التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ
٢٠
وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ
٢١
إِنَّ شَرَّ ٱلدَّوَابِّ عِندَ ٱللَّهِ ٱلصُّمُّ ٱلْبُكْمُ ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ
٢٢
وَلَوْ عَلِمَ ٱللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ
٢٣
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱسْتَجِيبُواْ لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ ٱللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ ٱلْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٢٤
وَٱتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٢٥
وَٱذْكُرُوۤاْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي ٱلأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ ٱلنَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٢٦
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ ٱللَّهَ وَٱلرَّسُولَ وَتَخُونُوۤاْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٧
وَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ ٱللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ
٢٨
يِٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوۤاْ إِن تَتَّقُواْ ٱللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَٱللَّهُ ذُو ٱلْفَضْلِ ٱلْعَظِيمِ
٢٩
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَاكِرِينَ
٣٠
-الأنفال

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { ولا تولوا } بالإدغام: البزي وابن فليح.
الوقوف: { تسمعون } ه ج للآية وللعطف { لا يسمعون } ه { لا يعقلون } ه { لأسمعهم } ط { معرضون } ه { لما يحييكم } ج لعطف المتفقتين مع اعتراض الظرف { تحشرون } ه { خاصة } ج لما مر { العقاب } ه { تشكرون } ه { تعلمون } ه { فتنة } لا للعطف { عظيم } ه { ويغفر لكم } ط { العظيم } ه { أو يخرجوك } ط { ويمكر الله } ط { الماكرين } ه.
التفسير: إنه سبحانه بعد ذكر نحو من قصة بدر والغنائم. أدَّب المؤمنين أحسن تأديب فأمرهم بطاعته وطاعة رسوله في قسمة الغنائم وغيرها ثم قال { ولا تولوا عنه } فوحد الضمير لأن التولي إنما يصح في حق الرسول بأن يعرضوا عنه وعن قبول قوله وعن معونته في الجهاد، أو لأن طاعة الرسول وطاعة الله شيء واحد فكان رجوع الضمير إلى أحدهما كرجوعه إليهما كقوله
{ والله ورسوله أحق أن يرضوه } [التوبة: 62] وكقولك الإحسان والإجمال لا ينفع في فلان وجوّز أن يرجع إلى الأمر بالطاعة أي لا تولوا عن هذا الأمر وامتثاله { وأنتم تسمعون } لم يبين أنهم ماذا يمسعون إلا أنه يعلم من مساق الكلام في السورة أن المراد وأنتم تسمعون دعاءه إلى الجهاد أو المراد وأنتم تسمعون الأمر المذكور، أو وأنتم تصدقون بدليل قوله { ولا تكونوا كالذين قالوا سمعنا وهم لا يسمعون } لأنهم ليسوا بمصدقين فلا يصح دعوى السماع منهم. وتحقيق ذلك لأن الإنسان لا يمكنه أن يقبل التكليف ويلتزمه إلا بعد أن يسمعه، فجعل السماع كناية عن القبول، ثم أكد التكاليف المذكورة بقوله { إن شر الدواب } أي إن شر من يدب على الأرض، أو إن شر البهائم. والفرق بين التفسيرين أن الأوّل حقيقة إلا أنه ذكر في معرض الذم كقولك لمن لا يفهم الكلام هو شبح وجسد. والثاني مذكور في معرض التشبيه بالبهائم بل جعلهم شرّها لجهلهم وعدولهم عن الانتفاع بالحواس كقوله { بل هم أضل } [الأعراف: 179] ومعنى { عند الله } أي في حكمه وقضائه. ثم قال { ولو علم الله فيهم } أي في هؤلاء الصم البكم { خيراً لأسمعهم } عن ابن جريج: هم المنافقون. وعن الحسن: أهل الكتاب، وقيل: بنو عبد الدار بن قصي لم يسلم منهم إلا رجلان مصعب بن عمير وسويد بن حرملة كانوا يقولون: نحن صم بكم عمي عما جاء به محمد لا نسمعه ولا نجيبه فقتلوا جميعاً بأحد وكانوا أصحاب اللواء. وروي أنهم سألوا النبي أن يحيي لهم قصي ابن كلاب وعيره من أمواتهم ليخبروهم بصحة نبوّته، فبيّن تعالى أنه لو علم فيهم خيراً وهو انتفاعهم بقول هؤلاء الأموات لأحياهم حتى يسمعوا كلامهم ولكنه تعالى علم منهم أنهم لا يقولون هذا الكلام إلا على سبيل العناد والتعنت. وأنهم لو أسمعهم الله كلامهم لتولوا عن قبول الحق ولأعرضوا عنه على عادتهم المستمرة. واعلم أن معلومات الله تعالى على أربعة أقسام: جملة الموجودات، وجملة المعدومات، وإن كل واحد من الموجودات لو كان معدوماً فكيف يكون حاله، وإن كل واحد من المعدومات لو كان موجوداً فكيف يكون حاله، والأولان علم بالواقع، والآخران الباقيان علم بالمقدر ومن هذا القبيل. قوله تعالى { ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم } وتقدير الكلام لو حصل فيهم خيراً لأسمعهم الله الحجج والمواعظ فعبر عن عدمه في نفسه بعدم علم الله بوجوده، وأورد على الآية أنها على صورة قياس شرطي فإذا حذفنا الحد الأوسط بقيت النتيجة: لو علم الله فيهم خيراً لتولوا ولكن كلمة "لو" وضعت للدلالة على انتفاء الشيء لانتفاء غيره فيكون التولي منتفياً لأجل انتفاء علم الله الخير فيهم بل لأجل انتفاء الخير فيهم. لكن انتفاء التولي خير من الخيرات فأوّل الكلام يقتضي نفي الخير عنهم وأخره يقتضي. حصول الخير فيهم وهذا تناقض والجواب المنع من أن الحد الأوسط مكرر لأن المراد بالإسماع الأوّل إسماع التفهم وإلزام القبول، والمراد بالإسماع الثاني صورة الإسماع فحسب، وأيضاً كلمة "لو" في المقدمة الثانية هي التي تجيء للمبالغة بمعنى "أن" كقوله صلى الله عليه وسلم: "نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه" فإذاً لا تعلق لإحدى الجملتين بالأخرى فلا قياس. واستدلت الأشاعرة بالآية على أن صدور الإيمان عن الكافر محال لأن الصادق قد أخبر أنهم على تقدير الإسماع معرضون وخلاف علمه وخبره محال. وقال في الكشاف: لو علم الله فيهم خيراً أي انتفاعاً باللطف للطف بهم حتى يسمعوا سماع المصدقين ولو لطف بهم لما نفع فيهم اللطف فلذلك منعهم ألطافه، أو ولو لطف بهم فصدقوا لارتدوا بعد ذلك وكذبوا ولم يستقيموا وتزييف هذا التفسير سهل. ثم علم المؤمنين أدباً آخر فقال { استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم } فوحد الضمير كما مر. والمراد بالاستجابة الطاعة والامتثال، وبالدعوة البعث والتحريض.عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم مرّ على باب أبيّ بن كعب فناداه وهو في الصلاة فعجل في صلاته ثم جاء فقال: ما منعك عن إجابتي؟ قال: كنت أصلي. قال: ألم تخبر فيما أوحي إليّ { استجيبوا لله وللرسول }؟ قال: لا جرم لا تدعوني إلا أجبتك، وقد يتمسك الفقهاء بهذا الخبر على أن ظاهر الأمر للوجوب وإلا فلم يتوجه اللوم. ثم قيل: إن هذا مما اختص به رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل: إن دعاءه كان لأمر لم يحتمل التأخير وإذا وقع مثله للمصلي فله أن يقطع صلاته. ثم الإحياء لا يمكن أن يحمل على نفس الحياة لأن إحياء الحي محال فذكروا فيه وجوهاً: قال السدي: هو الإسلام والإيمان لأن الإيمان حياة القلب والكفر موته بدليل قوله { يخرج الحي من الميت } [الأنعام: 95] أي المؤمن من