التفاسير

< >
عرض

حـمۤ
١
تَنزِيلُ ٱلْكِتَابِ مِنَ ٱللَّهِ ٱلْعَزِيزِ ٱلْحَكِيمِ
٢
إِنَّ فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ لأيَٰتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ
٣
وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِن دَآبَّةٍ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٤
وَٱخْتِلاَفِ ٱللَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ وَمَآ أَنَزَلَ ٱللَّهُ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَّن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ ٱلأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ ٱلرِّيَاحِ ءَايَٰتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ
٥
تِلْكَ ءَايَٰتُ ٱللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِٱلْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ ٱللَّهِ وَءَايَٰتِهِ يُؤْمِنُونَ
٦
وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ
٧
يَسْمَعُ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ تُتْلَىٰ عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ
٨
وَإِذَا عَلِمَ مِنْ ءَايَٰتِنَا شَيْئاً ٱتَّخَذَهَا هُزُواً أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ
٩
مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً وَلاَ مَا ٱتَّخَذُواْ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوْلِيَآءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ
١٠
هَـٰذَا هُدًى وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ بِآيَٰتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ
١١
ٱللَّهُ ٱلَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ ٱلْبَحْرَ لِتَجْرِيَ ٱلْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
١٢
وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لأيَٰتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ
١٣
قُل لِّلَّذِينَ ءَامَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ ٱللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ
١٤
مَنْ عَمِلَ صَـٰلِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَىٰ رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ
١٥
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْكِتَابَ وَٱلْحُكْمَ وَٱلنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى ٱلْعَالَمينَ
١٦
وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَمَا ٱخْتَلَفُوۤاْ إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
١٧
ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَىٰ شَرِيعَةٍ مِّنَ ٱلأَمْرِ فَٱتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ
١٨
إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ ٱللَّهِ شَيْئاً وَإِنَّ ٱلظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَٱللَّهُ وَلِيُّ ٱلْمُتَّقِينَ
١٩
هَـٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ
٢٠
أَمْ حَسِبَ ٱلَّذِينَ ٱجْتَرَحُواْ ٱلسَّيِّئَاتِ أَن نَّجْعَلَهُمْ كَٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ
٢١
وَخَلَقَ ٱللَّهُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ بِٱلْحَقِّ وَلِتُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ
٢٢
أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٢٣
وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا ٱلدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ ٱلدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ
٢٤
وَإِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُنَا بَيِّنَاتٍ مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ٱئْتُواْ بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
٢٥
قُلِ ٱللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ وَلَـٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ
٢٦
وَلِلَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ ٱلسَّاَعةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ ٱلْمُبْطِلُونَ
٢٧
وَتَرَىٰ كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تُدْعَىٰ إِلَىٰ كِتَابِهَا ٱلْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٢٨
هَـٰذَا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بِٱلْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
٢٩
فَأَمَّا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْمُبِينُ
٣٠
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ كَفَرُوۤاْ أَفَلَمْ تَكُنْ ءَايَٰتِى تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ فَٱسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنتُمْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
٣١
وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ ٱللَّهِ حَقٌّ وَٱلسَّاعَةُ لاَ رَيْبَ فِيهَا قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا ٱلسَّاعَةُ إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ
٣٢
وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ
٣٣
وَقِيلَ ٱلْيَوْمَ نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هَـٰذَا وَمَأْوَاكُمُ ٱلنَّارُ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ
٣٤
ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ ٱتَّخَذْتُمْ ءَايَٰتِ ٱللَّهِ هُزُواً وَغَرَّتْكُمُ ٱلْحَيَاةُ ٱلدُّنْيَا فَٱلْيَوْمَ لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ
٣٥
فَلِلَّهِ ٱلْحَمْدُ رَبِّ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَرَبِّ ٱلأَرْضِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٣٦
وَلَهُ ٱلْكِبْرِيَآءُ فِي ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَهُوَ ٱلْعِزِيزُ ٱلْحَكِيمُ
٣٧
-الجاثية

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { وفي خلقكم } مدغماً: عباس. { آيات } بالنصب في الموضعين: حمزة وعلي ويعقوب { الريح } على التوحيد: حمزة وعلي وخلف { يؤمنون } على الغيبة: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو وسهل وحفص { أليم } مذكور في "سبأ" { لنجزي } بالنون: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف { ليجزي } بالياء مبنياً للمفعول { قوم } بالرفع: يزيد. الباقون: مبنياً للفاعل { قوماً } سواء بالنصب: حمزة وعلي وخلف وحفص وروح وزيد { غشوة } بفتح الغين وسكون الشين من غير ألف: حمزة وعلي وخلف 3 { كل أمة تدعي } بالنصب على الإبدال من الأول: يعقوب { الساعة } بالنصب: حمزة { لا يخرجون } من الخروج حمزة وعلي وخلف.
