التفاسير

< >
عرض

وَٱعْلَمُوۤا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْيَتَامَىٰ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِٱللَّهِ وَمَآ أَنزَلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا يَوْمَ ٱلْفُرْقَانِ يَوْمَ ٱلْتَقَى ٱلْجَمْعَانِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٤١
إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ ٱلدُّنْيَا وَهُم بِٱلْعُدْوَةِ ٱلْقُصْوَىٰ وَٱلرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي ٱلْمِيعَادِ وَلَـٰكِن لِّيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَىٰ مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ ٱللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ
٤٢
إِذْ يُرِيكَهُمُ ٱللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي ٱلأَمْرِ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ ٱلصُّدُورِ
٤٣
وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ ٱلْتَقَيْتُمْ فِيۤ أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِيۤ أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ ٱللَّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى ٱللَّهِ تُرْجَعُ ٱلأُمُورُ
٤٤
يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَٱثْبُتُواْ وَٱذْكُرُواْ ٱللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ
٤٥
وَأَطِيعُواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَٱصْبِرُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مَعَ ٱلصَّابِرِينَ
٤٦
وَلاَ تَكُونُواْ كَٱلَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ ٱلنَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
٤٧
وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ ٱلشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ ٱلْيَوْمَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَآءَتِ ٱلْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّنْكُمْ إِنَّيۤ أَرَىٰ مَا لاَ تَرَوْنَ إِنَّيۤ أَخَافُ ٱللَّهَ وَٱللَّهُ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
٤٨
إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلاۤءِ دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ
٤٩
-الأنفال

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { بالعدوة } بكسر العين في الحرفين: ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب. الباقون: بالضم. { من حيي } بياءين: أبو جعفر ونافع وخلف وسهل ويعقوب والبزي ونصير وأبو بكر وحماد. الباقون: بالإدغام { ولا تنازعوا } بالإدغام: البزي وابن فليح { وتذهب } بالجزم للجزاء عن هبيرة { وإذ زين } وبابه مدغماً: أبو عمرو وعلي وحمزة في رواية خلاد ابن سعدان وهشام { إني أرى }، { إني أخاف } بفتح الياء فيهما: أبو جعفر ونافع وابن كثير وأبو عمرو. { تراءت الفئتان } بالإمالة: نصير.
الوقوف: { وابن السبيل } ط لتعلق حرف الشرط بمحذوف يدل عليه ما قبلها تقديره: واعلموا واعتقدوا هذه الأقسام إن كنتم. { الجمعان } ط { قدير } ه { أسفل منكم } ط { في الميعاد } لا لعطف لكن { مفعولا } لا لتعلق اللام { من حيَّ عن بينه } ط { عليم } لا لتعلق "إذ" { قليلاً } ط { منكم } ط { الصدور } ه { مفعولا } ط { الأمور } ه { تفلحون } ه ج للآية وللعطف { واصبروا } ط { الصابرين } ه ج لما ذكر { عن سبيل الله } ط { محيط } ه { جار لكم } ط { أخاف الله } ط { العقاب } ه { دينهم } ط { حكيم } ه.
التفسير: لما أمر سبحانه بالقتال في قوله
