا جهل حلف لئن رأى محمداً صلى الله عليه وسلم يصلي ليرضخن رأسه، فأتاه وهو يصلي ومعه حجر ليدمغه فلما رفع يده انثنت إلى عنقه ولزق الحجر بيده حتى فكوه عنها بجهد فرجع إلى قومه فأخبرهم فقال مخزومي آخر: أنا أقتله بهذا الحجر. فذهب فأعمى الله بصره وأنزلت الآيتان. والضمير في قوله { فهي إلى الأذقان } راجع إلى الأيدي وإن كانت غير مذكورة لكونها معلومة فإن المغلول تكون أيديه مجموعة إلى العنق ولذلك يسمى الغل جامعة أي جامعاً لليد والعنق. وتأنيث الجامعة مبالغة أو بتأويل الآلة. وقيل: واختاره في الكشاف أنه يرجع إلى الأغلال اي جعلنا في أعناقهم أغلالاً ثقالاً غلاظاً بحيث تبلغ إلى الأذقان فلم يتمكن المغلول معها من أن يطأطئ رأسه فلا يزال مقمحاً. والمقمح الذي يرفع راسه ويغض بصره ومنه أقمحت السويق اي سففته. والكانونان يقال لهما شهراً قماح لأن الإبل ترفع رؤوسها عن الماء لبرده فيهما. وكيف يفهم من الغل في العنق المنع من الإيمان حتى يجعل كناية فيقول المغلول الذي بلغ الغل ذقنه وبقي مقمحاً رافع الرأس لا يبصر الطريق فضرب ذلك مثلاً للذي يهديه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الصراط المستيم العقلي وهو لا يبصره بنظر بصيرته، ويمكن أن يجعل كناية عن عدم التصديق بتحريك الرأس. ويقال: بعير قامح إذا رفع رأسه فلم يشرب الماء، والإيمان كالماء الزلال الذي به الحياة. ثم ضرب مثلاً آخر لكونهم غير منتهجين سبيل الرشاد وذلك قوله { وجعلنا من بين ايديهم سداً } قال أهل التحقيق: المانع إما أن يكون في النفس وهو الغل فلا يتبين لهم ىيات الأنفس، وإما أن يكون خارداً عنها وهو السدّ فلا يتضح لهم دلائل الآفاق. ويمكن أن يقال: السدّ من قدام إشارة إلى عدم العلوم النظرية، ومن خلف إشارة إلى عدم فطنتهم الغريزية، أو الأوّل إشارة إلى الغفلة عن أحوال المعاد، والثاني إشارة إلى الغفلة عن المبدأ. وفيه أن السالك إذا انسدّ عليه الطريق من قدامه ومن خلفه والموضع الذي هو فيه لا يكون موضع إقامة فإنه يهلك لا محالة. ثم زاد ف التأكيد بقوله { فأغشيناهم } أي جعلنا بعد ذلك كله على ابصارهم غشاوة { فهم لا يبصرون } شيئاً اصلاً. ويحتمل أن يكون الإغشاء إشارة إلى أن السدّ قريب منهم بحيث يصير ذلك كالغشاوة فإن القرب القريب مانع من الرؤية فلا يرون السدّ قريب منهم { فهم لا يبصرون } وعلى هذا يكون ذكر السد من خلف تأكيداً على تكيد، فإن الذي جعل بين يديه ومن خلفه سدان ملتزقان لا يمكنه التحرك يمنة ويسرة ولا النظر إلى السدّ ولا إلى غيره. ويمكن أن يقال: فائدته تعميم المنع من انتهاج المسالك المستقيمة لأنهم إن قصدوا السلوك إلى جانب اليمين أو إلى جانب الشمال صاروا متوجهين إلى شيء ومولين عن شيء، وهكذا إن فرض رجوع قهقرى فإن المشي من هاتين الجهتين عادة، ثم صرح بالمقصود معطوفاً على المذكوراتع قائلاً { وسواء عليهم } الآية. وقد مر إعرابه وسائر ما يتعلق بتفسيره في أول البقرة. ولا يخفى أن الإنذار وعدمه بالنسبة إلى النبي صلى الله عليه وسلم غير مستويين وإنما الإنذار سبب لزيادة سيادته وسعادته عاجلاً وآجلاً.