الكافر. وقال قتادة: يعني القرآن لأن فيه العلم الذي به الحياة الحقيقية. والأكثرون على أنه الجهاد لأن وهن أحد العدوّين سبب حياة الآخر، ولأن الجهاد سبب حصول الشهادة التي توجب الحياة الدائمة لقوله { بل أحياء عند ربهم } [آل عمران: 169]، وقيل: إنه عام في كل حق وصواب فيدخل فيه القرآن والإيمان والجهاد وكل أعمال البر والطاعة. والمراد لما يحييكم الحياة الطيبة كما قال { فلنحيينه حياة طيبة } [آل عمران: 169]، { واعلموا أن الله يحول بين المرء وقلبه } اختلف الناس فيه بحسب اختلافهم في مسألة الجبر والقدر فنقل الواحدي عن ابن عباس والضحاك: يحول بين الكافر وطاعته ويحول بين المطيع ومعصيته. فالسعيد من أسعده الله والشقي من أضله الله، والقلوب بيد الله يقلبها كيف يشاء ويخلق فيها القصود والدواعي والعقائد حسبما يريد، وتقرير ذلك من حيث العقل وجوب انتهاء جميع الأسباب إليه، ثم ختم الآية بقوله { وإنه إليه يحشرون } ليعلم أنهم مع كونهم مجبورين خلقوا مثابين ومعاقبين إما للجنة وإما للنار لا يتركون مهملين معطلين. وقالت المعتزلة: إن من حال الله بينه وبين الإيمان فهو عاجز وأمر العاجز سفه ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، وإنه تعالى أمر بالاستجابة لله وللرسول فلو لم تكن الإجابة ممكنة فكيف يأمر بها، ولو كان الأمر بغير المقدور جائزاً لكان القرآن حجة للكفار على الرسول لا له عليهم. فإذا لا يمكن حمل الآية على ما قاله أهل الجبر. فتأويلها أن الله يحول بين المرء وبين الانتفاع بقلبه بسبب الموت يدل عليه قوله { وإنه } أي وأن الشأن أو الله إليه تحشرون والمقصود الحث على الطاعة قبل نزول سلطان الموت، أو أنه تعالى يحول بين المرء وبين ما يتمناه بقلبه تسمية للشيء باسم محله فكأنه قيل: بادروا إلى الأعمال الصالحة ولا تعتمدوا على طول البقاء فإن الأجل يحول دون الأمل أو المراد سارعوا إلى الطاعة ولا تمتنعوا عنها بسبب ما تجدون في قلوبكم من الضعف والجبن فإن الله مقلب القلوب من حالة العجز والجبن إلى القوة والشجاعة وقد يبدل بالأمن خوفاً وبالخوف أمناً، وبالذكر نسياناً وبالنسيان ذكراً، وما أشبه ذلك مما هو جائز على الله تعالى، فأما ما يثاب عليه العبد ويعاقب من أفعال القلوب فلا. وقال مجاهد: المراد بالقلب العقل والمعنى بادروا إلى الأعمال وأنتم تعقلون. ولا تأمنوا زوال العقول التي عند ارتفاعها يبطل التكليف فلا يقدر على الكفر والإيمان. وعن الحسن: إن الغرض التنبيه على أنه تعالى مطلع على بواطن العبد وضمائره، وإن قربه من عبده أشد من قرب قلبه منه كقوله { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } [ق: 16] ثم حذرهم الفتن والاختلاف فقال { واتقوا فتنة } قيل: هو العذاب. وقيل: افتراق الكلمة. وقيل: إقرار المنكر بين أظهرهم. وقوله { لا تصيبن } إما أن يكون جواباً للأمر وجاز دخول النون المؤكدة فيه مع خلوه من الطلب لأن فيه معنى النهي كقولك: انزل عن الدابة لا تطرحك وإن شئت قلت لا تطرحنك. وعلى هذا "من" في { منكم } للتبعيض. وقيل: الجواب محذوف والمعنى إن أصابتكم لا تصيب بعضكم وهم الظالمون حال كونهم { خاصة } ولكنها تعم الظالمين وغيرهم لأنه يحسن من الله تعالى ذلك بحكم المالكية أو لاشتمال ذلك على نوع من الصلاح، وإما أن يكون نهياً بعد أمر و"من" للبيان كأنه قيل: احذروا ذنباً أو عقاباً. ثم قيل لا تصيبنكم تلك العقوبة خاصة على ظلمكم كأن الفتنة نهيت عن ذلك الاختصاص على طريق الاستعارة. وهكذا إن جعلت الجملة الناهية صفة للفتنة على إرادة القول أي اتقوا فتنة مقولاً فيها لا تصيبن كقوله.

