التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَآءِ وَٱلْمَسَاكِينِ وَٱلْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَٱلْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي ٱلرِّقَابِ وَٱلْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَٱبْنِ ٱلسَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ
٦٠
وَمِنْهُمُ ٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ ٱلنَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَٱلَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ ٱللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ
٦١
يَحْلِفُونَ بِٱللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَٱللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ
٦٢
أَلَمْ يَعْلَمُوۤاْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذٰلِكَ ٱلْخِزْيُ ٱلْعَظِيمُ
٦٣
يَحْذَرُ ٱلْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ ٱسْتَهْزِءُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ
٦٤
وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِٱللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ
٦٥
لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ
٦٦
ٱلْمُنَافِقُونَ وَٱلْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِٱلْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ ٱلْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ ٱللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ
٦٧
وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ ٱللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ
٦٨
كَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَٱسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَٱلَّذِي خَاضُوۤاْ أُوْلَـٰئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي ٱلدنْيَا وَٱلآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ ٱلْخَاسِرُونَ
٦٩
-التوبة

غرائب القرآن و رغائب الفرقان

القراءات: { أذن خير } كلاهما بالرفع والتنوين: الأعشى والمفضل. الباقون: بالإضافة. { ورحمة } بالجر: حمزة الآخرون: بالرفع { ألم تعلموا } بتاء الخطاب: جبلة عن المفضل الباقون: بياء الغيبة { إن نعف } { نعذب } كلاهما بالنون ونصب { طائفة } عاصم غير المفضل. الباقون: على البناء للمفعول بياء الغيبة في الأول، وبتاء التأنيث في التالي.
الوقوف: { وابن السبيل } ط أي فرض الله { فريضة من الله } ط { حكيم } ه { هو أذن } ط { آمنوا منكم } ط { أليم } ه { ليرضوكم } ط لاحتمال الواو الحال أو الاستئناف. { مؤمنين } ه { خالداً فيها } ط { العظيم } ه { بما في قلوبهم } ط { استهزؤا } ط لاحتمال الهمزة في "إن" للتعليل { يحذرون } ه { ونلعب } ط { تستهزؤون } ه { بعد إيمانكم } ط { مجرمين } ه { من بعض } ط كيلا تصير الجملة صفة لبعض المنافقين وهي صفة لكلهم { أيديهم } ط { فنسيهم } ط { الفاسقون } ه { فيها } ط { حسبهم } ط لاختلاف النظم مع اتحاد المقصود في إتمام الجزاء { ولعنهم الله } ج لذلك { مقيم } ه لا بناء على تعلق الكاف { وأولاداً } ط { خاضوا } ط { والآخرة } ج { الخاسرون } ه.
التفسير: إن المنافقين لما لمزوا الرسول صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيَّن لهم الله سبحانه مصرفها كيلا يبقى لهم طعن إذا وجدوا فعله موافقاً لحكم الله فقال { إنما الصدقات } الآية. وفي تصدير الكلام بإنما دلالة على أنه لا حق لأحد في الصدقات إلا لهؤلاء، ويؤيده ما روي أنه صلى الله عليه وسلم قال لرجل:
"إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق. وإلا فهو صداع في الرأس وداء في البطن" . ولنتكلم في تعريف هؤلا الأصناف. فالأول والثاني: الفقراء والمساكين. ولا شك أن كلاً من الصنفين محتاجون لا يفي دخلهم بخرجهم إنما الكلام في أنهما متساوياً الدلالة أو أحدهما أسوأ حالاً. فعن أبي يوسف ومحمد والجبائي أنهما واحد حتى لو أوصى لزيد وللفقراء والمساكين بمال كان لزيد النصف لا الثلث. قال الجبائي: إنه تعالى ذكرهما باسمين ليؤكد أمرهم في الصدقات. والفائدة فيه أن أصرف إليهم من الصدقات سهمان لا كسائرهم. وعند الشافعي الفقير أسوأ حالاً لأنه تعالى أثبت الصدقات لهؤلاء الأصناف دفعاً لحاجاتهم فالذي وقع الابتداء بذكره يكون أشد حاجة لأن الظاهر تقديم الأهم على المهم، ومما يدل على إشعار الفقر بالشدّة العظيمة قوله تعالى { تظن أن يفعل بها فاقرة } [القيامة: 25] جعل الفاقرة كناية عن أعظم أنواع الشر والدواهي. وروي أنه صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ من الفقر، وقد سأل المسكنة في قوله "اللهم أحيني مسكيناً وأمتني مسكيناً واحشرني في زمرة المساكين" فكأنه سأل توسط الحال، ولهذا لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك أشياء معلومة مع أنه تعالى أجاب دعاءه ظاهراً فأماته مسكيناً. وتقييده تعالى المسكين بقوله { ذا متربة } [البلد: 16] يدل على أن المسكين قد لا يكون كذلك، وقال تعالى { أما السفينة فكانت لمساكين } [الكهف: 79] وكان ابن عباس يفسر الفقير بأنه الذي لا يجد شيئاً كأهل الصفة، والمسكين بأنه الطوَّاف الذي يسأل الناس. والغالب أنه يحصل له منهم شيء وقريب منه قول من قال سمي مسكيناً لأنه الدائم السكون إلى الناس. ولما كان المسكين هو السائل لما قلنا فالمحرم في قوله سبحانه { وفي أموالهم حق للسائل والمحروم } [الذاريات: 19] هو الفقير صاحب الحرمان. واتفق الناس على أن الفقير ضد الغني ولم يقل أحد أن الغنى والمسكنة ضدان فلعل الترفع هو ضد التمسكن. وقال أبو حنيفة: المسكين أسوأ حالاً لقوله تعالى { أو مسكيناً ذا متربة } [البلد: 16] وقد تقدم الكلام عليه ولأنه تعالى جعل الكفارات من الأطعمة ولا فاقة أعظم من الجوع ونقل الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء أن الفقير الذي له ما يأكل والمسكين هو الذي لا شيء له، وقال يونس: قلت لأعرابي، أفقير أنت؟ قال: لا والله بل مسكين. وقيل: سمي مسكيناً لأنه يسكن حيث يحضر لأجل أنه لا بيت له ولا منزل. وأجيب بأنه تعالى جعل الكفارة للمسكين ذي المتربة وهو الفقير بعينه وإنما النزاع في المسكين المطلق والروايات معارضة بأمثالها والله أعلم. الصنف الثالث: العاملون على الصدقات وهم السعاة الجباة للصدقة. قال ابن عمر وابن الزبير والشافعي: يعطى هؤلاء أجور أمثالهم لأنها أجرة للعمل. وقال مجاهد والضحاك: يعطون الثمن من الصدقات لأنهم صنف من الثمانية، والصحيح أن الهاشمي والمطلبي لا يجوز أن يكون عاملاً على الصدقات لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبى أن يبعث أبا رافع عاملاً على الصدقات وقال: أما علمت أن مولى القوم منهم. وفائدة التعدية بعلى التسليط والولاية. يقال: فلان على بلدة كذا إذا كان والياً عليها. واختلفوا في أن الإمام هل له حق لأنه هو العامل في الحقيقة أو لا حق له لخروجه عن الأصناف؟ والجمهور على أن العامل يأخذ نصيبه وإن كان غنياً لأن ذلك أجرة عمله. وعن الحسن أنه لا يأخذ إلا مع الحاجة. الصنف الرابع: المؤلفة قلوبهم. عن ابن عباس هم قوم أشراف من الأحياء أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وكانوا خمسة عشر رجلاً منهم أبو سفيان والأقرع بن حابس وعيينة بن حصن أعطى كل رجل منهم مائة من الإبل. قال العلماء: لعل مراد ابن عباس إنه لا يمتنع في الجملة صرف الأموال إلى المؤلفة وإلا فلم يكن ما أعطاهم من الصدقات. ويروى أن أبا بكر الصديق أعطى عدي بن حاتم لما جاءه بصدقاته وصدقات قومه أيام الردة. والذي استقر عليه رأى الأئمة أن المؤلفة ثلاثة أقسام: ضعيف النية في الإسلام، وشريف بإعطائه يتوقع سلام نظرائه، والمتألف على جهاد من يليهم من الكفار ومانعي الزكاة حيث يكون ذلك أهون للإمام من بعث جيش يعطى كل واحد ما رأى الإمام باجتهاده، هذا كله إذا كانوا مسلمين، فأما الكفار الذين يميلون إلى الإسلام فيرغبون فيه بإعطاء مال، والذين يخاف شرهم فيتألفون لدفع الشر بمال فلا يعطون شيئاً من الزكاة، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعطيهم من خمس الخمس والآن لا يعطون أصلاً لقوة الإسلام والاستغناء عن تألفهم ولأنه ليس في الآية دلالة على أن المؤلفة يجوز أن يكونوا من الكفار فلا ينبغي أن يقال إن حكم الآية منسوخ، الصنف الخامس قوله وفي الرقاب. قال الزجاج: تقديره وفي فك الرقاب، وللأئمة في تفسيره أقوال؛ فعن ابن عباس أنهم المكاتبون