ثم بين بقوله { إنما تنذر } أن عدم فائدة الإنذار إنما هو بالإضافة إلى المطبوع على قلوبهم الذين تقدم شرح حالهم وبيان أمثالهم لا إلى المنتفعين به. والذكر القرآن أو ما فيه من المواعظ والحكم والدلائل، وفي ذكر الخشية مع تعقيبه باسم الرحمن إشارة إلى أن قهره مقرون بلطفه يعني مع كونه ذا هيبة لا تقطعوا رجاءكم. والغيب ما غاب عنا من أحوال القيامة وغيرها. وقيل: أي بالدليل وإن لم ينته إلى العيان فعند الانتهاء إلى ذلك لم يبق للخشية فائدة. ومعنى الفاء في { فبشره } أنك كما أنذرت وخوّفت فبشر بمغفرة واسعة وأجر كريم لا يكتنه كنهه، فكأن المغفرة بإزاء الإيمان والأجر الكريم للعمل الصالح. أو الأول لاتباع الذكر والثاني للخشية. وحين فرغ من بيان الرسالة شرع في أصل الحشر قائلاً { إنا نحن نحيي الموتى } على أن البشارة بالمغفرة والأجر لا يتم إلا بعد ثبوت الإعادة وهكذا خشية الرحمن بالغيب تناسب ذكر إحياء الأموات. والظاهر أن قوله { نحن } ضمير الفصل ويجوز أن يكون مبتدأ والفعل خبره والجملة هخبر "إن" ويجوز أن يكون { نحن } خبر "إن" كقول القائل عند الافتخار بالشهرة: أنا أنا. كأن الله تعالى قال إنما نحن معروفون بأوصاف الكمال وإذا عرّفنا أنفسنا فلا تنكر قدرتنا على إحياء الموتى. وفي هذا التركيب أيضاً إشارة إلى التوحيد أي ليس غيرنا أحد يشاركنا حتى نقول إنا كذا فنمتاز. ثم اشار إلى العلم التام الذي يتوقف عليه المجازاة فقال { ونكتب ما قدّموا } أي اسلفوا من الأعمال صالحة كانت أو فاسدة. وقيل: أراد ما قدّموا وأخروا فاكتفى بأحدهما كقوله
{ { سرابيل تقيكم الحر } } [النحل: 81] والصحيح أنه لا حاجة إلىهذا التقدير لأن قوله { وآثارهم } يدل عليه والمراد بها ما هلكوا عليه من أثر حسن كعلم علموه أو كتاب صنفوه أو بقعة خير عمروها أو أثر سيء كبدعة وظلامة وآلات ملاه. وقيل: هي آثار المشائين إلى المساجد. عن جابر: أردنا النقلة إلى المسجد والبقاع حوله خالية فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم دياركم فإنما تكتب آثاركم" . وعن عمر بن عبد العزيز: لو كان الله مغفلاً شيئاً لأغفل هذه الآثار التي تعفيها الرياح أي تمحوها. وقيل: أراد ونكتب ما قدموا من نياتهم فإنها قبل الأعمال وآثارهم أي أعمالهم.
سؤال: كيف قدم إحياء الموتى على الكتابة ولم يقل "نكتب ما قدموا ونحييهم" لأجل الجزاء؟ الجواب لأن الكتابة ليست مقوصدة بالذات وإنما المقصود الأصلي هو الإحياء للجزاء ولو لم يكن إحياء وإعادة لم يكن للكتابة أثر. وأيضاً قوله { إنا نحن } دال على العظمة والجبروت، والإحياء أمر عظيم لا يقدر عليه أحد إلا الله سبحانه بخلاف الكتابة، فقدّم الأمر العظيم ليناسب اللفظ الدال على العظمة. وأيضاً أراد أن يرتب على كتابة الأعمال قوله { وكل شيء أحصيناه } ومعناه أن قبل هذه الكتابة كتابة أخرى فإن الله كتب عليهم أنهم سيفعلون كذا، ثم إذا فعلوا كتب عليهم أنهم فعلوه. وفيه بيان أن الكتابة مقرونة بالحفظ والإحصاء، فرب مكتوب غير محفوظ ولا مضبوط، وفيه تعميم بعد تخصيص كأنه قال: ليست لالكتابة مختصة بأفعالهم وإنما هي لكل شيء. والإمام اللوح لأن الملائكة يتبعون ما كتب فيه من أجل ورزق وإماتة وإحياء، والمبين هو المظهر للأمور، والفارق بين أحوال الخلق، وحيث بين أن الإنذار لا ينفع من اضله الله وكتب عليه أنه لا يؤمن قال لنبيه صلى الله عليه وسلم لا تأس.