جاؤا بمذق هل رأيت الذئب قط

عن الحسن: نزلت في علي وعمار وطلحة والزبير وهو يوم الجمل خاصة على ما قال الزبير: نزلت فينا وقرأناها زماناً وما رأينا أنا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها. وعن السدي: نزلت في أهل بدر فاقتتلوا يوم الجمل. وروي أن الزبير كان يسامر النبي صلى الله عليه وسلم يوماً إذ أقبل علي فضحك إليه الزبير فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف حبك لعلي؟ فقال: يا رسول الله يأبى أنت وأمي إني أحبه كحبي لولدي أو أشد حباً. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟ ثم ختم الآية بقوله { واعلموا أن الله شديد العقاب } والمراد منه الحث على لزوم الاستقامة. ثم ذكرهم نعمه عليهم فقال { واذكروا إذ أنتم } وانتصابه على أنه مفعول به أي وقت أنكم { قليل } يستوي فيه الواحد والجمع { مستضعفون في الأرض } أرض مكة قبل الهجرة { تخافون أن يتخطفكم الناس } يستلبونكم لكونهم أعداء لكم { فآواكم } إلى المدينة { وأيدكم بنصره } بمظاهرة الأنصار وبإمدادكم بالملائكة يوم بدر { ورزقكم من الطيبات } من الغنائم { لعلكم تشكرون } أي ينقلكم من الشدة إلى الرخاء، ومن البلاء إلى النعماء والآلاء حتى تشتغلوا بالشكر والطاعة فكيف يليق بكم أن تشتغلوا بالمنازعة في الأنفال؟، ثم منعهم من الخيانة في الأمانة. يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر يهود بني قريظة إحدى وعشرين ليلة فسألوا الصلح كما صالح إخوانهم بني النضير على أن يسيروا إلى أذرعات وأريحاء من أرض الشام، فأبى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ فأبوا وقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة بن مروان بن المنذر وكان مناصحاً لهم لأن عياله وماله في أيديهم. فبعثه إليهم فقالوا له: ما ترى هل ننزل على حكم سعد؟ فأشار إلى حلقه إنه أي إن حكم سعد بن معاذ هو الذبح. قال أبو لبابة: فما زالت قدماي حتى علمت أني قد خنت الله ورسوله فنزلت الآية. فشد نفسه على سارية من سواري المسجد وقال: والله لا أذوق طعاماً ولا شراباً حتى أموت أو يتوب الله عليّ. فمكث سبعة أيام حتى خرّ مغشياً عليه ثم تاب الله عليه فقيل له: قد تيب عليك في نفسك. فقال: لا والله لا أحلها حتى يكون رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي يحلني. فجاءه فحله بيده فقال: إن من تمام توبتي أن أهجر دار قومي التي أصبت فيها الذنب وأن أنخلع من مالي. فقال صلى الله عليه وسلم: يجزيك الثلث أن تتصدق به. وقال السدي: كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً فيفشونه ويلقونه إلى المشركين فنهاهم الله عن ذلك. وقال ابن زيد نهاهم الله أن يخونوا كما صنع المنافقون يظهرون الإيمان ويسرون الكفر. وعن جابر بن عبد الله أن أبا سفيان خرج من مكة فعلم النبي صلى الله عليه وسلم خروجه وعزم على الذهاب إليه فكتب إليه رجل من المنافقين إن محمداً يريدكم فخذوا حذركم فنزلت. وقال