{ وقاتلوهم } [الأنفال: 39] والمقاتلة مظنة حصول الغنيمة أعاد حكم الغنيمة ببيان أوفى وأشفى فقال { واعلموا أنما غنمتم } أي الذي حزتم من أموال الكفرة قهراً. وقوله { من شيء } بيان "ما" أي من كل ما يقع عليه اسم الشيء حتى المخيط والخيط. وقوله { فأن الله } بالفتح مبتدأ محذوف الخبر. وروى الجعفي عن أبي عمرو { فإن الله } بالكسر. قال في الكشاف: والمشهورة آكد وأثبت للإيجاب كأنه قيل: فلا بد من ثبات الخمس فيه ولا سبيل إلى الإخلال به لأنه إذا حذف الخبر واحتمل غير واحد من المقدرات كقولك: ثابت واجب حق لازم كان أقوى لإيجابه من النص على واحد. عن الكلبي أن الآية نزلت ببدر. وقال الواقدي: كان الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر وثلاثة أيام للنصف من شوال على رأس عشرين شهراً في الهجرة. واعلم أن الآية تقتضي أخذ الخمس من الغنائم واختلفوا في كيفية قسمة ذلك الخمس على أقوال أشهرها: أن ذلك الخمس يخمس حتى يكون مجموع الغنيمة ومقسماً بخمسة وعشرين قسماً عشرون الغنائم بالاتفاق لأنهم كسبوها كالاحتطاب والاصطياد، وأما الخمسة الباقية فواحد منها كان لرسول الله ويصرف الآن ما كان يصرفه إليه من مصالح المسلمين كسد الثغور وعمارة الحصون والقناطر والمساجد وأرزاق القضاة والأئمة الأهم فالأهم، وواحد لذوي القربى يعني أقارب رسول الله من أولاد هاشم والمطلب ابني عبد مناف دون عبد شمس ونوفل وهما ابنا عبد مناف أيضاً لما روي عن عثمان بن عفان وجبير بن مطعم - وكان عثمان من بني عبد شمس وجبير من بني نوفل - أنهما قالا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: هؤلاء إخوتك بنو هاشم لا ننكر فضلهم لمكانك الذي جعلك الله منهم، أرأيت إخواننا بني المطلب أعطيتهم وحرمتنا وإنما نحن وهم بمنزلة واحدة؟ فقال صلى الله عليه وسلم: إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام، إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد - وشبك بين أصابعه - يستوي في هذا السهم غنيهم وفقيرهم إلا أن للذكر مثل حظ الأنثيين. وثلاثة أخماس الباقية لليتامى والمساكين وابن السبيل. وهذا عند الإمامين أبي حنيفة والشافعي إلا أن أبا حنيفة قال: إن سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ساقط بموته وكذلك سهم ذوي القربى وإنما يعطون لفقرهم فهم أسوة سائر الفقراء. فعلى مذهب الإمامين. معنى قوله سبحانه { فأن لله خمسه وللرسول } [التوبة: 62] فأن لرسول الله خمسة كقوله { والله ورسوله أحق أن يرضوه } وعن أبي العالية إيجاب سهم آخر لله وأنه يقسم الخمس على ستة أسهم. والذاهبون إلى هذا القول اختلفوا فقيل: إن ذلك السهم لبيت المال. وقيل: يصرف إلى مصالح الكعبة لما روي أنه صلى الله عليه وسلم كان يأخذ الخمس فيضرب بيده فيه فيأخذ منه قبضة فيجعلها للكعبة فهو سهم الله. وعن ابن عباس أنه كان يقسم على ستة لله وللرسول سهمان، وسهم لأقاربه حتى قبض فأجرى أبو بكر الخمس على ثلاثة وهم اليتامى والمساكين وابن السبيل، وكذلك روي عن عمرو ومن بعده من الخلفاء. وروي أن أبا بكر منع بني هاشم الخمس وقال: إنما لكم أن يعطى فقيركم ويزوّج أيمكم ويخدم من لا خادم له منكم، فأما الغني منكم فهو بمنزلة ابن سبيل غني لا يعطى هو ولا يتيم موسر من الصدقة شيئاً، وروي عن زيد بن علي أنه قال: ليس لنا أن نبني منه قصوراً ولا أن نركب منه البراذين. وقيل: الخمس كله للقرابة لما روي عن علي عليه السلام أنه قيل له: إن الله تعالى قال { واليتامى والمساكين } فقال: أيتامنا ومساكيننا. وعن الحسن: في سهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لولي الأمر من بعده. وعند مالك بن أنس الأمر في الخمس مفوّض إلى اجتهاد الإمام إن