{ واضرب } لنفسك ولقومك { مثلاً } مثل { أصحاب القرية } وهي إنطاكية الروم، والمرسلون رسل عيسى عليه السلام إلى أهلها. وفي قوله { إذ أرسلنا } دلالة على أن رسول الرسول رسول وأنه يؤيد مسألة فقهية وهي أن وكيل الوكيل بإذن الموكل وكيل الموكل حتى لا ينعزل بعزل الوكيل إياه وينعزل إذا عزله الموكل الأول، وكأنه أرسل اثنين ليكون قولهما على قومهما عند عيسى حجة تامة. وكان رسولنا صلى الله عليه وسلم يكتفي بواحد في الأغلب كمعاذ وغيره فمن هنا يعلم ترجيح هذه الأمة. وأما القصة فإن عيسى عليه السلام أرسل إليهم اثنين فلما قربا من المدينة رأيا شيخاً يرعى غنماً واسمه حبيب النجار فسألهما فأخبراه فقال: ما آيتكما؟ قالا: نشفي المريض ونبرئ الأكمة والأبرص. وكان له ولد مريض من سنتين فمسحاه فبرأ فآمن حبيب وفشا الخبر فشفى على أيديهما خلق كثير ورفع خبرهما إلى الملك فأحضرا فلما سمع قولهما قال: ألنا إله سوى آلهتنا؟ قالا: نعم. من أوجدك وآلهتك. فحبسهما حتى ينظر في أمرهما فبعث عيسى شمعون وذلك قوله سبحانه { فعززنا بثالث } من قرأ بالتشديد فمعناه فقوّينا الرسولين، ومن قرأ بالتخفيف فمن العزة أي فغلبنا وقهرنا أهل القرية. وإنما ترك ذكر المفعول به لأأن الغرض ذكر الثالث فالعناية بذكره أهم وأتم نظيره قولك: حكم السلطان اليوم بالحق الغرض الذي سبق له الكلام قولك بالحق فلذلك تركت ذكر المحكوم له والمحكوم عليه. وأما باقي القصة فإن شمعون دخل متنكراً وعاشر حاشية الملك حتى استأنسوا به ورفعوا خبره إلى الملك فأنس به فقال له ذات يوم بلغني أنك حبست رجلين فهل سمعت ما يقولانه؟ قال: لا، حال الغضب بيني وبين ذلك. فدعاهما فقال شمعون: من أرسلكما قال: الله الذي خلق كل شيء وليس له شريك يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد. قال: وما آيتكما؟ قالا: ما يتمنى الملك. فدعا بغلام مطموس فدعوا الله حتى انشق له بصر وأخذا بندقتين فوضعاهما في حدقتيه فكانتا مقلتين ينظر بهما فقال شمعون: يا أيها الملك إن شئت أن تغلبهما فقل لآلهتك حتى تصنع مثل هذا. فقال الملك: أنت لا يخفى عليك أنها لا تسمع ولا تبصر ولا تقدر ولا تعلم. وكان شمعون يدخل معهم على الصنم فيصلي ويتضرع ويحسبون أنه منهم. فقال شمعون: فالحق إذاً معهم فآمن الملك وبعض حاشيته وبقي آخرون على الكفر فأهلكوا بالصيحة. قال أهل البيان: يجب زيادة المؤكدات في الجملة الخبرية بحسب تزايد الإنكار من السامع فلهذا قال الرسل أوّلاً: إنا إليكم مرسلون مقتصرين على "أن". وثانياً { ربنا يعلم إنا إليكم لمرسلون } مجموعاً بين "أن" واللام وما يجري مجرى القسم. ولا يخفى أن اليمين بعد إظهار البينة وإفحام الخصم مؤكد قوي كما مر في أول السورة. وفي قولهم { وما علينا إلا البلاغ المبين } تسلية لأنفسهم أي نحن خرجنا من عهدة ما علينا ولم يبق إلا التفكر منكم والتذكر. وحيث أكد الرسل قولهم باليمن أكد الكفار قولهم بالتطير، فمن عادة الجهال أن يتيمنوا بكل ما يوافق طباعهم وهواهم ويتشاءموا بما كرهوه وكأنهم قالوا في الأول كنتم كاذبين وفي الثاني صرتم مصرين على الكذب حالفين بالأيمان الكاذبة التي تدع الديار بلاقع فتشاءمنا بكم ولا نترككم. { لئن لم تنتهوا لنرجمنكم } بالقول أو بالحجارة. { وليمسنكم } بعد ذلك أو بسبب الرجم بالحجارة المتوالية إلى الموت { عذاب أليم } { قالوا طائركم } أي سبب شؤمكم { معكم } وهو كفركم ومعاصيكم { أئن ذكرتم } يعني أتطيرون إن ذكرتم. ومن قرأ { أين } على وزن "كيف" ذكرتم بالتخفيف فالمراد شؤمكم معكم حيث جرى ذكركم فضلاً عن المكان الذي حللتم فيه. ثم إن الرسل كأنهم قالوا لهم أنحن كاذبون أم نحن مشؤمون { بل أنتم قوم مسرفون } في عصيانكم أو ضلالكم فمن ثم أتاكم الشؤم، أو تشاءمتم بمن يجب التبرك بهم وقصدتموهم بالسوء { وجاء من أقصى المدينة رجل } هو حبيب النجار الذي مر ذكره نصح قومه فقتلوه وقبره في سوق أنطاكية. وقيل: في غار يعبد الله عز وجل، فلما بلغه خبر الرسل أتاهم وأظهر دينه وقاول الكفرة فوثبوا عليه فقتلوه. وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم
"سباق الأمم ثلاثة لم يكفروا بالله طرفة عين: علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وصاحب ياسين ومؤمن آل فرعون" ومن هنا قالوا: إنه آمن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل ولادته وذلك أنه سمع نعته من الكتب والعلماء. وتنكير رجل للتعظيم أي رجل كامل في الرجولية أو ليفيد ظهور الحق من جانب المرسلين حيث آمن بهم رجل من الرجال لا معرفة لهم به وكان بعيداً من التواطؤ. وقوله { من أقصى المدينة } ايضاً يفيد مثل هذا أو أنهم ما قصروا في التبليغ والإنذار حتى بلغ خبرهم القاصي والداني والسعي بمعنى المشي أو بمعنى القيام في المهام أي يهتم بشأن المؤمنين ويسعى في نصرتهم وهدايتهم ونصحهم. ثم حثهم على اتباع الرسل ولم يقل اتبعوني كما قال مؤمن آل فرعون { { اتبعون أهدكم سبيل الرشاد } [غافر: 38] لأنه جاءهم فنصحهم في أوّل مجيئه وما رأوا سيرته بعد فقال: اتبعوا هؤلاء الذين أظهروا لكم الدليل وأوضحوا لأجلكم السبيل. فقوله { اتبعوا } نصيحة وقوله { المرسلين } إظهار للإِيمان وقدم النصيحة إظهاراً للشفقة. وقد روي أنه كان يقتل ويقول: اللهم اهد قومي.