الزهري والكلبي: نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكة بخروج النبي صلى الله عليه وسلم إليها حكاه الأصم. قال القاضي: والأقرب أنها في الغنائم. فالخيانة فيها خيانة الله لأنها عطيته، وخيانة لرسوله لأنه القيم بقسمتها، وخيانة للمؤمنين الغانمين فلكل منهم فيها حق. قال: ويحتمل أن يراد بالأمانة كل ما تعبد به كأن معنى الآية إيجاب أداء التكاليف بأسرها في الغنيمة وغيرها على سبيل التمام والكمال من غير نقص ولا إخلال، ومعنى الخون النقص كما أن معنى الوفاء التمام فإذا خنت الرجل في شيء فقد أدخلت النقصان فيه، وقد استعير فقيل: خان الدلو الكرب، وخان الشتار السبب. والكرب حبل قصير يوصل بالرشاء ويكون على العراقيّ سمي كرباً لأنه يكرب من الدلو أي يقرب منه. واشتار العسل إذا اجتناه وجمعه. وتخونوا يحتمل أن يكون جزماً داخلاً في حكم النهي وأن يكون نصباً بإضمار أن كقوله { وتكتموا الحق } [البقرة: 42] ومعنى الآية على الوجه العام لا تخونوا الله بأن تعطلوا فرائضه ورسوله بأن لا تستنوا به وأماناتكم فيما بينكم بأن لا تحفظوها وأنتم تعلمون تبعة ذلك ووباله، أو تعلمون أنكم تخونون يعني أن الخيانة توجد منكم عمداً لا سهواً. وقيل: وأنتم علماء تعلمون قبح القبيح وحسن الحسن. ثم لما كان الداعي إلى الخيانة وهو محبة الأموال والأولاد ولعل ما فرط من أبي لبابة كان بسبب ذلك نبه الله سبحانه على أنه يجب على العاقل أن يحترز عن المضار المتولدة من ذلك الحب فقال { إنما أموالكم وأولادكم فتنة } أي أنها سبب الوقوع في الفتنة وهي الإثم أو العذاب أو هي محنة من الله ليبلوكم كيف تحافظون على حدوده في ذلك الباب { وإن الله عنده أجر عظيم } فعليكم أن تزهدوا في الدنيا وما يتعلق بها وتنوطوا هممكم بما يفضي إلى السعادات الروحانية الباقية. ويمكن أن يتمسك بالآية في بيان أن الاشتغال بالنوافل لكونه مفضياً إلى الأجر العظيم عند الله هو أفضل من الاشتغال بالنكاح لأدائه إلى الفتنة. ثم رغب في التقوى التي توحب الإعراض عن محبة الأموال والأولاد وعن التهالك في شأنهم فقال { يا أيها الذين آمنوا أن تتقوا الله } في ارتكاب الكبائر والإصرار على الصغائر { ويجعل لكم فرقاناً } فارقاً بينكم وبين الكفار في الأحوال الباطنة بالاختصاص بالمعرفة والهداية وانشراح الصدر وإزالة الغل والحسد والمكر وسائر الأخلاق الذميمة والأوصاف السبعية والبهيمية، وفي الأحوال الظاهرة بإعلاء الكلمة والإظهار على أهل الأديان كلهم، وفي أحوال الآخرة بالثواب الجزيل والمنافع الدائمة والتعظيم من الله والملائكة. { ويكفر عنكم سيئاتكم } يستر عليكم في الدنيا صغائركم إن فرطت منكم { ويغفر لكم } في دار الجزاء { والله ذو الفضل العظيم } فإذا وعد بشيء وفى به أحسن الإيفاء. ومن عظيم فضله أنه يتفضل بذاته من غير واسطة وبدون التماس عوض وكل متفضل سواه فإنه لا يتفضل إلا بعد أن يخلق الله فيه داعية التفضل وبعد أن يمكن المتفضل عليه من الانتفاع