الوقوف: { حم } كوفي ه { الحكيم } ه { للمؤمنين } ه ط ومن نصب، { آيات } لم يقف لأنها عطف المفردين على المفردين وهما الخبر واسم أن المفردين { يوقنون } ه لا للعطف على { عاملين } كما يجيء { يعقلون } ه { بالحق } ج للاستفهام مع الفاء { يؤمنون } ه { أثيم } ه { يسمعها } ج لانقطاع النظم مع فاء التعقيب { أليم } ه { هزواً } ط { مهين } ه ط لأنه لو وصل اشتبه بأنها وصف { عذاب جهنم } ج لعطف المختلفين { أولياء } ج لذلك { عظيم } ه { هدى } ط لأن ما بعده مبتدأ مع العاطف { أليم } ه { تشكرون } ه ج للآية مع العطف { منه } ط { يتفكرون } ج { يكسبون } ه { فلنفسه } ج { فعليها } ز لأن "ثم" لترتيب الأخبار مع اتحاد القصة { ترجعون } ه { العالمين } ه ج للآية والعطف { من الأمر } ج لعطف المختلفتين { بينهم } ط { يختلفون } ه { لا يعلمون } ه { شيئاً } ج { بعض } ج للتمييز بين الحالين المختلفين مع اتفاق الجملتين { المتقين } ه { يوقنون } ه { الصالحات } قف ومن نصب { سواء } لم يقف. { ومماتهم } ط { يحكمون } ه { لا يظلمون } ه { غشاوة } ط { من بعد الله } ط { تذكرون } ه { الدهر } ج لاحتمال الواو الحال { من علم } ج لانقطاع النظم مع اتصال المعنى { يظنون } ه { صادقين } ه { لا يعلمون } ه { والأرض } ط { المبطلون } ه { جاثية } قف لمن قرأ { كل } بالرفع { كتابها } ط { تعملون } ه { بالحق } ه ط { تعملون } ه { في رحمته } ط { المبين } ه { مجرمين } ه { ما الساعة } لا تحرزاً عن الابتداء بقول الكفار { بمستيقنين } ه { يستهزؤون } ه { ناصرين } ه { الدنيا } ج للعدول عن الخطاب إلى الغيبة { يستعتبون } ه { العالمين } ه { والأرض } ص لعطف الجملتين المتفقتين { الحكيم } ه.