وهو مذهب الشافعي قال: إذا عجزوا عن أداء النجوم بأن يكون لهم شيء أو لا يفي ما في أيديهم بنجومهم صرف إليهم أو إلى سيدهم بإذنهم ما يعينهم على العتق. وقال مالك وأحمد وإسحاق: المراد أنه يشتري به عبيد فيعتقون. وعن أبي حنيفة وأصحابه. وهو قول سعيد بن جبير والنخعي، أنه لا يعتق من الزكاة رقبة كاملة ولكن يعطى منها في رقبة ويعان بها مكاتب لأن قوله { وفي الرقاب } يقتضي أن يكون له فيه مدخل وذلك ينافي كونه تاماً فيه. وقال الزهري: سهم الرقاب نصفه للمكاتبين المسلمين ونصفه يشتري به رقاب ممن صلوا وصاموا وقدم إسلامهم فيعتقون. قال المفسرون: إنما عدل عن اللام إلى "في" لأن الأصناف الأربعة الأول يصرف المال إليهم حتى يتصرفوا فيه كما شاؤا، وفي الأربعة الأخيرة لا يصرف المال إليهم بل يصرف إلى جهات الحاجات المعتبرة في الصفات التي لأجلها استحقوا سهم الزكاة. ففي الرقاب يوضع نصيبهم في تخليص رقابهم عن الرق أو الأسر ولا يدفع إليهم، وفي الغارمين يصرف المال إلى قضاء ديونهم، وفي الغزاة يصرف المال إلى إعداد ما يحتاج إليه في الغزو، وفي ابن السبيل كذلك يصرف إلى ما يبلغه المقصد. وقال في الكشاف: إنما عدل للإيذان بأنهم أرسخ في استحاق التصديق عليهم ممن سبق لأن "في" للوعاء فنبه به على أنهم أحقاء بأن يجعلوا مصباً للصدقات. وتكرير "في" في قوله { وفي سبيل الله وابن السبيل } فيه فضل ترجيح لهذين على الرقاب والغارمين الصنف السادس الغارمون قال الزجاج: أصل الغرم لزوم ما يستحق وسمي العشق غراماً لكونه أمراً شاقاً لازماً. وفلان مغرم بالنساء، وسمي الدين غرماً لأنه شاق لازم. فالغارمون المديونون والدين إن حصل بسبب معصية لم يدخل في الآية لأن المعصية لا تستوجب الإعانة وإن حصل لا بالمعصية فهو مقصود الآية سواء حصل بسبب نفقات ضرورية أو لإصلاح ذات البين. وإن كان متمولاً أو للضمان إن أعسر هو والأصيل وكل داخل في الآية. روى الأصم في تفسيره أنه صلى الله عليه وسلم لمّا قضى بالغرة في جنين قالت العاقلة: لا نملك الغرة يا رسول الله، فقال لحمد ابن مالك: أعنهم بغرة من صدقاتهم، وكان حمد على الصدقة يومئذ. وإنما يعطى الغارم قدر دينه إن لم يقدر على شيء وإن قدر على بعض أعطى الباقي. الصنف السابع قوله { في سبيل الله } يعني الغزاة. قال الشافعي: يجوز له أن يأخذ من مال الصدقات وإن كان غنياً وهو مذهب مالك وأحمد وإسحاق وأبي عبيد. وقال أبو حنيفة: لا يعطى الغازي إلا إذا كان محتاجاً وظاهر لفظ الآية لا يوجب القصر على الغزاة فلهذا نقل القفال عن بعض الفقهاء أنهم أجازوا صرف الصدقة إلى جميع وجوه الخير من تكفين الموتى وبناء الحصون وعمارة المساجد لأن كلها في سبيل الله. الصنف الثامن ابن السبيل وهو المسافر لا لأجل معصية، يعطى ما يبلغه المقصد أو موضع ماله إن كان له في الطريق مال. قال الشافعي: ويدخل في المسافر الشاخص من وطنه أو من بلد كان مقيماً به منشئاً للسفر والغريب المجتاز ببلدنا والله أعلم.
ولنذكر طرفاً من أحكام هذه الأصناف:
الحكم الأول: اتفقوا على دخول الزكاة الواجبة في قوله { إنما الصدقات } لقوله في موضع آخر
{ خذ من أموالهم صدقة } [التوبة: 103] ولقوله صلى الله عليه وسلم: "ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة" واختلفوا في الصدقة المندوبة فمنهم من قال تدخل، والفائدة أن تعلم أن مصارف جميع الصدقات ليست إلا هؤلاء الأصناف، والأقرب اختصاص الآية بالواجبة لدخول لام التمليك في الأصناف، والصدقة المملوكة لهم ليست إلا الزكاة ولأن الآية تدل على الحصر في الأصناف الثمانية والصدقة المندوبة يجوز صرفها إلى وجوه أخر كالمساجد والمدارس وتجهيز الموتى، ولأن الصدقات تنصرف إلى معهود سابق وهو الصدقات الواجبة في قوله { ومنهم من يلمزك في الصدقات }.
الحكم الثاني: في الآية دلالة على أن الزكاة إنما يتولى أخذها الإمام أو نائبه لأنه تعالى جعل للعاملين سهماً منها. والعامل هو الذي نصبه الإمام لأخذ الزكوات ويتأكد هذا النص بقوله { خذ من أموالهم صدقة } فالقول بأن المالك يجوز له إخراج زكاة الأموال الباطنة بنفسه إنما يعرف بدليل آخر كقوله
{ وفي أموالهم حق معلوم للسائل والمحروم } } [الذاريات: 19] وإذا كان حقاً لهما وجب أن يجوز دفعه إليهما ابتداء، وإذا كان الإمام جائراً فالتفريق بنفسه أفضل.