بذلك. وبعد أن يكون قد تصوّر فيه ثواباً أو ثناء، أو حمله على ذلك رقة طبع أو عصبية وإلا فلا فضل في الحقيقة إلا لله سبحانه فلهذا وصفه بالعظم. ثم لما ذكر المؤمنين نعمه عليهم بقولهم { واذكروا إذ أنتم قليل } ذكر رسوله نعمته عليه وذلك دفع كيد المشركين عنه حين كان بمكة ليشكر نعمة الله في نجاته من مكرهم وفيما أتاح له من حسن العاقبة. والمعنى واذكر وقت مكرهم. فإن ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم من المفسرين: ذكروا أن قريشاً اجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ وقال: أنا شيخ من نجد ما أنا من تهامة دخلت مكة فسمعت باجتماعكم فأردت أن أحضركم ولن تعدموا مني رأياً ونصحاً. فقالوا: هذا من نجد لا بأس عليكم به. فقال أبو البختري من بني عبد الدار: رأيي أن تحبسوه في بيت وتشدوا وثاقه وتسدوا بابه غير كوّة وتلقون إليه طعامه وشرابه منها وتتربصوا به ريب المنون، فقال إبليس: بئس الرأي يأتيكم من يقاتلكم من قومه ويخلصه من أيديكم. فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل وتخرجوه من بين أظهركم فلا يضركم ما صنع واسترحتم. فقال: بئس الرأي يفسد قوماً غيركم ويقاتلكم بهم. فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كل بطن غلاماً وتعطوه سيفاً صارماً فيضربوه ضربة رجل واحد فيتفرق دمه في القبائل فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه واسترحنا. فقال الشيخ: صدق هذا الفتى هو أجودكم رأياً. فتفرقوا على رأي أبي جهل مجمعين على قتله، فأخبر جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن لا يبيت في مضجعه وأذن الله له في الهجرة فأمر علياً عليه السلام فنام في مضجعه وقال له: اتشح ببردتي فإنه لن يخلص إليك أمر تكرهه. وباتوا مترصدين فلما أصبحوا ثاروا إلى مضجعه فأبصروا علياً فبهتوا وخيب الله سعيهم واقتصوا أثره فأبطل مكرهم. ومعنى { ليثبتوك } قال ابن عباس: ليوثقوك ويسجنوك لأنه لا يقدر على الحركة وهو إشارة إلى رأي أبي البختري. وقوله { أو يقتلوك } إشارة إلى رأي أبي جهل. وقوله { أو يخرجوك } أي من مكة إشارة إلى رأي هشام. وأنكر القاضي حديث إبليس في القصة وتصويره نفسه بصورة الإنس. قال: لأن ذلك التغيير إن كان بفعل الله فهو إعانة للكفار على المكر، وإن كان من فعل إبليس فلذلك لا يليق بحكمة الله تعالى لأن إقدار إبليس على تغيير صورة نفسه إعانة له على الإغواء والتلبيس. هذا ما حكى عن القاضي وذهب عليه أن هذا الاعتراض وارد على خلق إبليس نفسه وعلى خلق سائر أسباب الشرور والآثام وقد أجبنا عن أمثال ذلك مراراً، وقد عرفت تفسير المكر في سورة آل عمران. والحاصل أنهم احتالوا في إبطال أمر محمد والله نصره وقواه فضاع فعلهم وظهر صنع الله. فإن قيل: لا خير في مكرهم فكيف قال والله أنه خير الماكرين؟ وأجيب بأن المراد أقوى الماكرين، أو المراد أنه لو قدر في مكرهم خير لكان الخير في مكره أكثر، أو المراد أنه في نفسه خير.