ثم أكد وجوب الاتباع بأنهم في أنفسهم مهتدون ولا يتوقعون أجراً في الدلالة ووجوب اتباع مثل هذا الدليل للذي ضل عن سواء السبيل مركوز في العقول. ثم أبرز الكلام في معرض المناصحة لنفسه وهو يريد مناصحة قومه. قال الحكيم { الذي فطرني } إشارة إلى وجود المقتضى. وقوله { ومالي } إشارة إلى عدم المانع من جانبه فإن كل امرئ هو أعلم بحال نفسه، والمقتضى وإن كان مقدماً في الوضع والطبع على المانع إلا أن المقتضي ههنا لظهوره كان مستغنياً عن البيان رأساً فقدّم عدم المانع لأجل البيان ولهذا لم يقل "وما لكم لا تعبدون" كيلا يذهب الوهم إلى أنه لعله يطلب العلة والبيان وإنما ورد في سورة نوح
{ ما لكم لا ترجون لله وقاراً } [الآية: 13] لأن القائل هناك داع لا مدعو فكأن الرجل قال: مالي لا أعبد وقد طلب مني ذلك. وفي قوله { وإليه ترجعون } بيان الخوف والرجاء ولهذا لم يقل "وإليه أرجع" كأنه جعل نفسه ممن يعبد الله لذاته لا لرغبة أو رهبة. ثم أراد كمال التوحيد فقال { أئتخذ من دونه آلهة } فقوله { مالي لا أعبد الذي فطرني } فيه إقرار بوجود الصانع الفاطر، وقوله { أأتخذ } على سبيل الإنكار نفي لغيره ممن يسمى إلهاً وبهما يتم معنى لا إله إلا الله. ثم عرض على عقولهم جهل عابدي الأصنام أنهم لا يقدرون على دفع ضر ولا على إيصال نفع، وقد رتب الكلام فيه على ترتيب ما يقع بين العقلاء فإن الذي يريد أن يدفع الضر عن شخص يقدم على الشفاعة له، فإن قبلت وإلا أنقذه اي أخلصه بوجه من الوجوه. قال بعض المفسرين: لما أقبل القوم عليه يريدون قتله أقبل هو على المرسلين. قال { إني آمنت بربكم } فاسمعوا قولي لتشهدوا لي. وإنما قال { بربكم } ولم يقل "بربي" ليتعين أنه آمن بالرب الذي دعوه إليه. وقال أكثرهم: الخطاب للفكار وعلى هذا فالمراد به بيان التوحيد أي ربي وربكم واحد وهو الذي فطرني وفطركم فاسمعوا قولي وأطيعوني. وفي قوله { قيل ادخل الجنة } وجهان أحدهما. أنه قتل. ثم كأن سائلاً سأل: كيف لقاؤه ربه بعد ذلك التصلب في نصرة الدين حتى بذل مهجته؟ فقيل: قيل ادخل الجنة. والقائل هو الله سبحانه أو الملائكة بأمره. قال جار الله: لم يذكر المقول له لانصباب الغرض إلى المقول وعظم شأنه ولأنه معلوم. ثم كأن سائلاً آخر سأل: ايّ شيء تمنى في الجنة؟ فقيل { قال يا ليت قومي يعلمون } وإنما تمنى علم قومه بحاله ليصير ذلك سبباً لهم في التوبة والإِيمان ليفوزوا بما فاز ويؤيده ما روي في حديث مرفوع أنه نصح قومه حياً وميتاً. ويجوز أن يكون سبب التمني هو أن ينبهوا على خطئهم في أمره وعلى صوابه في رأيه وأن عداوتهم لم تعقبه إلا سعادة وكرامة. وثانيهما أن الرسل بشروه وهو حيّ بدخول الجنة فصدّقهم وتمنى علم قومه بحاله فيؤمنوا كما آمن. و"ما" في قوله { بما غفر } مصدرية أو موصولة أي بالذي غفره لي من الذنوب، أو استفهامية يعني بأي شيء غفر لي أراد ما جرى بينه وبينهم من المصابرة والذب عن الدين إلا أن طرح الألف أجود. فقول القائل: علمت بم صنعت هذا أحسن من قوله "بما صنعت" فقوله { غفر لي ربي وجعلني من المكرمين } بإزاء قوله { فبشره بمغفرة وأجر كريم } ثم اشار إلى كيفية إهلاك قومه بعده قائلاً { وما أنزلنا