التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَاقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَـٰذِهِ نَاقَةُ ٱللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِيۤ أَرْضِ ٱللَّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوۤءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٧٣
وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي ٱلأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ ٱلْجِبَالَ بُيُوتاً فَٱذْكُرُوۤاْ آلآءَ ٱللَّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٧٤
قَالَ ٱلْمَلأُ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ ٱسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُوۤاْ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ
٧٥
قَالَ ٱلَّذِينَ ٱسْتَكْبَرُوۤاْ إِنَّا بِٱلَّذِيۤ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ
٧٦
فَعَقَرُواْ ٱلنَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَاصَالِحُ ٱئْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ ٱلْمُرْسَلِينَ
٧٧
فَأَخَذَتْهُمُ ٱلرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٧٨
فَتَوَلَّىٰ عَنْهُمْ وَقَالَ يَٰقَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ ٱلنَّٰصِحِينَ
٧٩
وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ ٱلْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن ٱلْعَالَمِينَ
٨٠
إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ ٱلرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ ٱلنِّسَآءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ
٨١
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُوۤاْ أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ
٨٢
فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ ٱمْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ ٱلْغَابِرِينَ
٨٣
وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً فَٱنْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ ٱلْمُجْرِمِينَ
٨٤
-الأعراف

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { وقال الملأ } بالواو: ابن عامر { إنكم } بحذف همزة الاسفهام: أبو جعفر ونافع وحفص وسهل. { أئنكم } بهمزتين: ابن عامر وحمزة وعلي وخلف وعاصم غير جفص، وهشام يدخل بينهما مدة، { آينكم } بالمد وبالياء: أبو عمرو وزيد. { أينكم } بالهمزة والياء: ابن كثير ويعقوب غير زيد. الوقوف: { صالحاً } ج لئلا يظن أن { صالحاً } صفة لا علم فالجملة بعده نعت له وهذا بخلاف اسم شعيب وغيره من الأعلام العربية { غيره } ط { من ربكم } ط { أليم } ه { بيوتاً } ط لما مر في قصة هود { مفسدين } ه { من ربه } ج { مؤمنون } ه { كافرون } ه { المرسلين } ه { جاثمين } ه { ناصحين } ه { من العالمين } ه { من دون النساء } ط لمكان الإضراب. { مسرفون } ه { من قريتكم } ج لاحتمال التعليل استهزاء { إلا امرأته } ز لاحتمال الاستئناف والأشبه أنها حال المرأة { من الغابرين } ه { مطراً } ط { المجرمين } ه.