رأى قسمه بين الأصناف الخمسة عند الشافعي وإن رأى أعطى بعضهم دون بعض، وإن رأى غيرهم أولى وأهم فذاك. فعند هذا يكون معنى قوله { فأن لله خمسه } أن من حق الخمس أن يكون متقرباً به إلى الله لا غير. ثم خص من وجوه القرب هذه الخمسة تفضيلاً لها على غيرها كقوله { وملائكته ورسله وجبريل وميكائيل } وحاصل الآية إن كنتم آمنتم بالله وبالمنزل على عبدنا فاعلموا علماً يتضمن العلم والطاعة أن الخمس من الغنيمة يجب التقرب به فاقطعوا عنه أطماعكم واقنعوا بالأخماس الأربعة { يوم الفرقان } يوم بدر لأنه فرق فيه بين أهل الحق وأهل الباطل. والجمعان فريقاهما والذي أنزل عليه يومئذ الآيات والملائكة والنصر والتأييد { والله على كل شيء قدير } فبذلك نصر القليل على الكثير { إذ أنتم } بدل من يوم الفرقان { بالعدوة } بالكسر والضم شط الوادي أي جانبه وحافته. وقال أبو عمرو، هي المكان المرتفع و { الدنيا } تأنيث الأدنى يعني الجانب الذي يلي المدينة وقلب الواو ياء فيه على القياس لأن "فعلى" من بنات الواو وتقلب ياء كالعليا، وأما القصوى تأنيث الأقصى فإنه كالقود في مجيئه على الأصل وقد جاء القصيا أيضاً قليلاً والعدوة القصوى مما يلي مكة { والركب } يعني الأربعين الذين كانوا يقودون العير { أسفل منكم } بالساحل وهو نصبب على الظرف مرفوع المحل خبراً للمبتدأ أي مكاناً أسفل من مكانكم والفائدة في ذكر مراكز الفرق الثلاث تصوير وقعة بدر وما دبر الله سبحانه من عجيب صنعه وكمال رأفته ونصره حتى كان ما كان. وذلك أن العدوة القصوى التي أناخ بها المشركون كانت في مكان فيه الماء وكانت أرضاً لا بأس بها، وأما العدوة الدنيا فهي رخوة تسوخ فيها الأقدام ولا ماء بها وكانت العير وراء ظهور العدو مع كثرة عددهم فكانت الحماية دونها تضاعف حميتهم وعبدتهم، ولهذا كانت العرب تخرج إلى الحروب بعيالهم وأثقالهم ليبعثهم الذب عن الحرم على بذل مجهودهم حيث لم يتركوا وراءهم ما يحدثون أنفسهم بالانحياز إليه. { ولو تواعدتم } أنتم وأهل مكة على موضع تتلاقون فيه { لاختلفتم في الميعاد } فثبطكم قلتكم وكثرتهم عن الوفاء بالموعد وثبطهم ما في قلوبهم من هيبة الرسول والمسلمين فلم يتفق لكم من التلاقي ما تيسر بتوفيق الله وتسبيبه { ولكن ليقضي الله } أي ليظهر { أمراً كان مفعولاً } مقدراً وهو نصر أوليائه وقهر أعدائه دبر ذلك. وقوله { ليهلك } بدل من { ليقضي } بدل الخاص من العام واستعير الهلاك والحياة للكفر والإسلام، وذلك أن وقعة بدر كان فيها من الآيات والمعجزات ما يكون الكافر بعدها كالمكابر لنفسه فكفره صادر عن وضوح بينة أي لا شك في كفره وعناده كما أنه لم يبق شك للمسلمين في حقية دين الإسلام. وفي قوله { ليقضي } و { ليهلك } دلالة على أن أفعاله تعالى مستتبعة للحكم والمقاصد والغايات خلاف ما عليه ظاهر الأشاعرة. { وإن الله لسميع } لدعائكم { عليم } بنياتكم { إذ يريكم } منصوب باذكر أو بدل آخر من يوم الفرقيان أو متعلق بعليم أي يعلم تدابيركم إذ يريكهم { في منامك } أي في رؤياك { قليلاً } أراه وإياهم في رؤياه قليلاً فأخبر بذلك أصحابه فكان تثبيتاً لهم وتشجيعاً على عدوهم. وقيل: في منامك أي في عينك في اليقظة لأن العين موضع النوم وفيه تكلف. { ولو أراكهم كثيراً } على ما هم عليه { لفشلتم } والفشل الجبن والخور. { ولتنازعتم في الأمر } أمر الحرب والإقدام { ولكن الله سلم } عصم من الفشل والتنازع { إنه عليم بذات الصدور } يعلم ما سيحدث فيها من مواجب الإقدام والإحجام { وإذ يريكموهم } يبصركم إياهم { إذ التقيتم في أعينكم قليلاً } نصب على الحال لأن الرؤية رؤية العين لا القلب وقد استوفت الإراءة مفعولية فلن يتعدى إلى ثالث { ويقللكم في أعينهم } الحكمة في تقليل الكفار