الحكم الثالث: مذهب أبي حنيفة أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وعطاء وأبي العالية والنخعي، لأنه تعالى جعل جملة الصدقات لهؤلاء الثمانية فلا يلزم أن يكون كل جزء من أجزائها كصدقة زيد مثلاً موزعاً على كل واحد منهم، ولأن الرجل الذي لا يملك إلا عشرين ديناراً فأخرج نصف دينار لو كلفناه أن يقسمه على أربعة وعشرين لدفع كل ثلاثة منها إلى ثلاثة من كل صنف صار كل قسم حقيراً صغيراً غير منتفع به في مهم معتبر. وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فجبرتهم بها كان أحب إلي. وقال الشافعي: لا بد من صرفها، إلى الأصناف الثمانية وهو قول عكرمة والزهري وعمر بن عبد العزيز. واحتجوا عليه بأن الله تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب ثم أكدها بقوله { فريضة من الله } وهو في معنى المصدر المؤكد لأن قوله { إنما الصدقات للفقراء } في قوة قوله فرض الله الصدقات لهم، وهذا كالزجر عن مخالفة من الآية. وعن النبي صلى الله عليه وسلم
"إن الله تبارك وتعالى لم يرض بقسمة ملك مقرب ولا نبي مرسل حتى تولى قسمتها بنفسه" . ثم ختم الآية بقوله { والله عليم } أي بتقدير الأنصباء والمصالح { حكيم } لا يفعل إلا ما هو الأصوب والأصلح وكل هذه المؤكدات دليل على وجوب الاحتياط في صرف الزكاة، ومن ههنا قال الشافعي: لا بد في كل صنف من ثلاثة لأنه تعالى ذكر أكثر الأصناف بلفظ الجمع وأقل الجمع ثلاثة، فإن دفع نصيب الفقراء إلى اثنين غرم للثالث أقل متمول على الأقيس لا الثلث، لأن التفضيل في أفراد الصنف جائز للمالك لأن العدد من كل صنف غير محصور فيصعب اعتبار التسوية بخلاف التسوية بين الأصناف لأنهم محصورون فتسهل التسوية بينهم.
الحكم الرابع: العامل والمؤلفة قلوبهم مفقودان في زماننا فبقي أن تصرف الزكاة إلى الأصناف الستة الباقية كما لو فقد بعض الأصناف في بلد فإنه يصرف إلى الباقين، ولا يؤمر بالنقل إلى بلد وجدوا فيه جميعاً والأحوط رعاية التسوية بينهم على ما يقوله الشافعي، أما إذا لم يفعل ذلك فإنها مجزئه عند سائر الأئمة. أما الحكمة في إيجاب الزكاة فهو أن المال محبوب بالطبع لأن القدرة من صفات الكمال والمال سبب. لحصول القدرة على المشتهيات والمآرب لكن الاستغراق في حبه يذهل النفس عن حب الله وعن التأهب للآخرة فاقتضت الحكمة الإلهية تكليف مالك المال إخراج طائفة منه كسراً للنفس ومنعاً من انصبابها بالكلية إليه. فإيجاب الزكاة علاج صالح لإزالة مرض حب الدنيا عن القلب وهو المراد من قوله { خذ من أموالهم صدقة تطهرهم } أي عن دنس الاستغراق في حب المال. وأيضاً إن كثرة الأموال توجب القوة والقدرة والشدة، وتزايد تلك اللذات يدعو الإنسان إلى تحصيل الأموال المتزايدة فتصير المسألة دورية لا مقطع لها ولا آخر فأثبت الشرع لها مقطعاً وآخراً وهو صرف طائفة من المال في طلب مرضاة الله ليصرف النفس عن ذلك الطريق الظلماني الذي لا آخر له ويفضي في الأغلب إلى الطغيان وقساوة القلب. وأيضاً النفس الناطقة لها قوتان: نظرية وكمالها في التعظيم لأمر الله، وعملية وكمالها في الشفقة على خلق الله فأوجب الله الزكاة ليتصف جوهر الروح بهذا الكمال ويصير بسبب ذلك محسناً إلى الخلق، وإذا أحسن إليهم أمدوه بالدعاء والهمة. وأيضاً المال سمي مالاً لكثرة ميل كل أحد إليه وهو غاد ورائح سريع الزوال مشرف على التلف والبوار، فإذا أنفقه لوجه الله بقي بقاء لا يمكن زواله. وفي إنفاق المال تشبه بالمجردات والمفارقات وليس الغنى إلا عن الشيء لا به لأن الاستغناء عن الشيء صفة الحق والاستغناء بالشيء صفة المخلوقين العاجزين، ففي الأمر بالزكاة نقل للإنسان من درجة أدنى إلى درجة أعلى. وأيضاً للإنسان روح وبدن ومال فإذا بذلك الروح في الاستغراق في بحار معرفة الله، وبذل البدن في العبودية لله والصلاة له فكيف يليق به أن لا يبذل المال في ابتغاء مرضاته؟! وأيضاً إذا فضل المال عن قدر الحاجة وحضر إنسان آخر محتاج فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال، أما في حق المالك فهو أنه سعى اكتسابه وتحصيله وتعلق قلبه به، وأما في حق الفقير فلاحتياجه الموجب للتعلق به فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت حكمة الشارع رعاية كل منهما بقدر الإمكان. ورجح جانب المالك لأن له حق الاكتساب وحق التعلق فأبقى عليه الكثير وأمر بصرف جزء يسير إلى الفقير توفيقاً بين الأمرين وجمعاً بين المصلحتين مع رعاية المال عن التعطيل فلا معطل في الوجود. وأيضاً الأغنياء خزان الله لأن المال مال الله وهم عبيده ولولا أنه ألقاها في أيديهم لما ملكوا منها حبة، فكم من عاقل لا يملك ملء بطنه، وكم من غافل تأتيه الدنيا عفواً صفواً. وليس بمستبعد أن يقول الملك لخزّانه اصرفوا طائفة من مال خزانتي إلى المحتاجين من عبيدي. وأيضاً إن الأغنياء لو لم يلزموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملتهم شدة الحاجة على تحصيل المال من وجوه منكرة كالسرقة ونحوها أو على الالتحاق بأعداء المسلمين. وقال صلى الله عليه وسلم
"الإيمان نصفان نصف صبر ونصف شكر" وكأن تعالى يقول للغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين فأخرج من يدك نصيباً منه حتى تصبر على فقدان المال فتصير من الصابرين، ويقول للفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين ولكني أوجبت على الغني أن يصرف إليك طائفة من المال لتشكرني فتكون من الشاكرين. وأيضاً أراد الله سبحانه أن يكون الغني منعماً على الفقير بما يؤديه إليه ويكون الفقير منعماً على الغني بما قبله منه ليحصل الخلاص في الدنيا من الذم والعار وفي الآخرة من عذاب النار.