التفسير: القصة الرابعة قصة صالح مع قومه ثمود. قال أبو عمرو بن العلاء: سميت ثمود لقلة مائها من الثمد وهو الماء القليل. وكانت مساكنهم الحجر بين الحجاز والشام إلى وادي القرى. وإنه لا ينصرف تارة بتأويل القبيلة وينصرف أخرى بتأويل الحي، أو باعتبار الأصل لأنه اسم أبيهم الأكبر وهو ثمود بن عابر بن إرم بن سام بن نوح. وقيل: إن ثمود أخو جديس وطسم. وقد ورد القرآن بالصرف وبمنعه جميعاً قال تعالى
{ ألا إن ثموداً كفروا ربهم ألا بعداً لثمود } [هود: 68] { قد جاءتكم بينة } آية ظاهرة دالة على صدقي وكأنه قيل: ما تلك البينة فقال { هذه ناقة الله لكم آية } وانتصابها على الحال والعامل فيها ما في اسم الإشارة أو حرف التنبيه من معنى الفعل أي أشير إليها أو أنبه عليها آية. و{ لكم } بيان لمن هي له آية موجبة للإيمان وهم ثمود. وسبب تخصيص أولئك الأقوام بها مع أنها آية لكل أحد أنهم عاينوها وغيرهم أخبروا بها وليس الخبر كالمعاينة. أو لعله يثبت سائر المعجزات إلا أن القوم التمسوا هذه المعجزة بعينها على سبيل الاقتراح فأظهرها الله تعالى لهم فلهذا حسن التخصيص. وإنما أضيفت إلى اسم الله تعظيماً لها وتفخيماً لشأنها حيث جاءت مكونة من عنده من غير فحل وطروقة آية من آياته كما تقول: آية الله وبيت الله، وبالحقيقة هي آية تشتمل على آيات. فخروجها من الجبل آية، وكونها لا من ذكر وأنثى آية، وكمال خلقها من غير تدريج ومهل آية، وأن لها شرب يوم ولجميع ثمود شرب يوم آية، وكذا الكلام في قوتها المناسب للماء وفي غزارة لبنها، وأنكر الحسن فقال: إنها لم تحلب قطرة لبن قط. ويروى أن جميع الحيوانات كانت تمتنع عن الورود في يوم شربها. وقيل: سميت ناقة الله لأنه لا مالك لها سوى الله تعالى. وقيل: لأنها حجة الله على القوم { فذروها تأكل في أرض الله } أي الناقة ناقة الله والأرض أرض الله فدعوها تأكل في أرض ربها ومما أنبت منها { ولا تمسوها بسوء } من الضرب والطرد وسائر أنواع الأذى إكراماً لآية الله. { فيأخذكم عذاب أليم } يعني أخذ الاستفزاز والاستئصال { واذكروا إذ جعلكم خلفاء من بعد عاد } تفسيره كما في قصة هود { وبوأكم في الأرض } أنزلكم فيها والمباءة المنزل والأرض أرض الحجر { تتخذون من سهولها } أي تبنون من سهول الأرض قصوراً بما تعملون من الأراضي السهلة لبناً وآجراً ورهصاً. واتصاب { بيوتاً } على الحال المقدرة كما تقول خط هذا الثوب قميصاً لأن الجبل لا يكون بيتاً في حال النحت ولا الثوب قميصاً في حال الخياطة. ويجوز أن تكون من مقدرة اكتفاء بقوله: { من سهولها } كما جاءت في موضع آخر { تنحتون من الجبال بيوتاً فارهين } [الشعراء: 149] فيكون منصوباً على أنه مفعول به. وقيل: المراد أنهم كانوا يسكنون السهول في الصيف والجبال في الشتاء { فاذكروا آلاء الله } يعني إني قد ذكرت لكم بعض نعم ربكم فاذكروا أنتم تمامها { ولا تعثوا في الأرض مفسدين } قيل: نهى عن عقر الناقة والأولى حمله على العموم. وإعرابه قد مر في أوائل سورة البقرة. { قال الملأ الذين استكبروا من قومه للذين استضعفوا } أي المساكين الذين استحقرهم رؤساء الكفار. وقوله { لمن آمن منهم } بدل من قوله { للذين استضعفوا } بتكرار الجار لشدة الاتصال. والضمير في { منهم } إما ان يرجع إلى الذين استضعفوا فيكون البدل بدل البعض ودل على أن المستضعفين فريقان مؤمنون وكافرون، وإما أن يرجع إلى قومه فيكون البدل بدل الكل ودل على أن الاستضعاف من شأن أهل