في أعين المؤمنين ظاهرة مع أن في ذلك تصديقاً لرؤيا النبي، وأما تقليل المؤمنين في أعين الكفار فالحكمة في ذلك أن يجترىء الكفار عليهم قلة مبالاة بهم وأن يستعدّوا لهم كما ينبغي { ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } فعل ما فعل من التقليل { وإلى الله ترجع الأمور } فيه أن أحوال الدنيا غير مقصودة لذواتها. وإنما المراد منها ما يصلح أن يكون زاداً للمعاد. ثم علم المؤمنين آداب اللقاء في الحروب فقال { إذا لقيتم فئة فاثبتوا } لقتالهم ولا تفروا واللقاء اسم غلب في القتال فلهذا ترك وصف الفئة بالمحاربين ونحو ذلك، والأمر بالثبات في القتال لا ينافي الرخصة في التحرف والتحيز فلعل الثبات في الحرب لا يحصل إلا بهما. { واذكروا الله كثيراً } في مواطن الحرب { لعلكم تفلحون } تظفرون بمرادكم من النصر والمثوبة. وفيه إشعار بأن العبد لا يجوز له أن يفتر عن ذكر ربه في أي شغل وعمل كان، ولو أن رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق منفقاً أمواله لله، والآخر من المشرق إلى المغرب ضارباً بسيفه في سبيل الله كان الذاكر لله أعظم أجراً. وقيل: المراد من هذا الذكر أن يدعو على العدو: اللهم اخذلهم اللهم اقطع دابرهم ونحو ذلك والأولى حمله على العموم { وأطيعوا الله ورسوله } في سائر ما يأمر به لأن الجهاد لا ينفع إلى مع التمسك بسائر الطاعات { ولا تنازعوا فتفشلوا } منصوب بإضمار "أن" أو مجزوم لدخوله في حكم النهي ويظهر التقدير "أن" في قوله { وتذهب ريحكم } على القراءتين. والريح الدولة شبهت في نفوذ أمرها وتمشيته على وفق المشيئة بالريح وهبوبها. يقال: هبت رياح فلان إذا دالت له الدولة ونفذ أمره. وقيل: الريح حقيقة ولم يكن نصر قط إلا بريح يبعثها الله. وفي الحديث: "نصرت بالصبا" حذرهم التنازع واختلاف الرأي نحو ما وقع لهم بأحد بمخالفتهم رسول الله. احتج نفاة القياس بالآية لأن القول به يفضي غالباً إلى النزاع المنهى عنه. وكذا القائلون: بأن النص لا يجوز تخصيصه بالقياس.
قال أهل السير: إن أهل مكة حين نفروا لحماية العير أتاهم رسول أبي سفيان وهم بالجحفة أن ارجعوا فقد سلمت عيركم، فأبى أبو جهل وقال: حتى نقدم بدراً نشرب بها الخمور وتعزف علينا القيان ونطعم بها من حضرنا من العرب. فوافوها فسقوا كؤوس المنايا مكان الخمر وناحت عليهم النوائح مكان القيان فنهى الله المؤمنين أن يكونوا مثلهم بطرين مرائين بأعمالهم كإطعام الطعام ونحوه فقال { ولا تكونوا كالذين خرجوا من ديارهم } الآية. وصفهم بأوصاف ثلاثة: أولها: البطر وهو الطغيان في النعمة ويقال أيضاً شدّة المرح. والتحقيق إن النعم إذا كثرت من الله على العبد فإن صرفها في مرضاته وعرف حق الله فيها فذاك هو الشكر وإن توسل بها إلى المفاخرة على الأقران والمكاثرة على أبناء الزمان فذاك هو البطر. وثانيها: رئاء الناس وهو القصد إلى إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية، أو هو إظهار الجميل مع قبح النية وفساد الطوية، أو هو إظهار الطاعة مع إبطان المعصية كما أن النفاق إظهار الإيمان مع إبطان الكفر. وثالثها قوله { ويصدون عن سبيل الله } أي يمنعون عن قبول دين محمد صلى الله عليه وسلم. قال الواحدي: معناه وصدا عن سبيل الله ليكون عطفاً للاسم على الاسم، أو يكون الكل أحوالاً على تأويل بطرين مرائين صادّين أو يبطرون ويراءون ويصدّون. واعترض عليه في التفسير الكبير بأنه تارة يقيم الاسم مقام الفعل والأخرى بالعكس ليصح له كون الكلمة معطوفة على جنسها، وكان من الواجب عليه أن يذكر السبب الذي لأجله عبر عن الأولين بالمصدر وعن الثالث بالفعل. ثم ذكر السبب فقال: إن أبا جهل ورهطه كانوا مجبولين على البطر والرياء فذكرا بلفظ الاسم تنبيهاً على