التأويل: إن شر من دب في الوجود هم { الصم } عن استماع كلام الحق. يسمع القلب والقبول { إليكم } عن كلام الحق والكلام مع الحق. والأصم لا بد أن يكون أبكم فلذلك خصا بالذكر { الذين لا يعقلون } أنهم لماذا خلقوا فلا جرم يؤل حالهم من أن يكونوا خير البرية إلى أن يكونوا شرّ الدواب { استجيبوا لله } إنه تعالى يطلب بالمحجة من العبد الإجابة كما يطلب العبد للحاجة منه الإجابة، فالاستجابة لله إجابة الأرواح للشهود وإجابة القلوب للشواهد، وإجابة الأسرار للمشاهدة، وإجابة الخفي للفناء في الله، والاستجابة للرسول بالمتابعة لما يحييكم يفنيكم عنكم ويبقكيم به { واعلموا أن الله يحول } بسطوات أنوار جماله وجلاله بين مرآة قلبه وظلمة أوصاف قالبه { وإنه إليه تحشرون } بالفناء عنكم والبقاء به { واتقوا } أيها الواصلون فتنة ابتلاء النفوس بحظوظها الدنيوية والأخروية. لا تصيب النفوس الظالمة فقط بل تصيب ظلمتها الأرواح النورانية والقلوب الربانية فتجتذبها من حظائر القدس ورياض الأنس إلى حضائض صفات الإنس { واعلموا أن الله شديد العقاب } يعاقب الواصلين بالانقطاع والاستدراج عن الالتفات إلى ما سواه { واذكروا إذ أنتم } أيها الأرواح والقلوب { قليل } لم ينشأ بعد لكما الصفات الأخلاق الروحانية { مستضعفون } من غلبات صفات النفس لإعواز التربية بألبان آداب الطريقة ولانعدام جريان أحكام الشريعة عليكم إلى أوان البلوغ. { يخافون } أن تسلبكم النفوس وصفاتها والشيطان وأعوانه { فآواكم } إلى حظائر القدس { وأيدكم } بالواردات الربانية { ورزقكم } المواهب الطاهرة من لوث الحدوث. { يا أيها الذين آمنوا } يعني الأرواح والقلوب المنوّرة بنور الإيمان المستسعدة بسعادات العرفان { لا تخونوا الله } فيما آتاكم من المواهب فتجعلوها شبكة لاصطياد الدنيا ولا تخونوا الرسول بترك السنة والقيام بالبدعة { وتخونوا أماناتكم } التي هي محبة الله، وخيانتها تبديلها بمحبة المخلوقات { وأنتم تعلمون } إنكم تبيعون الدين بالدنيا والمولى بالأولى { فتنة } يختبركم الله بها بالتمييز الموافق من المنافق، والصديق من الزنديق. { يا أيها الذين آمنوا } بهذه المقامات والكرامات { أن تتقوا الله } من غير الله { يجعل لكم فرقاناً } يفض عليكم من سجال جماله وجلاله القديم ما تفرقون به بين الحدوث والقدم { ويكفر عنكم } سيئات وجودكم الفاني { ويغفر لكم } يستركم بأنوار جماله وجلاله { والله ذو الفضل العظيم } وهو البقاء بالله بعد الفناء فيه { ليثبتوك } أيها الروح في أسفل سافلين الطبيعة أو يعدموك بانعدام آثارك { أو يخرجوك } من عالم الأرواح { والله خير الماكرين } يصلح حال أهل الصلاح ألبته.