الإيمان يستحقرهم المستكبرون، ولا يكون صفة ذم في حقهم وإنما الذم يعود إلى المستحقرين. وفي الآية دلالة على أن الفقر خير من الغنى لأن الإستكبار يتولد من كثرة المال والجاه والتصديق والانقياد ينشأ من قلتهما { أتعلمون أن صالحاً مرسل من ربه } قالوه على سبيل التهكم والسخرية لا للاستعلام والاسترشاد. { قالو إنا بما أرسل به مؤمنون } جعلوا إرساله أمراً بيناً مكشوفاً مسلماً لا يدخله ريب وإنما الكلام في وجود الإيمان فنخبركم أنا به مؤمنون ولذلك { قال الذي استكبروا } في جوابهم { إنا بالذي أمنتم به كافرون فعقروا الناقة } قال الأزهري: العقر عند العرب كشف عرقوب البعير ثم أطلق على النحر إطلاقاً لاسم السبب على المسبب، وأسند العقر إلى جميعهم مع أنه ما باشره إلا بعضهم لأنه كان برضاهم، وقد يقال للقبيلة العظيمة أنتم فعلتم كذا ولعله لم يفعله إلا واحد منهم كقوله { وإذ قتلتم } [البقرة: 72] { وعتوا عن أمر ربهم } استكبروا عن امتثاله. قال مجاهد: العتو الغلو في الباطل وأمر ربهم شأنه أي دينه، أو المراد أمر به صالح من قوله { فذروها } { ولا تمسوها } والمعنى أمر ربهم بتركها كان هو السبب في عتوهم فإن الإنسان حريص على ما منع. { وقالوا يا صالح ائتنا بما تعدنا إن كنت من المرسلين } أطلقوا الوعد وأرادوا ما وعدهم من العذاب واستعجالهم العذاب إنما كان لأجل تكذيبهم بكل ما أخبر عنه من الوعد والوعيد، ولذلك علقوه بما كانوا ينكرونه وهو كونه من المرسلين { فأخذتهم الرجفة } قال الفراء والزجاج: هي الزلزلة الشديدة قال تعالى { يوم ترجف الأرض والجبال } } [المزمل: 14] قال الليث: هي كرجفان البعير تحت الرحل وكما ترجف الشجرة إذا أرجفتها الريح وهذا لا يناقض ما ورد في موضع آخر أنهم أهلكوا بالطاغية وفي آخر أنهم أهلكوا بالصيحة لأن الطغيان مجاوزة الحد. قال تعالى { إنا لما طغا الماء حملناكم } [الحاقة: 11] فالزلزلة هي الحركة الخارجة عن الحد المعتاد، والغالب أن الزلزلة لا تنفك عن الصيحة الهائلة. { فأصحبوا في دارهم } أي في بلدهم كقولك: دار الحرب ودار الإسلام. وقد جمع في آية أخرى فقال: { في ديارهم } [هود: 67] لأنه أراد بالدار ما لكل واحد من منزله الخاص إلا أنه حيث ذكر الرجفة وحد وحيث ذكر الصيحة جمع لأن الصحية كأنها من السماء فبلوغها أكثر وأبلغ من الزلزلة. ومعنى { جاثمين } موتى لا حراك بهم. قال أبو عبيدة: الجثوم للناس والطير بمنزلة البروك للإبل فجثوم الطير هو وقوعه لاطئاً بالأرض في حال سكونه بالليل ومنه المجثمة التي جاء النهي عنها وهي البهيمة التي تربط وتجمع قوائمها لترمى { فتولى عنهم } الفاء للتعقيب. فالظاهر أن صالحاً عليه السلام أدبر عنهم بعدما أبصرهم جاثمين وكأنه تولى وهو مغتم متحسر على ما فاته من إيمانهم { وقال يا قوم لقد أبلغتكم رسالة ربي } وحد الرسالة بخلاف ما مر في قصتي نوح وهود لأن المراد هناك أشياء كانا يأمران بها قومهما بعد الإيمان بالله، وههنا وقع في آخر القصة فأراد بها مجموع ما أدى من الرسالة، أو أراد بذلك أداء حديث الناقة فقط. { ونصحت لكم } لم آل جهداً في النصيحة { ولكن لا تحبون الناصحين } حكاية لحال ماضية. واعترض على هذا التفسير بأنه كيف يصح خطاب الموتى؟ وأجيب بأنه قد يقول الرجل لصاحبه وهو ميت وكان قد نصحه في حياته فلم يصغ إليه يا أخي كم نصحتك وكم قلت لك فلم تقبل مني حتى ألقيت بنفسك إلى التهلكة. والفائدة في مثل هذا الكلام أن يسمعه بعض الإحياء فيعتبر به. ولعل القائل أيضاً يتسلى بذلك وتزول بعض الغصة عن قلبه ويخف عليه ما نزل به، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب قتلى بدر وقال: يا فلان ويا فلان قد وجدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فقيل له: كيف تتكلم مع هؤلاء الجيف؟ فقال: ما أنتم بأسمع منهم ولكنهم لا يقدرون على الجواب. وتفسير آخر وهو أن يكون تولى عنهم تولى ذاهب عنهم منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب. وجملة قصتهم ما روي أن عاداً لما أهلكت عمرت ثمود بلادها وخلفوهم في الأرض فكثروا وعمروا أعماراً طوالاً حتى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته فنحتوا البيوت من الجبال وكانوا في سعة ورخاء من العيش، فعتوا عن أمر الله وأفسدوا في الأرض وعبدوا الأوثان فبعث الله إليهم صالحاً وكانوا قوماً عرباً. وصالح من أوسطهم نسباً. فدعاهم إلى الله فلم يتبعه إلا قليل منهم مستضعفون فحذرهم وأنذرهم فسألوه آية فقال: أية آية تريدون؟ قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة فندعو آلهتنا وتدعوا إلهك، فإن استجيب لك اتبعناك وإن استجيب لنا اتبعتنا. فقال صالح: نعم. فخرج معهم ودعوا أوثانهم وسألوها الاستجابة فلم تجبهم. ثم قال سيدهم جندع بن عمرو، وأشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء وبراء، والمخترجة التي شاكلت البخت فإن فعلت صدّقناك وأجبناك، فأخذ صالح عليهم المواثيق لئن فعلت ذلك لتؤمنن ولتصدّقن. قالوا: نعم. فصلى ودعا ربه فتمخضت الصخرة تمخض النتوج بولدها فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء وبراء كما وصفوا، وكانت في غاية العظم حتى قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة يعني - موضع بروكها - فوجدته ستين ذراعاً. ثم نتجت ولداً مثلها في العظم فآمن به جندع ورهط من قومه ومنع بقاياهم ناس من رؤوسهم أن يؤمنوا فمكثت الناقة وولدها ترعي الشجر وتشرب الماء وكانت ترد غباً كما قال عز من قائل { لها شرب ولكم شرب يوم معلوم } [الشعراء: 155] وذلك أن الماء كان عندهم قليلاً فجعلوا ذلك الماء بالكلية شرباً لها يوماً وشرباً للقوم يوماً. قال السدي: وكانت الناقة في اليوم الذي يشرب فيه الماء تحلب فيكفي الكل فكأنها كانت تصب اللبن صباً، وفي اليوم الذي يشربون الماء لا تأتيهم وكانت إذا وقع الحر تصيف بظهر الوادي فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطن الوادي، وإذا وقع البرد كان الأمر بالعكس فشق ذلك عليهم وقال لهم صالح: يولد في شهركم هذا غلام يكون هلاككم على يديه فذبحوا تسعة نفر من أبنائهم ثم ولد العاشر فأبى أن يذبح ابنه فنبت نباتاً سريعاً، ولما كبر الغلام جلس مع قوم يشربون الشراب فأرادوا ماء يمزجونه به وكان يوم شرب الناقة فما وجدوا الماء فاشتد ذلك عليهم. فقال الغلام: هل لكم في أن أعقر هذه الناقة فشدّ عليها لما بصرت به شدّت عليه فهرب منها إلى جانب صخرة فردّوها عليه، فلما مرت به تناولها فعقرها فسقطت فذلك قوله تعالى { فنادوا صاحبهم فتعاطى فعقر } [القمر: 29] وأظهروا حينئذ كفرهم وقيل: زينت لهم عقرها امرأتان - عنيزة أم غنم وصدقة بنت المختار - لما أضرت