التفسير: إعراب أول السورة وتفسيرها كإعراب أول "المؤمن" وتفسيره وقوله { إن في السموات } إما أن يكون على ظاهره وآياتها الشمس والقمر والنجوم وحركاتها وأوضاعها وكذا العناصر والمواليد التي في الأرض مما يعجز الحاصر عن إدراك أعدادها، وإما أن يراد إن في خلق السموات والأرض فالآيات تشمل ما عددنا مع زيادة هيئتهما وما يتعلق بتشخيصهما. استدل الأخفش بالآية الثالثة على جواز العطف على عاملين. مختلفين وهما في قراءة النصب "أن" وفي أقيمت الواو مقامها فعملت الجر في اختلاف الليل، والنصب في آيات وهما في قراءة الرفع الابتداء وفي. وخرج لسيبويه في جوابه وجهان: أحدهما أن قوله { آيات } تكرار محض للتأكيد فقط من غير حاجة إلى ذكرها كما تقول: إن في الدار زيداً وفي الحجرة زيداً والمسجد زيداً، وأنت تريد أن في الدار زيداً والحجرة والمسجد. والثاني إضمار في لدلالة الأول عليه، ويحتمل أن ينتصب { آيات } على الاختصاص. ويرتفع بإضمار هي. وتفسير هذه الآيات قد مر في نظائرها مراراً ولا سيما في أواسط "البقرة" ومما يختص بالمقام أنه خص المؤمنين بالذكر أولاً ثم قال { لقوم يوقنون } ثم { يعقلون } فما سبب هذا الترتيب؟ قال الإمام فخر الدين الرازيرحمه الله : أراد إن كنتم مؤمنين فافهموا هذه الدلائل وإلا فإن كنتم طلاب الحق واليقين فافهموا هذه الدلائل، وإن كنتم لستم من المؤمنين ولا من الموقنين فلا أقل من أن تكونوا من زمرة العاقلين، فاجتهدوا في معرفة هذه الدلائل، وقال جار الله: معناه إن المنصفين من العباد إذا نظروا في السموات والأرض النظر الصحيح علموا أنها لا بد لها من صانع فآمنوا به وأقروا، فإذا نظروا في خلق أنفسهم وتنقلها من حال إلى حال. وفي خلق ما بث من الدواب على ظهر الأرض، ازدادوا إيماناً وأيقنوا وانتفى عنهم اللبس، وإذا نظروا في سائر الحوادث كاختلاف الليل والنهار ونزول الأمطار التي هي سبب الأرزاق وحياة الأرض بعد موتها، وتصريف الرياح جنوباً وشمالاً وقبولاً ودبوراً، عقلوا واستحكم عقلهم وخلص يقينهم. وأقول: الدلائل المذكورة في هذه الآيات قسمان: نفسية وخارجية. فالنفسية أولى بالإيقان لأنه لا شيء أقرب إلى الإنسان من نفسه، والخارجية بعضها فلكية وبعضها آثار علوية. فالفلكية لبعدها عن الإنسان اكتفى فيها بمجرد التصديق، وأما الآثار العلوية فكانت أولى بالنظر والاستدلال لقربها وللإحساس بها فلا جرم خصت بالتعقل والتدبر، وأما تقديم السموات على الأرض فلشمولها ولتقدمها في الوجود. { تلك } مبتدأ والتبعيد للتعظيم والمشار إليها الآيات المتقدمة و { نتلوها } في محل الحال. وقوله { بعد الله وآياته } كقولهم: أعجبني زيد وكرمه. وأصله بعد آيات الله. والمعنى أن من لم يؤمن بكلام الله فلن يؤمن بحديث سواه. وقيل: معناه القرآن آخر كتب الله، ومحمد آخر رسله. فإن لم يؤمنوا به فبأي كتاب بعده يؤمنون ولا كتاب بعده ولا نبي. ثم أوعد الناس المبالغين في الإثم وقد مر ما في الآية في سورة لقمان. قوله { وإذا علم } أي شعر وأحس بأنه من جملة القرآن المنزل خاض في الاستهزاء، وإذا وقف على آية لها محل في باب الطعن والقدح افترضه وحمله على الوجه الموجب للطعن كافتراض ابن الزبعري في قوله