على قومه } قال المفسرون: يجوز أن يريد بقومه الذين بقوا من أهل القرية بعد المؤمنين منهم وأن يريد به أقاربه فلعل غيرهم من قوم الرسل آمنوا فلم يصبهم العذاب. ثم قال { وما كنا منزلين } أي وما كان يصح في حكمتنا أن ننزل في إهلاك قوم حبيب جنداً من السماء، ومن هنا يعلم فضل نبينا صلى الله عليه وسلم على غيره فقد أنزل الله لأجله الجنود من السماء يوم بدر والخندق وحنين وما أنزلها لغيره من نبي فضلاً عن حبيب، فشتان بين حبيب الجبار وبين حبيب النجار. فالحاصل أنه تعالى يقول لمحمد صلى الله عليه وسلم: إن إنزال الجنود من عظائم الأمور التي لا يؤهل لها إلا مثلك وما كنا نفعله لغيرك. فمن قرأ { إلا صيحة } بالنصب أراد ما كانت الأخذة أو العقوبة إلا بسبب صيحة، ومن قرأ بالرفع على أن "كان" التامة فمعناه ما وقعت إلا صيحة. قال جار الله: القياس والاستعمال على تذكير الفعل لأن المعنى ما وقع شيء إلا صيحة ولكنه نظر إلى ظاهر اللفظ وأن الصيحة في حكم فاعل الفعل. قلت: يجوز أن يقدر ما حدثت عقوبة. وقيل: إن التأنيث لتهويل الواقعة ولهذا جاءت أسماء الجنس كلها مؤنثة. ووصف الصيحة بواحدة للتأكيد. وقرأ ابن مسعود إلا زقية وهي الصيحة ايضاً ومنه المثل "أثقل من الزواقي" والزقاء صياح الديك ونحوه، وذلك لأن صياح الديكة يؤل بنزول الأنس وبتبدل الفراق بالوصال.
ثم شبه هلاكهم بخمود النار وهو صيرورتها رماداً لأنهم كانوا كالنار الموقدة في القوة الغضبية حيث قتلوا من نصحهم وتجبروا على من أظهر المعجزة لديهم. ثم بين بقوله { يا حسرة } أنهم أحقاء بأن يتحسر عليهم المتحسرون من الملائكة والثقلين أو من الله عز وجل على سبيل الاستعارة وذلك لتعظيم ما صدر من تقصيرهم وبدر من تفريطهم ثم ذكر سبب التحسر بقوله { ما يأتيهم } الآية. ثم عجب من حالهم في عدم الاعتبار بأمثالهم من الأمم الخالية. وقوله { أنهم إليهم لا يرجعون } بدل من { كم أهلكنا } التقدير: ألم يعلموا القرون الكثيرة المهلكة من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم. والبدل بدل اشتمال لهم لأنه حال من أحوال المهلكة أي أهلكوا بحيث لا رجوع لهم إليهم. ولارجوع حسيّ وهو ظاهر، أو معنويّ وهو الرجوع بالنسب والولادة أي أهلكناهم وقطعنا نسلهم. من قرأ "لما" بالتشديد فمعنى إلا و"أن" نافية. ومن قرأ بالتخفيف فإن مخففة و"ما" صلة تقديره. وإن كلهم لمحشورون مجموعون محضرون للحساب يوم القيامة. قال في الكشاف: كيف أخبر عن كل المجموعي بجميع؟ وأجاب بأنهما ليسا بواحد، بل الكل يفيد الشمول والجميع يفيد الانضمام وأن المحشر يجمعهم. ويحتمل أن يقال: الغرض وصف الجميع بالإحضار كقولك: الرجل رجل عالم والنبيّ نبيّ مرسل. ثم ذكر البرهان على الحشر وعلى التوحيد أيضاً مع تعداد النعم وتذكيرها قائلاً: { وآية لهم الأرض الميتة } قال المحققون: إنما قال لهم لأن الأرض ليست آية للنبي ولغيره من أهل الإخلاص الذين هم بالله عرفوا الله قبل النظر إلى الأرض والسماء كقوله
{ أولم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد } [فصلت: 53] وقوله { أحييناها } استئناف بياناً لكونها آية وكذلك نسلخ ويجوز أن يكونا وصفين على قياس.