ثم حكى نوعاً من فضائح المنافقين وهو أنهم كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه الطعن والذم { هو أذن } عن ابن عباس كانوا يؤذون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون ما لا ينبغي فقال بعضهم: لا تفعلوا فإنا نخاف أن يبلغه ما تقولون فنحلف له. فقال الجلاس بن سويد، نقول ما شئنا ثم نأتيه فيصدقنا بما نقول فإنما محمد أذن سامعة فنزلت الآية. وقال محمد بن إسحاق بن يسار وغيره: نزلت في رجل من المنافقين يقال له نبتل بن الحرث وكان رجلاً أحمر العينين أسفع الخدين مشوه الخلقة وهو الذي قال فيه النبي صلى الله عليه وسلم
"من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحرث" وكان ينم حديث النبي صل الله عليه وسلم إلى المنافقين فقيل له: لا تفعل فقال: إنما محمد أذن من حدثه شيئاً صدقه نقول ما شئنا ثم نأتيه فنحلف له فيصدّقنا. وقال السدي: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن الصامت ووديعة بن ثابت فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم وعندهم غلام من الأنصار يدعى عامر بن قيس، فحقروه فتكلموا وقالوا إن كان ما يقوله محمد حقاً لنحن شر من الحمير فغضب الغلام وقال: والله إن ما يقول محمد حق وإنكم لشر من الحمير، ثم أتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فدعاهم فسألهم فحلفوا أن عامراً كاذب وحلف عامر أنهم كذبة. وقال: اللهم لا تفرق بيننا حتى يتبين صدق الصادق من كذب الكاذب فنزلت الآيتان. قال علماء اللغة: الأذن الرجل الذي يصدق بكل ما يسمع ويقبل قول كل أحد سمي بالجارحة التي هي آلة السماع كأنه جملته أذن سامعة ومثله قولهم للربيئة عين. وفسر إيذاءهم النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم يقولون له أذن وذلك أنهم قصدوا به المذمة وأنه ليس ذا ذكاء ولا بعيد غور بل هو سليم القلب سريع الاغترار بكل ما يسمع. ويجوز أن يراد بالإيذاء أنواع أخر سوى هذا القول أي يؤذونه بالغيبة والنميمة وسائر أنواع الأذية ويقولون في وجه الاعتذار عن ذلك هو أذن يقبل كل ما يسمع، فنحن نأتيه فنعتذر إليه فيسمع عذرنا فيرضى، ثم إنه سبحانه أجاب عن قولهم فقال { قل أذن خير لكم } بالإضافة كقولهم: رجل صدق يريدون الجودة والصلاح. ومجوز الإضافة هو الملابسة كأنه قيل: نعم هو أذن ولكن نعم الأذن إذ أريد هو أذن في الخير والحق وفيما يجب سماعه وقبوله وليس بإذن في غير ذلك ويؤيده قراءة حمزة { رحمة } بالجر عطفاً عليه عطف الخاص على العام أي هو أذن خير ورحمة لا يسمع ولا يقبل غيرهما. ثم بين كونه أذن خير بأنه { يؤمن بالله } أي يقرّ به ويعترف بوحدانيته لما قام عنده من الأدلة { ويؤمن للمؤمنين } يسلم لهم قولهم لوثوقه بقولهم وعلمه بإخلاصهم لا لكونه من أهل الغرة والبله { و } هو { رحمة للذين آمنوا منكم } باللسان دون الجنان لأنه يجري أمركم على الظاهر ولا يبالغ في التفتيش عن بواطنكم فإن الله هو الذي يتولى السرائر ولهذا ختم الآية بقوله { والذين يؤذون رسول الله لهم عذاب أليم } وأما من قرأ { أذن خير } بالرفع فيهما فعلى أن الإذن خبر مبتدأ محذوف و{ خير } كذلك أي هو أذن هو خير. والمعنى هو أذن موصوف بالخيرية في حقكم لأنه يقبل معاذيركم ويتغافل عن جهالاتكم فتحفظ بذلك دماؤكم وأموالكم. وقيل: التقدير قل أذن واعية سامعة للحق خير لكم من هذا الطعن الفاسد. ثم ذكر بعده ما يدل على فساد هذا الطعن وهو قوله { يؤمن بالله } إلى آخره. ووجه ثالث ذكره صاحب النظم واستحسنه الواحدي وهو أن قوله { أذن } وإن كان رافعاً في الظاهر لكنه نصب في الحقيقة على الحال وتأويله: قل هو أذنا خير لكم.