الناقة بمواشيهما وكانتا كثيرتي المواشي فعقروها واقتسموا لحمها وطبخوه فانطلق فصيلها حتى رقي جبلاً اسمه قارة فرغا ثلاثاً وكان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب فلم يقدروا عليه وانفجرت الصخرة بعد رغائه فدخلها فقال لهم صالح: تصبحون غداً ووجوهكم مصفرة، وبعد غد ووجوهكم محمرة، واليوم الثالث ووجوهكم مسودة، ثم يصبحكم العذاب. فلما رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه فأنجاه الله إلى أرض فلسطين. ولما كان اليوم الرابع وارتفع الضحى تحنطوا بالصبر وتكفنوا بالأنطاع فأتتهم صيحة من السماء فتقطعت قلوبهم فهلكوا. واستبعد بعضهم أن العاقل مع مشاهدة هذه المعجزات والعلامات كيف يبقى مصراً على كفره؟ وأجيب بأنهم عند مشاهدة العلامات خرجوا عن حدّ التكليف وأن تكون توبتهم مقبولة. "عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما مر بالحجر قال: لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذ بهم الصيحة فلم يبق منهم إلا رجل واحد كان في حرم الله. قالوا: من هو قال صلى الله عليه وسلم: ذاك أبو رغال" . فلما خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه، وروي أن صالحاً كان بعثه إلى قوم فخالف أمره. وروي أن نبينا صلى الله عليه وسلم مر بقبر أبي رغال فقال: أتدرون من هذا؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. فذكر قصة أبي رغال وأنه دفن ههنا وأنه دفن معه غصن من ذهب فابتدروه وبحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن. وروي أن عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء ونزل بهم العذاب يوم السبت. وروي أنه خرج في مائة وعشرة من المسلمين وهو يبكي فالتفت فرأى الدخان ساطعاً فعلم أنهم قد هلكوا وكانوا ألفاً وخمسمائة دار، وروي أنه رجع بمن معه فسكنوا ديارهم، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين مر بالحجر في غزوة تبوك قال لأصحابه: لا يدخلن أحد منكم القرية ولا تشربوا من مائها ولا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين أن يصيبكم مثل الذي أصابهم، وقال صلى الله عليه وسلم يا علي، أتدري من أشقى الأوّلين؟ قال: الله ورسوله أعلم. قال: عاقر ناقة صالح أتدري من أشقى الآخرين: قال: الله ورسوله أعلم. قال قاتلك.
القصة الخامسة قوله سبحانه { ولوطاً إذ قال لقومه } تقديره أرسلنا لوطاً وقت قال لقومه، ويجوز أن يكون معناه واذكر لوطاً إذ قال لقومه على أن "إذ" بدل من المفعول به لا ظرف. وإنما صرف نوح ولوط مع أن فيه سببين: العجمة والعلمية، لأن سكون وسطه قاوم أحد السببين { أتأتون الفاحشة } أتفعلون الخصلة المتمادية في القبح { ما سبقكم بها } قال في الكشاف: الباء للتعدية من قولك: سبقته بالكرة إذا ضربتها قبله أي ما عملت قبلكم. قلت: ومن المحتمل أن تكون الباء فيه مثله في قولك: كتبت بالقلم. وفي قوله
{ تنبت بالدهن } [المؤمنون: 20] أي ما سبقكم ملتبساً بها من أحاد من العالمين "من" الأولى زائدة لتأكيد النفي وإفادة الاستغراق. والثانية للتبعيض. وموقع هذه الجملة استئناف لأنه أنكر عليهم أوّلاً بقوله { أتأتون الفاحشة } ثم وبخهم عليها فقال: وأنتم أوّل من عملها. أو هو جواب سؤال مقدر كأنه قيل: لم لا نأتيها؟ فقال: { ما سبقكم بها من أحد } فلا تفعلوا ما لم تسبقوا به. ويجوز أن تكون صفة للفاحشة كقوله:

ولقد أمر على اللئيم يسبني

وههنا سؤال وهو أنه كيف يجوز دعوى عدم السبق في هذه الخصلة ولم تزل الشهة داعية إليها؟ والجواب لعل متقدميهم كانوا يستقذرونها وينفرون عنها طبعاً كسائر الحيوانات، أو المراد أن الإقبال بالكية على ذلك العمل لم يوجد في الأعصار المتقدمة. قال الحسن: كانوا ينكحون الرجال في أدبارهم وكانوا لا ينكحون إلا الغرباء. وقال عطاء عن ابن عباس: استحكم ذلك فيهم حتى فعل بعضهم ببعض { أئنكم لتأتون الرجال } بيان لما أجمله في قوله { أتأتون الفاحشة } وكلا الاستفهامين للإنكار. وفي الثاني أكثر ولهذا زيد فيه "إن" ومثله في النمل { أتأتون } وبعده { أئنكم لتؤتون } [النمل: 55] وفي العنكبوت { إنكم لتأتون الفاحشة } [الآية: 28] { أئنكم لتؤتون الرجال } [النمل: 55] فجمع بين "إن" "وأئن" القصة { إنا منجوك } إنا منزلون. وانتصب { شهوة } على أنها مفعول له أي لا حامل لكم على غشيان الرجال من دون النساء إلا مجرد الشهوة، أو مصدر وقع حالاً يقال: شهى يشهى شهوة { بل أنتم قوم مسرفون } إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عنهم بالحالة الموجبة لارتكاب القبائح وهو أنهم قوم عادتهم الإسراف وتجاوز الحدود في كل شيء. وختم هذه الآية بلفظ الاسم موافقة لرؤوس الآيات التي تقدمت { العالمين } { الناصحين } { جاثمين } { المرسلين } وفي النمل { قال بل أنتم قوم تجهلون } [الآية: 55] أما العدول من الإسراف إلى الجهل فلتغير العبارة، وكل إسراف جهل وكل جهل إسراف. وأما العدول من الاسم إلى الفعل فلتوافق ما قبلها من الآيات وكلها أفعال { ينصرون } { تتقون } { يعلمون } واعلم أن قبح هذا العمل كالأمر المقرر في الطباع ووجوه القبح فيه كثيرة منها: أن أكثر الناس يحترزون فيه عن الولد لأن الولد يحمل المرء على طلب المال وإتعاب النفس في وجوه المكاسب إلا أنه تعالى جعل الوقاع سبباً لحصول اللذة العظيمة حتى إن الإنسان يطلب تلك اللذة ويقدم على الوقاع وحينئذ يحصل الولد شاء أم أبى، وبهذا الطريق يبقى النسل ولا ينقطع النوع فوضع اللذة في الوقاع يشبه وضع الشيء الذي يشتهيه الحيوان في الفخ والغرض إبقاء النوع الإنساني الذي هو أشرف الأنواع. فكل لذة لا تؤدي إلى هذا الغرض وجب الحكم بتحريمها لما فيه من ضياع البذر ولزوم خلاف الحكمة. ومنها أن الذكورة مظنة الفعل والأنوثة مظنة الانفعال، فانعكاس القضية يكون خروجاً عن مقتضى الطبيعة والحكمة، ومنها أن الاشتغال بمحض الشهوة تشبه بالبهائم وخروج عن الغريزة الإنسانية. وهب أن الفاعل يلتذ بذلك العمل إلا أنه سعى في إلحاق العار العظيم بالمفعول ما دام حياً، والعاقل لا يرضى لأجل لذة زائلة إلحاق منقصة دائمة بغيره. ومنها أنه يوجب استحكام العداوة بين الفاعل والمفعول إلى حيث يقدم المفعول على قتل الفاعل، أو على إلحاق الضرر به بكل طريق يقدر عليه وذلك لنفور طبعه عن رؤيته. وأما حصول هذا العمل بين الرجل والمرأة فإنه يوجب زيادة الألفة والمحبة كما قال تعالى { خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة } [الروم: 21] ومنها أنه تعالى أودع في الرحم قوّة جاذبة للمني بحيث لا يبقى شيء منه في مجاريه وأوعيته، أما إذا واقع الذكر فإنه يبقى شيء من أواخر المني في المجاري فيعفن ويفسد ويتولد من العلل