أصالتهم فيهما، وأما الصدّ فإنما حصل في زمان ادعاء محمد النبوة فذكر بلفظ الفعل الدال على التجدد. قلت: لو جعلنا قوله { ويصدون } عطفاً على صلة "الذين" لم يحتج إلى هذه التكلفات التي اخترعها الإمامان. { والله بما يعملون محيط } فيه زجر عن التصنع والافتخار، ويعلم منه أن المعصية مع الانكسار أقرب إلى الخلاص من الطاعة مع الاستكبار. { وإذ زين } معناه واذكر إذ زين أو هو معطوف على ما قبله من النعم وأقربها قوله { وإذ يريكموهم } وفي هذا التزيين وجهان: أحدهما. أن الشيطان زين بوسوسته من غير أن يتمثل بصورة إنسان وهو قول الحسن والأصم. وفي الكشاف: زين لهم الشيطان أعمالهم التي عملوها في معاداة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ووسوس إليهم أنهم لا يغلبون ولا يطاقون، وأوهمهم أن اتباع خطوات الشيطان وطاعته مما يجرئهم. فلما تلاقى الفريقان نكص الشيطان وتبرأ منهم أي بطل كيده حين نزلت جنود الله. وثانيهما: أنه ظهر في صورة إنسان وذلك أن المشركين حين أرادوا المسير إلى بدر ذكروا الذي بينهم وبين بني كنانة من الحرب فلم يأمنوا أن يأتوهم من ورائهم، فتمثل لهم إبليس في صورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني وكان من أشرافهم في جند من الشياطين معه راية { وقال لا غالب لكم اليوم من الناس } أي لا غالب كائن لكم ولو كان لكم مفعولاً بمعنى لا غالب إلا إياكم لانتصب كما يقال لا ضارباً زيداً. { وإني جار لكم } أي مجيركم من بني كنانة أو من كل عدوّ يعرض من البشر. ومعنى الجار ههنا الدافع عن صاحبه أنواع الضرر كما يدفع الجار عن الجار. { فلما تراءت الفئتان } أي التقى الجمعان بحيث رأت كل واحدة الأخرى { نكص على عقبيه } والنكوص الإحجام عن الشيء أي رجع. { وقال إني بريء منكم } قيل: كانت يده في يد الحرث بن هشام فلما نكص قال له الحرث إلى أين؟ أتخذلنا في هذه الحالة فقال { إني أرى ما لا ترون } أي من نزول الملائكة ودفع في صدر الحرث وانطلق وانهزموا، فلما بلغوا مكة قالوا: هزم الناس سراقة فبلغ ذلك سراقة فقال: والله ما شعرت بمسيركم حتى بلغتني هزيمتكم، فلما أسلموا علموا أنه الشيطان. وفي الحديث:
"ما رؤي إبليس يوماً أصغر ولا أدحر ولا أغيظ من يوم عرفة لما يرى من نزل الرحمة إلا ما رأى يوم بدر" وأما قوله { إني أخاف الله } فقد قيل: إنه لما رأى جبريل خافه، وقيل: لما رأى الملائكة ينزلون من السماء خافهم لأنه ظن أن الوقت الذي أنظر إليه قد حضر. قال قتادة: صدق في قوله { إني أرى ما لا ترون } وكذب في قوله: { إني أخاف الله } وقوله { والله شديد العقاب } يجوز أن يكون من بقية حكاية كلام إبليس، ويجوز أن يكون اعتراضاً وظرفه { إذ يقول } أو لا ظرف له { وإذ يقول } ينتصب بذكر على أنه كلام مبتدأ منقطع عما قبله ولهذا فقد العاطف. و { المنافقون } قوم من الأوس والخزرج بالمدينة { والذين في قلوبهم مرض } يجوز أن يكون من صفة المنافقين وأن يراد قوم من قريش وأسلموا وما قوي الإسلام في قلوبهم ولم يهاجروا. ثم إن قريشاً لما خرجوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أولئك نخرج مع قومنا فإن كان محمد في كثرة خرجنا إليه، وإن كان في قلة أقمنا في قومنا، وقال محمد بن إسحق. ثم قتلوا جميعاً مع المشركين يوم بدر. { غرّ هؤلاء دينهم } قال ابن عباس: معناه أنه خرج بثلثمائة وثلاثة عشر إلى زهاء ألف وما ذلك إلا لأنهم اعتمدوا على دينهم. وقيل: المراد أن هؤلاء يسعون في قتل أنفسهم رجاء أن يجعلوا أحياء بعد الموت. ثم قال جواباً لهم { ومن يتوكل على الله } يكل أمره إليه ويثق بفضله { فإن الله عزيز } غالب يسلط الضعيف القليل على القوي الكثير { حكيم } يوصل العذاب إلى أعدائه والرحمة إلى أوليائه.