ذكر أن من قبائح المنافقين إقدامهم على الأيمان الكاذبة فقال { يحلفون بالله لكم ليرضوكم والله ورسوله أحق أن يرضوه } أي كان من الواجب أن يرضوا الله تعالى بالإخلاص والتوبة لا بإظهار ما يستسرون خلافه. وإنما لم يقل يرضوهما تعظيماً لله بالإفراد بالذكر، أو المراد والله أحق أن يرضوه ورسوله كذلك، أو وقع الاكتفاء بذكر الله لأن رضا الله ورضا رسوله شيء واحد كما يقال إحسان زيد وإجماله بعثني ومعني { إن كانوا مؤمنين } أي بزعمهم. ثم وبخهم بقوله { ألم يعلموا } وذلك أنه يقال ذلك لمن تتولع في تعليمه مدة ثم لم يظهر عليه أثر العلم والرشد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم طال مكثه فيهم وكثر تحذيره عن المعصية وترغيبه في الطاعة. والضمير في قوله { أنه } للشأن وفائدته مزيد التعظيم والتهويل. والمحادة المخالفة لأن كلاً منهما في حد غير حد صاحبه كالمشاقة لأن كلاً منهما في شق آخر. وقال أبو مسلم: هي من الحديد حديد السلاح. ثم ذكر في الجزاء قوله { فإن له } بالفتح أي فحق أن له { نار جهنم } وقيل "أن" مكرر للتأكيد والتقدير فله نار جهنم. وقيل "فإن" معطوف على "أنه" وجواب من محذوف وهو يهلك. قال الزجاج: يجوز كسر "أن" على الاستئناف بعد الفاء ولكن القراءة بالفتح. ونقل الكعبي في تفسيره أنه قرىء بالكسر.
قال السدي: قال بعض المنافقين: والله لوددت إني قدمت فجلدت مائة جلدة ولا ينزل فينا شيء فيفضحنا فأنزل الله تعالى { يحذر المنافقين } وقال مجاهد: كانوا يقولون القوم بينهم ثم يقولون عسى الله أن لا يفشى علينا سرنا فنزلت. والضمير في { عليهم } و{ تنبئهم } للمؤمنين وفي { قلوبهم } للمنافقين، ويجوز أن تكون الضمائر كلها للمنافقين لأن السورة إذا نزلت في معناهم فهي نازلة عليهم وكأنها تخبر عما في بواطنهم وتذيع عليهم أسرارهم. قيل: المنافق كافر فكيف يحذر نزول الوحي لأنه غير قائل به؟ وأجيب بأنهم عرفوا ذلك بالتجربة أو كفرهم كان كفر عناد أو كانوا شاكين في صحة نبوته والشاك في أمر خائف من وقوعه، أو هذا الخبر في معنى الأمر أي ليحذر المنافقون: عن أبي مسلم أنهم أظهروا هذا الحذر على سبيل الاستهزاء ولهذا أجابهم الله بقوله { استهزؤا } وهو أمر تهديد { إن الله مخرج ما تحذرون } مظهر ما تحذرونه من نفاقكم أو محصل إنزال السورة لأن الشيء إذا حصل بعد عدم فكأن فاعله أخرجه من العدم إلى الوجود. قوله { ولئن سألتهم } الآية. عن ابن عمر أن رجلاً من المنافقين في غزوة تبوك. ما رأيت مثل هؤلاء الفراء أرغب بطوناً أي أوسع ولا أكذب ألسناً ولا أجبن عند اللقاء يعني رسول الله وأصحابه. فقال واحد من المؤمنين: كذبت وأنت منافق. ثم ذهب ليخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فوجد القرآن قد سبقه فجاء ذلك الرجل إلى رسول الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته فقال: يا رسول الله صلى الله عليه وسلم إنا كنا نلعب ونتحدث بحديث الركب نقطع به عنا الطريق قال ابن عمر: رأيت عبد الله بن أبيّ يشتد قدام رسول الله صلى الله عليه وسلم والحجارة تنكبه وهو يقول: إنما كنا نخوض ونلعب. والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزؤن؟ ما يلتفت إليه ولا يزيد عليه. وقال الحسن وقتادة: بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسير في غزوة تبوك وركب من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتتح قصور الشام وحصونها هيهات هيهات. فأطلع الله عز وجل نبيه على ذلك فقال: احبسوا عليّ الركب فأتاهم فقال: قلتم كذا وكذا فقالوا: يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب. قال الواحدي: أصل الخوض الدخول في مائع مثل الماء والطين ثم كثر حتى أطلق على كل دخول فيه تلويث وأذى أي كنا نخوض في الباطل كما يخوض الركب لقطع الطريق. ثم أمر نبيه بأن يقول في جوابهم { أبا لله } أي بتكاليفه أو بأسمائه أو بقدرته حيث استبعدتم إعانته النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه على فتح قصور الشام { وآياته } يعني القرآن { ورسوله كنتم تستهزؤن } لم يعبأ باعتذارهم فجعلوا كأنهم معترفون بوقوع الاستهزاء منهم فأوقع الإنكار على الاستهزاء بالله بأن أولى الاستفهام الذي يفيد التقرير المستهزأ به ولم يقل "أتستهزؤن بالله". ثم قال: { لا تعتذروا } نقل الواحدي عن أئمة اللغة أن معنى الاعتذار محو أثر الذنب أو قطعه من قولهم: اعتذر المنزل إذا درس. واعتذرت المياه إذا انقطعت، ومنه عذرة الجارية لأنها تعذر أي تقطع. والعذر سبب لقطع اللوم، نهاهم الله عن الاعتذار بالخوض واللعب لأن الشيء الذي يوجب الكفر لا يصلح للعذر. ثم بين ذلك بقوله { قد كفرتم } أي صريحاً { بعد إيمانكم } أي بعد الإيمان الذي أظهرتموه. وفيه أن الاستهزاء بالدين كيف كان كفر بالله صريح لأن العمدة الكبرى في الإيمان هو التعظيم لأمر الله ولشرائعه. { إن نعف عن طائفة منكم } ذكر المفسرون أنهم كانوا ثلاثة، استهزأ اثنان وضحك الثالث، ولما كان ذنب الضاحك أخف لأنه لم يوافق القوم في الكفر فلا جرم عفا الله عنه. وفيه إشارة إلى أنه من خاض في عمل باطل فعليه أن يجتهد في التقليل ويحذر من الانهماك فإنه يرجى له ببركة ذلك القليل أن يعفو الله عنه الكل. قال الزجاج: الطائفة في اللغة الجماعة لأنها المقدار الذي يمكنه أن يطيف بالشي، ثم يجوز أن يسمى الواحد بالطائفة قال تعالى
{ وليشهد عذابهما طائفة من المؤمنين } [النور: 2] وأقله الواحد. وروى الفراء بإسناده عن ابن عباس أنه قال: الطائفة الواحد فما فوقه. ووجه بأن من اختار مذهباً فإنه ينصره ويذب عنه من كل الجوانب فلا يبعد أن يسمى طائفة بهذا السبب والتاء للمبالغة. وقال ابن الأنباري: العرب قد توقع لفظ الجمع على الواحد وقال تعالى { الذين قال لهم الناس } [آل عمران: 173] يعني نعيم بن مسعود. ثم علل كونه معذباً للطائفة الثانية { بأنهم كانوا مجرمين } أي مصّرين مستمرّين على الجرم، ويجوز أن يكون سبب العفو عن الطائفة الأولى إحداثهم التوبة وإخلاصهم الإيمان بعد النفاق، ويجوز أن يراد بالعذاب العذاب العاجل. ومن قرأ { أن يعف } على البناء للمفعول والتذكير فلأنه مستند إلى الظرف كما تقول: سير بالدابة دون سيرت. وقرىء بالتأنيث ذهاباً إلى المعنى كأنه قيل: إن ترحم طائفة.
ثم ذكر جملة أحوال المنافقين. وأن إناثهم في ذلك كذكورهم فقال { المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض } أي في صفة النفاق وأريد به نفي أن يكونوا من المؤمنين وتكذيبهم في قولهم { إنهم لمنكم } وتقرير قوله { وما هم منكم } ثم فصل ذلك المجمل ببيان مضادة حالهم الحال المؤمنين فقال { يأمرون بالمنكر } وهو كل قبيح عقلاً أو شرعاً وأعظم ذلك تكذيب الله ورسوله. { وينهون عن المعروف } وهو كل حسن عقلاً أو شرعاً وأعظم ذلك الإخلاص في الإيمان { ويقبضون أيديهم } عن كل خير أو عن كل واجب كصدقة أو زكاة أو اتفاق في سبيل الله، وهذا أولى ليتوجه الذم بتركه. وقبض الأيدي كناية عن الشح والبخل كبسطها في الكرم والسخاء { نسوا الله } أغفلوا أمره وتركوا ذكره وذلك أن النسيان الحقيقي لا يتوجه عليه الذم { فنسيهم } جازاهم بأن صيرهم بمنزلة المنسي من ثوابه ورحمته وهذا على سبيل المزاوجة والطباق. وإنما جعل النسيان عبارة عن ترك الذكر لأن من نسي شيئاً لم يذكره فدل بذكر الملزوم على اللازم، ثم قال { إن المنافقين هم الفاسقون } وفيه دليل على أنهم هم الكاملون في الفسق وأن على المسلم أن يتحرز عما يكسبه هذا الاسم. ثم بين مآل حال أهل النفاق والكفر فقال { وعد الله } الآية ومعنى { خالدين فيها } مقدرين الخلود فيها قاله في الكشاف ويحتمل أن يراد مستأهلين للخلود { هي حسبهم } كافيهم في الجزاء والإيلام ومع ذلك فقد لعنهم الله ليكون العذب مقروناً بالإهانة والطرد { ولهم عذاب مقيم } نوع آخر من العذاب الدائم سوى عذاب النار، أو عذاب عاجل لا ينفكون عنه من تعب النفاق والخوف من افتضاحهم. ثم شبه المنافقين بالكفار الذين كانوا قبلهم في الأمر بالمنكر والنهي عن