والأورام في الأسافل كما يشهد به القوانين الطبية قال بعضهم: { والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم } [المؤمنون: 5، 6] يقتضي حل وطء المملوك مطلقاً ذكراً كان أو أنثى. ولا يمكن تخصيص هذا العموم بقوله { أتأتون الذكران من العالمين } } [الشعراء: 165] لأن كلاً من الآيتين أعم من الأخرى من وجه لأن المملوك قد يكون ذكراً وقد لا يكون، والذكر قد يكون مملوكاً وقد لا يكون، فتخصيص إحداهما بالأخرى ترجيح من غير مرجح بل الترجيح لجانب الحل لمقتضى الأصل وذلك لأن المالك مطلق التصرف، ولأن شرع محمد أولى من شرع لوط. وأجيب بأن الاعتماد على التواتر الظاهر من دين محمد صلى الله عليه وسلم أن هذا العمل حرام قال تعالى { وما كان جواب قومه } بالواو كيلا يكون التعقيب بالفاء بعد الاسم. وفي النمل { تجهلون فما كان } [النمل: 55] وفي العنكبوت { { وتأتون في ناديكم المنكر فما كان } [الآية: 29] لصحة تعقيب الفعل الفعل { إلا أن قالوا أخرجوهم من قريتكم } وفي النمل { أخرجوا آل لوط } [الآية: 56] ليكون ما في النمل تفسيراً لهذه الكناية وقيل: إن سورة النمل نزلت قبل الأعراف فيكون قد صرح في الأولى وكنى في الثانية. قال في الكشاف: يعني ما أجابوه بما يكون جواباً عما كلمهم به لوط عليه السلام من إنكار الفاحشة. ووسمهم بسمة الإسراف الذي هو أصل الشر كله ولكنهم جاؤا بكلام آخر لا يتعلق بكلامه ونصيحته من الأمر بإخراجه ومن معه من المؤمنين من قريتهم ضجراً بهم وبما يسمعونهم من وعظهم ونصحهم، وقولهم { إنهم أناس يتطهرون } سخرية بهم وبتطهرهم من الفواحش وافتخار بما كانوا فيه من القذارة كما يقول الشطار من الفسقة لبعض الصلحاء إذا وعظهم: أبعدوا عنا هذا المتقشف وأريحونا من هذا المتزهد. وقيل: المراد أن ذلك العمل في موضع النجاسة فمن تركه فقد تطهر. وقيل: ان البعد عن الإثم يسمى طهارة، فالمراد أنهم يتباعدون عن المعاصي والآثم { فأنجيناه وأهله } أي أنصاره وأتباعه والذين قبلوا دينه، وعن ابن عباس: أراد المتصلين به في النسب بدليل قوله { إلا امرأته } يقال: امرأة الرجل بمعنى زوجته ولا يقال مرء المرأة يعني زوجها لأن المالكية حق الزوج { كانت من الغابرين } وفي النمل { قدرناها من الغابرين } [النمل: 57] أي كانت في علم الله من الغابرين. { فقدرناها من الغابرين } وإن قلنا بتأخر نزول الأعراف فالمعنى قدرناها من الغابرين فصارت من الغابرين، والغبور المكث والبقاء أي من الذين بقوا في ديارهم فهلكوا، أو التذكير لتغليب الذكور وكانت كافرة موالية لأهل سدوم. روي أنها التفتت فأصابها حجر فماتت. ثم وصف العذاب فقال { وأمطرنا عليهم مطراً } أي أرسلنا عليهم نوعاً من المطر عجيباً. قيل: كانت المؤتفكة خمس مدائن. وقيل كانوا أربعة آلاف بين الشام والمدينة. فأمطر الله عليهم الكبريت والنار. وقيل: خسف بالمقيمين منهم وأمطرت الحجارة على مسافريهم وشذاذهم. وقيل: أمطر عليهم ثم خسف بهم. وروي أن تاجراً منهم كان في الحرم فوقف له الحجر أربعين يوماً حتى قضى تجارته وخرج من الحرم فوقع عليه { فانظر } يا محمد أو كل من له أهلية النظر والاعتبار { كيف كان عاقبة المجرمين } وهذه الأمة وإن أمنت من عذاب الاستئصال إلا أن الخوف والاعتبار من شعار المؤمن لا ينبغي أن ينفك عنه على أن عذاب الآخرة أشدّ وأبقى ولم يأمنوه بعده.