التأويل: { واعلموا } يا أهل الجهاد الأكبر { أنما غنمتم } عند رفع الحجب من أنوار المشاهدات وأسرار المكاشفات فلكم أربعة أخماسه تعيشون بها مع الله وتكتمونها عن الأغيار وتنفقون خمسها في الله مخلصاً وللرسول متابعاً { ولذي القربى } يعني الإخوان في الله مواصلاً { واليتامى } يعني أهل الطلب من الذين غاب عنهم مشايخهم قبل بلوغهم إلى حد الكمال { والمساكين } الذين تمسكوا بأيدي الإرادة بأذيال إرشادكم { وابن السبيل } يعني الصادر والوارد من الصدق والإرادة مراعياً جانب كل طائفة على حسب صدقهم وإرادتهم واستعدادهم. إن كنتم وصلتم في متابعة الرسول إلى الإيمان بالله عياناً { وبما أنزلنا على عبدنا } في سفر
{ فأوحى إلى عبده ما أوحى } [النجم: 10] { يوم الفرقان } الذي فيه الرحمن علم القرآن { يوم التقى الجمعان } جمع الصفات الإنسانية وجمع الأخلاق الربانية فصار لمحمد صلى الله عليه وسلم مع الله خلوة لا يتبعه فيها ملك مقرب ولا نبي مرسل { والله على كل شيء قدير } فيقدر على أن يوصلكم في متابعة رسوله إلى هذا المقام وهو الفناء عن الوجود والبقاء بالمعبود { إذ أنتم } أيها الصادقون في الطلب { بالعدوة الدنيا } نازلة { وهم بالعدوة القصوى } أي الأرواح بأقصى عالم الملكوت بارزة { والركب أسفل منكم } يعني الهياكل والقوالب في أسفل سافلي الطبيعة. { ولو تواعدتم } أيها الأرواح والنفوس والأجساد { لاختلفتم في الميعاد } لما بينكم من التباين والتضاد { ولكن } جمعكم الله بالقدرة والحكمة { ليقضي الله أمراً كان مفعولاً } وهو إيصال كل شخص إلى رتبته التي استعد لها { فيهلك من هلك عن بينة } عن حجة ثابتة عليه { ويحيا من حيى عن بينة } فالأشقياء يبقون في سجين الطبيعة ونار القطيعة، وأما السعداء فأرواحهم في مقعد صدق عند مليك مقتدر، قال { ارجعي إلى ربك راضية } [الفجر: 28] ونفوسهم مع الملائكة المقربين كما قال { فادخلي في عبادي } [الفجر: 29] وأبدانهم في جنات النعيم كما قال { وادخلي جنتي } [الفجر: 30] { إن الله لسميع } من دعاه للوصول والوصال بالغدو والآصال { عليم } بمن يستحق الإذلال أو يستأهل الإجلال { إذ يريكهم الله في منامك قليلاً } مع كثرتهم في الصورة ليدل على قلتهم في المعنى { لفشلتم } على عادة طبع الإنسان { ولكن الله سلم } من الخوف البشري { ويقللكم في أعينهم } لأنهم نظروا إليكم بالأبصار الظاهرة فلم يدركوا كثرة معناكم ومددكم بالملائكة. { وإذا لقيتم فئة } هي النفس وهواها والشيطان وأعوانه والدنيا وزينتها { فاثبتوا } على ما أنتم عليه من اليقين والصدق والإخلاص والطلب { ولا تكونوا كالذين خرجوا } من ديار أوصافهم وتركوا الدينا وداروا البلاد وزاروا العباد ليتباهوا بذلك على الإخوان والأقران. { وإذ زين لهم الشيطان أعمالهم } فظنوا أنهم بلغوا مبلغ الرجال وأنه لا يضرهم التصرف في الدنيا وارتكاب بعض المنهيات بل ينفعهم في نفي الرياء والعجب إذ هو طريق أهل الملامة. { فلما تراءت الفئتان } فئة الأرواح والقلوب وفئة النفوس وصفاتها وأمد الله تعالى فئة الأرواح والقلوب بالأوصاف الملكية والواردات الربانية حتى انقادت النفوس لها { نكص على عقبيه } زهق باطله وصار مخالفاً للنفس كما قال { إني بريء منكم }، { إني أرى ما لا ترون } لأنه يرى بنظر الروحانية تجلي الأنوار الربانية من القلوب، ولو وقع على الشيطان من ذلك تلألؤ لأحرقه ولهذا قال { إني أخاف الله } وفيه إشارة إلى أنه غير منقطع الرجاء من رحمة الله إنه أرحم الراحمين.