{ إنكم وما تعبدون من دون الله } [الأنبياء: 98] وإنما أنّث الضمير في قوله { اتخذها } لأن الشيء في معنى الآية أو لأنه أراد أن يتخذ جميع الآيات هزواً ولا يقتصر على الاستهزاء بما بلغه. قوله { من ورائهم جهنم } كل ما توارى عنك فهو وراء تقدم أو تأخر، وقد مر في سورة إبراهيم عليه السلام { هذا هدى } أي هذا القرآن كامل في باب الهداية والإرشاد. ثم ذكر دليلاً آخر على الوحدانية وهو تسخير البحر لبني آدم وقد سبق وجه الدلالة مراراً. وقوله { ولتبتغوا } أي بسبب التجارة أو بالغوص على اللؤلؤ والمرجان أو باستخراج اللحم الطري. ثم عمم بعد التخصيص وقوله { منه } في موضع الحال أي سخر جميع ما في السموات والأرض كائنة منه، يريد أنه أوجدها بقدرته وحكمته ثم سخرها لخلقه، ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف أي هذه النعم كلها منه. عن ابن عباس برواية عطاء أن الصحابة نزلوا في غزوة بني المصطلق على بئر - يقال لها المريسيع - فأرسل عبد الله بن أبيّ غلامه ليستقي الماء فأبطأ عليه فلما أتاه قال له: ما حبسك؟ قال: غلام عمر قعد على رأس البئر فما ترك أحداً يستقي حتى ملأ قرب النبي وقرب أبي بكر وملأ لمولاه. فقال عبد الله: ما مثلنا ومثل هؤلاء إلا كما قيل: سمن كلبك يأكلك فبلغ قوله عمر فاشتمل بسيفه يريد التوجه إليه فأنزل الله تعالى { قل للذين آمنوا } يعني عمر { يغفروا للذين لا يرجون أيام الله } لا يتوقعون وقائعه بأعداء الله أو لا يأملون قوة المؤمنين في أيام الله الموعودة لهم، والمراد الصفح والإعراض. عن عبد الله بن أبي وفي رواية ميمون بن مهران عن ابن عباس: لما نزلت { من ذا الذي يقرض الله } [البقرة: 245] قال اليهودي فنحاص بن عازوراء: احتاج رب محمد فبلغ ذلك عمر فأخذ سيفه فخرج في طلبه، فجاء جبرائيل وأنزل الآية هذه. وليس المقصود أن لا تقتلوا ولا تقاتلوا حتى يلزم نسخها بآية القتال كما ذهب إليه كثير من المفسرين، ولكن الأولى أن يحمل على ترك المنازعة في المحقرات وفي أفعالهم الموحشة المؤذية، وإنما أنكر { قوماً } مع أنه أراد بقوم الذين آمنوا وهم معارف ليدل على مدحهم والثناء عليهم كأنه قيل: لنجزي قوماً كاملين في الصبر والإغضاء على أذى الأعداء { بما كانوا يكسبون } من الثواب العظيم بكظم الغيظ واحتمال المكروه، وقيل: القوم هم الكافرون الكاملون في النفاق. ثم فصل الجزاء وعمم الحكم بقوله { من عمل صالحاً } الآية.
ثم بين أن للمتأخرين من الكفار أسوة بالمتقدمين منهم والكتاب التوراة والحكم بيان الشرائع والبينات من الأمر أدلة أمور الدين. وقال ابن عباس: يريد أنه تبين لهم من أمر النبي صلى الله عليه وسلم أنه مهاجر من تهامة إلى يثرب. وقيل: هي المعجزات القاهرة على صحة نبوة موسى { فما اختلفوا إلا من بعد ما جاءهم العلم } فيه احتمالان: أحدهما علموا ثم عاندوا، والثاني جاءهم أسباب المعرفة التي لو تأملوا فيها لعرفوا الحق ولكنهم أظهروا النزاع حسداً. { ثم جعلناك على شريعة } أي منهاج وطريقة { من الأمر } أمر الدين وقيل: من الأمر الذي أمرنا به من قبلك من رسلنا. قال الكلبي: إن رؤساء قريش قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم وهو بمكة ارجع إلى ملة آبائك وهم كانوا أفضل منك وأسن فزجره الله تعالى عن ذلك بقوله { ولا تتبع } إلى آخره أي لو ملت إلى أديانهم الباطلة لصرت مستحقاً للعذاب وهم لا يقدرون على دفعه عنك. ثم أشار بعد النهي عن اتباع أهوائهم بقوله { ولا تتبع } أتباعهم إلى الفرق بين ولاة الظالمين وهم أشكالهم من الظلمة، وبين ولي المتقين وهو الله سبحانه. ومن جملة آثار ولايته وبركة عنايته { هذا } القرآن. وقيل: ما تقدم من اتباع الشريعة وترك طاعة الظالم وجعل القرآن مشاراً إليه أولى لقوله { بصائر من ربكم } إلى آخره. وقد مر في آخر "الأعراف" مثله. ثم بين الفرق بين الظالمين والمتقين من وجه آخر قائلاً { أم حسب } قال جار الله: "أم" منقطعة والآية نظيرة ما سلف في "ص"
{ أم نجعل الذين آمنوا وعملوا الصالحات كالمفسدين } [الآية: 28] والاجتراح الاكتساب. من قرأ { سواء } بالنصب فمعناه مستوياً والظاهر بعده فاعله ويكون انتصابه على البدل من ثاني مفعولي { نجعل } وهو الكاف. من قرأ بالرفع بخبر { ومحياهم } مبتدأ والجملة بدل أيضاً لأن الجملة تقع مفعولاً ثانياً. والمعنى إنكار أن يستوي الفريقان حياة وموتاً، لأن المحسنين عاشوا على الطاعة وإنهم عاشوا على المعصية ومات أولئك على البشرى والرحمة، ومات هؤلاء على الضد. وقيل: معناه إنكار أن يستويا في الممات كما استووا في الحياة من حيث الصحة والرزق، بل قد يكون الكافر أرجح حالاً من المؤمن. فالفرق المقتضي لسعادة المؤمن وشقاوة الكافر إنما يظهر بعد الوفاة. وقيل: إنه كلام مستأنف، والمراد أن كلاً من الفريقين يموت على حسب ما عاش عليه لقوله صلى الله عليه وسلم: " كما تعيشون تموتون" وحين أفتى بأن المؤمن لا يساويه الكافر في درجات السعادات استدل على صحة هذه الدعوى بقوله { وخلق الله } الآية. قال جار الله: { ولتجزى } معطوف على { بالحق } لأنه في معنى التعليل أي للعدل، أو ليدل بها على قدرته وللجزاء. ويجوز أن يكون المعلل محذوفاً وهو فعلنا ونحوه. والحاصل أن الغاية من خلق السماء والأرض كان هو الإنسان الكامل فكيف يترك الله جزاءه وجزاء من هو ضده والتميز بينهما بموجب العدالة. ثم قرر أسباب ضلال المضلين قائلاً { أفرأيت من اتخذ إلهه هواه } أي يتبع ما تدعو إليه نفسه الأمارة وقد مر في الفرقان { وأضله الله على علم } بحالة أنه من أهل الخذلان والقهر، أو على علم الضلال في سابق القضاء، أو على علم بوجوه الهداية وإحاطته بالألطاف المحصلة لها. وقيل: أراد به المعاند لأن ضلاله عن علم { فمن يهديه من بعد } إضلال { الله } قال بعض العلماء: قدم السمع على القلب في هذه الآية وبالعكس في "البقرة" لأن كفار مكة كانوا يبغضونه بقلوبهم وما كانوا يستمعون إليه وكفار المدينة، كانوا يلقون إلى الناس أن النبي صلى الله عليه وسلم شاعر وكاهن وأنه يطلب الملك والرياسة، فالسامعون إذا سمعوا ذلك أبغضوه ونفرت قلوبهم عنه. ففي هذه الصورة على هذا التقدير كان الأثر يصعد من البدن إلى جوهر النفس، وفي الصورة الأولى كان الأثر ينزل من جوهر النفس إلى قرار البدن، فورد ما في كل سورة على