ولقد أمر على اللئيم يسبني

وقوله { فمنه يأكلون } بتقديم الجار للدلالة على أن الحب هو معظم قوت الإنسان وبه قوام معاشه عادة، فنفس الأرض آية فإنها مهدهم الذي فيه تحريكهم واستكانهم والأمر الضروري الذي عنده وجودهم وإمكانهم. وسواء كانت ميتة أو لم تكن فهي مكان لهم، ثم إحياؤها مخضرة نعمة ثانية فإنها أحسن وأنزه، ثم إخراج الحب منها نعمة ثالثة فإن قوتهم إذ كان في مكانهم كان أجمع للقوّة والفراغ. ثم جعل الجنات فيها نعمة رابعة موجبة للتفكه وسعة العيش، ثم تفجير العيون فيها نعمة خامسة لأن ماء السماء لا يحصل الوثوق بنزوله في كل حين فذلك كالشيء المدخر القريب التناول. والضمير في قوله { من ثمره } يعود إلى الله، وفائدة الالتفات أن الثمار بعد وجود الاشجار وجريان الأنهار لا توجد إلا بتخليق الملك الجبار، ويحتمل أن يعود إلى المذكور وهو الجنات أو إلى التحصيل وترك ذكر الأعناب لأن حكمه حكم النخيل. وقيل: إلى التفجير المدلول عليه بسياق الكلام أي ليأكلوا من فوائد التفجير وهو أعم من الثمار، ويشمل جميع ما ذكره في قوله { أنا صببنا الماء صباً } [عبس: 25] إلى قوله { { وفاكهة وأباً } [عبس: 31] وقوله { وما عملت } من قرأ بغير هاء الضمير فما موصولة أو مصدرية أي ليأكلوا من ثمر الله ومن ثمر ما عملته أو من ثمر عمل أيديهم، أو نافية فيكون إشارة إلى أن الثمر خلق الله ولم تعمله أيدي الناس ولا يقدرون عليه، ومن قرأ مع الضمير فما موصولة والضمير لها أو نافية والضمير للتفجير أو المذكور. ومعنى عمل الأيدي ما يتكابده الناس من الحرث والسقي وغير ذلك. هذا إذا جعلت "ما" موصولة، فإن كانت نافية فالمراد الإيجاد والخلق. وقيل: عمل الأيدي التجارة. وقيل: الطبخ ونحوه.
ثم نزه نفسه بقوله { سبحان الذي خلق الأزواج } أي الأصناف والمراد بقوله { ومما لا يعلمون } أزواج لم يطلع الله الإنسان عليها بطريق من طرق المعرفة
{ { وما يعلم جنود ربك إلا هو } [المدثر: 31] { { فلا تعلم نفس ما أخفى لهم من قرة أعين } [السجدة: 17] قالت الأشاعرة: فيه دليل على أن أفعال العباد مخلوقة لله لأن أفعالهم أعراض وهي داخلة تحت الأجناس. وقوله { مما تنبت } لا يخرجه عن العموم لأن البيان متعدّد نظيره قول القائل: أعطيته كل شيء من الثياب والدواب والعبيد. فإنه يفهم أن تعديد الأصناف لتأكيد العموم يؤيده قوله في الزخرف { { الذي خلق الأزواج كلها } [الآية: 12] من غير تقييد. وحين فرغ من الاستدلال بالمكان شرع في الاستدلال بالزمان. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. ومعنى سلخ النهار من الليل تميزه منه. قال جار الله: أصله من سلخ الجلد الشاة إذا ازالة عنها فاستعير لإزالة الضوء وكشفه عن مكان الليل وموضع إلقاء ظله. ومعنى { مظلمون } داخلون في الظلام أي لا بد لهم أن يدخلوا في الظلام إذ زال ولا يقدرون على دفعه. وفيه أن الليل كعرض أصلي يطرأ عليه النور تارة ويزول عنه أخرى. ثم كان لجاهل أن يقول: سلخ النهار إنما هو بغروب الشمس فلا جرم قال { والشمس تجري لمستقرّ } أي لحدّ لها مؤقت تنتهي إليه من فلكها شبه بمستقر المسافر إذا قطع مسيره إلا أن المسافر له قرار بعد ذلك وهذه لا قرار لها بعد الحصول في ذلك الحدّ ولكنها تستأنف الحركة منه وهو أوّل الحمل أو أحد الخافقين أو إحدى الغايتين في تصاعدها في الفلك نصف النهار وتنازلها أو غير ذلك من الاعتبارات. وقيل: أراد بالمستقر بيتها وهو الأسد. وقيل: أراد لجري مستقرها وهو فلكها. وقيل: هو الدائرة التي عليها حركتها الخاصة. وقال الحكيم: أراد لأمر لو وجده لاستقر وهو استخراج الأوضاع الممكنة. وقيل: أراد الوقت الذي ينقطع جريها وهو يوم القيامة. وقيل: إنه إشارة إلى نعمة النهار بعد الليل كأنه قال: إن الشمس تجري فتطلع عند انقضاء الليل فيعود النهار لمنافعه وعلى هذا فالمستقر هو أفق الغرب خاصة { ذلك } الجري على الوجوه المذكورة { تقدير العزيز } الغالب بقدرته على كل مقدور { العليم } بمبادئ الأمور وغاياتها.