مسائل: الأولى مذهب الشافعي أن اللواط يوجب الحدّ لأنه ثبت في شريعة لوط فالأصل بقاؤه إلى طريان الناسخ ولم يظهر نسخ في شرعنا، ولأن ذكر الحكم عقيب الوصف المناسب يدل على علية الوصف للحكم، فالآية دلت على أن هذا الجرم المخصوص علة لحصول هذا الزاجر المخصوص. وقال أبو حنيفة: إن الواجب فيه التعزير لأنه فرج لا يجب المهر بالإيلاج فيه فلا يجب الحدّ كإتيان البهيمة، وعلى الأول ففي عقوبة الفاعل قولان: أحدهما أن عقوبته القتل محصناً كان أو لم يكن لما روي انه صلى الله عليه وسلم قال
"من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول" وأصحهما أن حده حد الزنا فيرجم إن كان محصناً ويجلد ويغرب إن لم يكن محصناً لأنه حد يجب بالوطء، ويختلف فيه البكر والثيب كالإتيان في القبل. وعلى قول القتل فيه وجوه أحدها: يقتل بالسيف كالمرتد، والثاني وبه قال مالك وأحمد يرجم تغليظاً، ويرى عن علي عليه السلام أيضاً. والثالث يهدم عليه جدار أو يرمى من شاهق جبل ليموت أخذاً من عذاب قوم لوط. وأما المفعول فإن كان صغيراً أو مجنوناً أو مكرهاً فلا حد عليه ولا مهر لأن منفعة بضع الرجل لا تتقوم، وإن كان مكلفاً طائعاً فيقتل بما يقتل به الفاعل إن قلنا إن الفاعل يقتل، وإن قلنا يحد حد الزنا فيجلد ويغرب محصناً كان أو لم يكن، وإن أتى امرأة في دبرها ولا ملك ولا نكاح فالأظهر أنه لواط لأنه إتيان في غير المأتي ويجيء في الفاعل والمفعول ما ذكرنا. وقيل: إنه زنا لأنه وطء أنثى فأشبه الوطء في القبل فعلى هذا حده حد الزنا بلا خلاف. وترجم المرأة إن كانت محصنة. وإذا لاط بعبده فهو كالأجنبي على الأصح ولو أتى امرأته أو جاريته في الدبر فالأصح القطع بمنع الحد لأنها محل استمتاعه بالجملة.
التأويل: { هذه ناقة الله } معجزة الخواص أن يخرج لهم من حجارة القلب ناقة السر عشراء بسقب سر السر وهو الخفي. وناقة الله هي التي تحمل أمانة معرفته وتعطي ساكني بلد القالب من القوى والحواس لبن الواردات الإلهية، { فذروها } ترتع في رياض القدس وحياض الإنس { ولا تمسوها بسوء } مخالفات الشريعة ومعارضات الطريقة { فيأخذكم عذاب أليم } بالانقطاع عن مواصلات الحقيقة. { إذ جعلكم خلفاء } مستعدين للخلافة { وبوأكم } في أرض القلوب { تتخذون من سهولها } وهي المعاملات بالصدق والإخلاص { قصوراً } في الجنان { وتنحتون } من جبال أطوار القلب { بيوتاً } هي مقامات السائرين إلى الله { فاذكروا آلاء الله } النعماء والإخلاص. فالأول يتضمن ترويح الظاهر، والثاني يوجب تلويح السر. فالترويح بوجود المسار والتلويح بشهود الأسرار { ولا تعثوا في الأرض } القلب بالفساد للاستعداد الفطري { الذين استكبروا } هم الأوصاف البشرية والأخلاق الذميمة { الذين استضعفوا } من أوصاف القلب والروح. { أتعلمون } أن صالح الروح { مرسل } بنفخة الحق إلى بلد القلب وساكنيه ليدعوهم من الأوصاف السفلية الظلمانية إلى الأخلاق العلوية النورانية { فعقروا } أي النفس وصفاتها ناقة سر القلب بسكاكين مخالفات الحق { فأخذتهم } رجفة الموت { فأصبحوا } في دار قالبهم { جاثمين } والله العزيز.
تم الجزء الثامن ويليه الجزء التاسع أوله: { وإلى مدين أخاها شعيباً .... }