ترتيبه. ثم ذكر من أسباب الضلال سبباً آخر وهو إنكارهم البعث معتقدين أن لا حياة إلاّ هذه. وليس قولهم الدنيا تسلماً لثانية وإنما هو قول منهم على لسان المقرين وبزعمهم { نموت ونحيى } فيه تقديم وتأخير على أن الواو لا توجب الترتيب. وقيل: يموت الآباء وتحيا الأبناء وحياة الأبناء حياة الآباء، أو يموت بعض، ويحيا بعض، أو أرادوا بكونهم أمواتاً حال كونهم نطفاً، أو هو على مذهب أهل التناسخ أي يموت الرجل ثم تجعل روحه في بدن آخر. ثم إنهم لم يقنعوا بإنكار المعاد حتى ضموا إليه إنكار المبدأ قائلين { وما يهلكنا إلا الدهر } اعتقدوا أن تولد الأشخاص وكون الممتزجات وفسادها ليس إلا بسبب مزاوجات الكواكب. ولا حاجة في هذا الباب إلى مبدىء المبادىء فأجاب الله عن شبهتهم بقوله { وما لهم بذلك من علم } أي ليس لهم على ما قالوه دليل وإنما ذكروا ذلك ظناً تخميناً واستبعاداً فلا ينبغي للعاقل أن يلتفت إلى قولهم، لأن الحجة قامت على نقيض ذلك وهي دليل المبدأ والمعاد المذكور مراراً وأطوراً. وليس قولهم { ائتوا بآبائنا } من الحجة في شيء لأنه ليس كل ما لا يحصل في الحال فإنه يمتنع حصوله في الاستقبال بدليل الحادث اليومي الممتنع حصوله في الأمس، فوجه الاستثناء أنه في أسلوب قوله:

تحية بينهم ضرب وجيع

وحين بكتهم وسكتهم صرح بما هو الحق وقال { قل الله يحييكم } إلى آخره. ثم أراد أن يختم السورة بوصف يوم القيامة وما سيجري على الكفار فيه فقال { ويوم تقوم الساعة } العامل فيه يخسر وقوله { يومئذ } بدل من { يوم } وفيه تأكيد للحصر المستفاد من تقديم الظرف. قال ابن عباس: الجاثية المجتمعة للحساب المترقبة لما يعمل بها. وقيل: باركة جلسة المدعي عند الحاكم. وقيل: مستوفزاً لا يصيب الأرض إلا ركبتاه وأطراف أنامله. والجثو للكفار خاصة. وقيل: عام بدليل قوله بعد ذلك { فأما الذين آمنوا } { وأما الذين كفروا } { تدعى إلى كتابها } يريد كتاب الحفظة ليقرؤه. وقال الجاحظ: إلى كتاب نبيها فينظر هل عملوا به أم لا. ويقال: يا أهل التوراة يا أهل القرآن. { اليوم تجزون } بتقدير القول ومما يؤيد القول الأول قوله { هذا كتابنا } إلى قوله { إنا كنا نستنسخ } أي نأمر بالنسخ. وإضافة الكتاب تارة إليهم وأخرى إلى الله عز وجل صحيحة لأن الإضافة يكفي فيها أدنى ملابسة، فأضيف إليهم لأن أعمالهم مثبتة فيه، وأضيف إلى الله سبحانه لأنه أمر ملائكته بكتبه. قوله { أفلم تكن } القول فيه مقدر أي فيقال لهم ذلك قوله { إن نظن إلا ظناً } قال أبو علي والأخفش: هذا الكلام جار على غير الظاهر لأن كل من يظن فإنه لا يظن إلا الظن، فتأويله أن ينوي به التقديم أي ما نحن إلا نظن ظناً. وقال المازني: تقديره إن نظن نحن إلا ظناً منكم أي أنتم شاكون فيما تزعمون وما نحن بمستيقنين أنكم لا تظنون. وقال جار الله: أصله نظن ظناً ومعناه إثبات الظن فحسب. فأدخل أداة الحصر ليفيد إثبات الظن مع نفي ما سواه وأقول: الظن قد يطلق على ما يقرب من العلم، ولا ريب أن لهذا الرجحان مراتب وكأنهم نفوا كل الظنون إلا الذي لا ثبوت علم فيه وأكدوا هذا المعنى بقوله { وما نحن بمستيقنين } وباقي السورة واضح مما سلف والله أعلم.