ثم ذكر أمر سير القمر وقد مر في أوّل سورة يونس في قوله
{ وقدره منازل } [الآية: 5] والعرجون عود العذق ما بين شماريخه إلى منبته من النخلة وهو "فعلون" من الانعراج الانعطاف قاله الزجاج. والقديم ما تقادم عهده ويختلف بحسب الأعيان. فلا يقال لمدينة بنيت من سنة وسنتين هي قديمة. وقد يقال: نبت قديم وإن لم يكن له سنة. وإطلاق القديم على العالم لا يعتاد لأنه موهم إلا عند من يعتقد أنه لا أول له. وقال في الكشاف: القديم المحول وهو أول ما يوصف بالقدم، فلو أن رجلاً قال: كل مملوك لي قديم فهو حر وكتب ذلك في وصية، عتق منهم من مضى له حول وأكثر. وإذا قدم العرجون دق وانحنى واصفرّ فشبه انقراض الشهر به من الوجوه الثلاثة. ثم بين أن لكل واحد من النيرين حركة مقدرة وسلطاناً على حياله { لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر } لتباطؤ سيرها عن سيره { ولا الليل } أي ولا تسبق آية الليل - وهو القمر- آية النهار - وهي الشمس - أي لا يداخل القمر الشمس في سلطانها. وقيل: أراد أن الليل لا يدخل في وقت النهار. وقيل: إنه إشارة إلى الحركة اليومية التي بها يحدث الليل والنهار. والمراد أن القمر لا يسبق الشمس بهذه الحركة لأنها تشملهما على السواء، وهكذا جميع الكواكب فلا يقع بسببها تقدم ولا تأخر ولهذا لم يقل "يسبق" على قياس تدرك أي ليس من شأنه السبق إذ الكواكب كأنها كلها ساكنة بهذه الحركة. وأقول: يحتمل أن يراد لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر ولا القمر ينبغي أن يتخلف، فحذف إحدى القرينتين للعلم به كقوله { { سرابيل تقيكم الحر } [النحل: 81] وكذا الكلام في قوله { ولا الليل سابق النهار } أراد ولا النهار سابق الليل أي لا يدخل شيء منهما في غير وقته. سلمنا أن المراد بالليل والنهار آيتهما لكنه يمكن أن يقال: إنه إشارة إلى الحركة الدورية لأنه لما قال: إن الشمس لبطء سيرها لا تدرك القمر. فهم منه أن القمر يسبق الشمس بحركته، فأشار إلى أن هذا السبق ليس على قياس المتحركات على الاستقامة ولكنه سبق هو بعينه موجب للقرب، وهذا معنى قول أهل الهيئة إن الكوكب هارب عن نقطة ما طالب لها بعينه. وأما قوله { وكل في فلك يسبحون } فقد مرّ تفسيره في سورة الأنبياء. ولما بين ما هو كالضروري لوجود الإنسان من المكان والزمان وما يتبعه ويسبقه، شرع في تقرير ما هو نافع لهم في أحوال المعاش. قال بعض المفسرين: أراد بحمل الذرية حمل آبائهم وهم في أصلابهم. والفلك فلك نوح ومثله هو ما يركبون الآن عليه من السفن والزوارق. قال جار الله: وإنما ذكر ذرياتهم دونهم لأنه أبلغ في الامتنان عليهم وأدخل في التعجب من قدرته في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح، ولولا ذلك لما بقي للآدمي نسل. ومن فوائد ذكر الذرية أن من الناس من لا يركب السفينة طول عمره ولكنه في ذريته من يركبها غالباً. وذهب آخرون إلى أن المراد حمل أولادهم ومن يهمهم حمله كالنساء. وقد يقع اسم الذرية عليهن لأنهن مزارع الأولاد. في الحديث "إنه نهى عن قتل الذراري" يعني النساء فكأنه قيل: إن كنا ما حملناكم بأنفسكم فقد حملنا من يهمكم أمره وعلى هذا يكون قوله { وخلقنا لهم } إلى آخره اعتراضاً، ومثل الفلك ما يركبون من الإبل لأنها سفائن البر. وفي وصف الفلك بالمشحون مزيد تقرير للقدرة والنعمة فإن الفلك إذا كان خالياً كان خفيفاً لا يرسب في الماء بالطبع. ثم ذكر ما يؤكد كونه فاعلاً مختاراً قائلاً { وإن يشأ نغرقهم فلا صريخ لهم } وهو مصدر أو صفة أي لا إغاثة أو لا مغيث. وقوله { إلا رحمة } إشارة إلى أن الإنقاذ رحمة بالنسبة إلى المؤمن ومتاع إلى حلول الأجل بالإضافة إلى الكافر، أو المراد أن أحد لا يتخلص من الموت وإن سلم من الآفات ولله در القائل:

ولم أسلم لكي أبقى ولكن سلمت من الحمام إلى الحمام

التأويل: { يس } إشارة إلى أنه بلغ في السيادة مبلغاً لم يبلغه أحد من المرسلين { تنزيل العزيز الرحيم } فيه أنه لعزته لا يحتاج إلى تنزيل القرآن ولكن رحمته اقتضت ذلك { نحيي } القلوب { الموتى ونكتب ما قدموا } من الأنفاس المتصاعدة ندماً وشوقاً، وآثار خطا أقدام صدقهم وآثار دموعهم على خدودهم { أصحاب القرية } القلوب { إذ أرسلنا إليهم اثنين } من الخواطر الرحمانية والإلهامات الربانية بالتجافي عن دار الغرور والإنابة إلى دار الخلود { فكذبوهما } النفس وصفاتها { فعززنا بثالث } من الجذبة { إنا تطيرنا بكم } لأن النفس وصفاتها لا يوافقهما ما يدعو الإلهام والجذبة إليه { طائركم معكم } لأن النفس خلقت من العدم على خاصيتها المشؤومة { رجل يسعى } هو الروح المشتاق إلى لقاء الحق { لا يسألكم أجراً } لأنه لا شرب له من مشاربكم. { قيل ادخل الجنة } وهي عالم الأرواح وهو كقوله { يا أيتها النفس المطمئنة } [الفجر: 27] إلى قوله { { ادخلي جنتي } [الفجر: 30] { على قومه من بعده } أي بعد رجوع الروح إلى الحضرة ما أنزل إلى النفس وصفاتها ملائكة من السماء لأنهم لا يقدرون على النفس وصفاتها وإصلاح حالها، فإن صلاحها في موتها والمميت هو الله. { صيحة واحدة } من وارد حق { فإذا هم } يعني النفس وصفاتها { خامدون } ميتون عن أنانيته بهويته { ألم يروا كم أهلكنا } فيه إشارة إلى أن هذه الأمة خير الأمم شكى معهم من كل أمة وما شكى إلى أحد من غيرهم شكايتهم { وآية لهم } القلوب { الميتة أحييناها } بالطاعة ونخيل الأذكار واعناب الأشواق وعيون الحكمة وثمر المكاشفات وعمل الخيرات والصدقات { خلق الأزواج } من الآباء العلوية والأمهات السفلية { مما تنبت } أرض البشرية بازدواج الكاف والنون. { ومن أنفسهم } بازدواج الروح والقلب { ومما لا يعلمون } من تأثير العناية في قلوب المخلصين مما لا عين رأت ولا أذن سمعت { وآية لهم } ليل البشرية { نسلخ منه } نهار الروحيانة { فإذا هم مظلمون } بظلمة الخليقة فإن الله خلق الخلق في ظلمة ثم رش عليهم من نوره. وشمس نور الله { تجري لمستقر لها } وهو قلب استقر فيه رشاش نور الله وقمر القلب { قدرناه } ثمانية وعشرين منزلاً على حسب حروف القرآن وأسماؤها: الألفة والبر والتوبة والثبات والجمعية والحلم والخلوص والديانة والذلة والرأفة والزلفة والسلامة والشوق والصدق والصبر والطلب والظمأ والعشق والعزة والفتوة والقربة والكرم واللين والمروءة والنور والولاية والهداية واليقين. فإذا قطع كل المنازل فقد تخلق بخلق القرآن ولهذا قال لنبيه صلى الله عليه وسلم { واعبد ربك حتى يأتيك اليقين } [الحجر: 99] وهو آخر المنازل والمقامات، فإن السالك يألف الحق أوّلاً ثم يتوب فيثبت على ذلك حتى تحصل له الجمعية، وعلى هذا يعبر المقامات حتى يصير كاملاً كالبدر، ثم يتناقص نوره بحسب دنوّه من شمس شهود الحق إلى أن يتلاشى ويخفى وهو مقام الفقر الحقيقي الذي افتخر به نبيناً صلى الله عليه وسلم بقوله "الفقر فخري" . ثم أشار بقوله { لا الشمس ينبغي لها } إلى أن الرب لا يصير عبداً ولا العبد رباً. ثم ذكر أن العلوم محمولون في سفينة الشريعة والخواص في بحر الحقيقة كلاهما بفلك العناية وملاحة ارباب الطريقة، ومثل ما يركبون هو جناح همة المشايخ. { وإن نشأ } نغرق العوام في بحر الدنيا والرخص والخواص في بحر الشبهات والإباحة.