المعروف وقبض الأيدي عن الخيرات فقال ملتفتاً من الغيبة إلى الخطاب { كالذين من قبلكم } أي أنتم مثل الذين أو فعلتم مثل فعل الذين من قبلكم. فعلى الأول محل الكاف رفع وعلى الثاني نصب. ثم وصف أولئك الكفار بأنهم كانوا أشد قوة أي جسامة من هؤلاء المنافقين { وأكثر أموالاً وأولاداً فاستمتعوا بخلاقهم } وهو ما خلق للإنسان أي قدر له من خير كما قيل له قسم لأنه قسم ونصيب لأنه نصب أي أثبت. { فاستمتعتم بخلاقكم كما استمتع الذين من قبلكم بخلاقهم } قيل: ما الفائدة في ذكر الاستمتاع بالخلاق في حق الأولين مرة ثم ذكره في حق المنافقين ثانياً ثم تكريره في حق الأوّلين ثالثاً؟ وأجيب بأنه تعالى ذم الأولين بالاستمتاع بما أوتوا من حظوظ الدنيا وحرمانهم عن سعادة الآخرة بسبب استغراقهم في تلك الحظوظ، فلما قرر تعالى هذا الذم عاد فشبه حال المنافقين بحالهم فيكون ذلك نهاية في المبالغة. قال جار الله: نظيره أن تقول لبعض الظلمة أنت مثل فرعون كان يقتل بغير جرم ويعذب وأنت تفعل مثل فعله. وأما قوله { وخضتم كالذي خاضوا } فمعطوف على ما قبله مستند إليه مستغن بإسناده إليه عن تلك التقدمة. ومعنى "كالذي" كالخوض الذي خاضوه أو كالفوج الذي خاضوا. وقيل: أصله كالذين فحذف النون. ثم بين أن أولئك الكفار لم يحصل لهم إلا حبوط الأعمال أما في الدنيا فبسبب الفقر والانتقال من العز إلى الذل ومن القوة إلى الضعف، وأما في الآخرة فلأنهم هلكوا وبادوا وانتقلوا إلى العقاب الدائم وخسران الدارين. فهؤلاء المنافقون المشاركون لهم في هذه الأعمال والفضائح مع ضعف بنيتهم وقلة عددهم وعددهم أولى بخزي الدارين وخسار الأمرين.
التأويل: { إنما الصدقات } وهي صدقات مواهب الله كما قال الله صلى الله عليه وسلم
"ما من يوم ولا ليلة ولا ساعة إلا لله فيها صدقة على من يشاء من عباده الفقراء وهم الأغنياء بالله الذين فنوا عنهم وبقوا به" { والمساكين } الذين لهم بقية أوصاف الوجود ألقوا سفينة القلب في بحر الطلب وقد خرقها خضر المحبة { وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً } [الكهف: 73] { والعاملين عليها } وهم أرباب الأعمال كما كان الفقراء والمساكين أرباب الأحوال { والمؤلفة قلوبهم } الذين تتألف قلوبهم بذكر الله { وفي الرقاب } الذين يريدون أن يتخلصوا عن رق الموجودات تحر لعبودية موجدها. والمكاتب عبد ما بقي عليه درهم. { والغارمين } الذين استقرضوا من مراتب المكونات أوصافها وطبائعها وخواصها وهم محبوسون في سجن الوجود فهم معاونون بتلك الصدقات للخلاص عن حبس الوجود { وفي سبيل الله } المجاهدين الجهاد الأكبر مع كفار النفوس والهوى والشيطان والدنيا { وابن السبيل } المسافرون عن أوصاف الطبيعة وعالم البشرية، السائرون إلى الله على أقدام الشريعة والطريقة { فريضة من الله } أوجبها على ذمة كرمه كما قال "ألا من طلبني وجدني" { والله عليم } بطالبيه { حكيم } في معاونتهم بعد الطلب كقوله "من تقرب إليّ شبراً تقربت إليه ذراعاً" { ويقولن هو أذن } رأوا محامده بنظر المذمة والعيب { قل أذن خير لكم } أي سامعيته خير لكم لأن له مقام السامعية يسمع ما يوحى إليه { يؤمن بالله } عياناً { ويؤمن للمؤمنين } لأن فوائد إيمانه تعود إليهم كما تعود إلى نفسه { ورحمة للذين آمنوا } لأنهم يهتدون بهداه { والذين يؤذون رسول الله } بأقوالهم وأفعالهم وأحوالهم { يحذر المنافقون } والحذر لا يغني عن القدر { أن نعف عن طائفة } إظهاراً للفضل والرأفة { نعذب طائفة } إظهار للقهر والعزة ولكن إظهار اللطف بلا سبب. وإظهار القهر لا يكون إلا بسبب أنهم كانوا مجرمين و { بعضهم من بعض } لأن أرواحهم كانت في صف واحد في الأزل فمعاملاتهم من نتائج خصوصيات أرواحهم { نسوا الله } ولو ذكروه قبل الإتيان بالمعاصي لم يفعلوا ما فعلوا، ولو ذكروه بعد الإتيان لاستغفروا فغفر لهم { هي حسبهم } لأنها نصيبهم في الأزل { كانوا أشد منكم قوة } بالاستعداد الفطري وضيعوها في الاستمتاع العاجل فخسروا رأس المال ولم يربحوا.