التفاسير

< >
عرض

أَلاۤ إِنَّ أَوْلِيَآءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ
٦٢
ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ
٦٣
لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ فِي ٱلْحَياةِ ٱلدُّنْيَا وَفِي ٱلآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ ذٰلِكَ هُوَ ٱلْفَوْزُ ٱلْعَظِيمُ
٦٤
-يونس

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { أَلآ إِنَّ أَوْلِيَاءَ ٱللَّهِ... } الآيةُ: «أَلا» استفتاحٌ وتنبيهٌ، و{ أَوْلِيَاءَ ٱللَّهِ }: هم المؤمنون الذينَ وَالوهُ بالطاعةِ والعبادةِ، وهذه الآية يُعْطِي ظاهرُها أَنَّ مَنْ آمَنَ واتقَى اللَّه، فَهُوَ داخلٌ في أولياء اللَّه، وهذا هو الذي تقتضيه الشريعةُ في الوَلِيِّ، "وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ سُئِلَ، مَنْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ؟ فَقَالَ: الَّذِينَ إِذَا رَأَيْتُهُمْ ذَكَرْتَ اللَّه" .

قال: * ع *: وهذا وصفٌ لازِمٌ للمتَّقِين؛ لأنهم يَخْشَعُونَ ويُخَشِّعُونَ، وروي عنه صلى الله عليه وسلم أيضاً أَنَّهُ قَالَ: "أَوْلِيَاءُ اللَّه قَوْمٌ تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وَاجْتَمَعُوا في ذَاتِهِ، لَمْ تَجْمَعْهُمْ قَرَابَةٌ وَلاَ مَالٌ يَتَعَاطَوْنَهُ" . وروى الدارقطنيُّ في «سننه» عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ: "خِيَارُ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ إِذَا رُؤُوا، ذُكِرَ اللَّهُ، وَشَرُّ عِبَادِ اللَّهِ المَشَّاؤونَ بِالنَّمِيمَةِ المُفَرِّقُونَ بَيْنَ الأَحِبَّةِ، البَاغُونَ للْبُرَآءِ العَيْبَ" . انتهى من «الكوكب الدُّرِّيِّ».

وقوله: { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } يعني: في الآخرةِ، ويحتملُ في الدنيا لا يخافُونَ أَحداً من أَهل الدنيا، ولا من أعراضها، ولا يحزنون على ما فاتهم منها، والأولُ أظهر، والعمومُ في ذلك صحيحٌ: لاَ يَخَافُونَ في الآخرة جملةً، ولا في الدنيا الخَوْفَ الدُّنْيَوِيَّ.

وذكر الطبريُّ عن جماعة من العلماء مثْلَ ما في الحديثِ في الأولياء؛ أنهم هُمُ الَّذِينَ إِذَا رَآهُمُ أَحَدٌ، ذَكَرَ اللَّهَ، وروي فيهم حديث؛ "أَنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ هُمْ قَوْمٌ يَتَحَابُّونَ فِي اللَّهِ وَيُجْعَلُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرُ مِنْ نُورٍ، وَتُنِيرُ وُجُوهُهُمْ، فَهُمْ في عَرَصَاتِ القِيَامَةِ لاَ يَخَافُونَ وَلاَ يَحْزَنُون" وروى عمر بن الخطاب؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم قَالَ: "إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ عِبَاداً مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ يَغبُطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ؛ لَمَكَانَتِهِمْ مِنَ اللَّهِ، قَالُوا: وَمَنْ هُمُ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهَ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ، وَلا أَمْوَالٍ..." الحديثَ، ثم قرأَ: { أَلآ إِنَّ أَوْلِيَاءَ ٱللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ }.

* ت * وقد خرَّج هذا الحديثَ أبو داود والنسائيُّ، قال أبو داود في هذا الحديث: فَوَاللَّهِ، إِنَّ وجوههم لَنُورٌ، وإِنهم لَعَلَى نُورٍ، ذكره بإِسنادٍ آخر. انتهى.

ورواه أيضاً ٱبْنُ المبارك في «رقائقه» بسنده، عن أبي مالك الأشعريِّ؛ أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَقْبَلَ عَلَى النَّاس، فَقَالَ: "يَأَيُّهَا النَّاسُ ٱسْمَعُوا وَٱعْقِلُوا، وَٱعْلَمُوا أَنَّ لِلَّهِ عِبَاداً لَيْسُوا بَأَنْبِيَاءَ وَلاَ شُهَدَاءَ، يَغْبُطُهُمُ النَّبِيُّونَ وَالشُّهَدَاءُ عَلَى مَجَالِسِهِمْ وَقُرْبِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: انْعَتْهُمْ لَنَا، يَا نَبِيَّ اللَّهِ، فَقَالَ:هُمْ نَاسٌ مِنْ أَبْنَاءِ النَّاسِ، لَمْ تَصِلْ بَيْنَهُمْ أَرْحَامٌ مُتَقَارِبَةٌ، تَحَابُّوا فِي اللَّهِ، وتَصَافَوْا فيهِ، يَضَعُ اللَّهُ لَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ فَيُجْلِسُهُمْ عَلَيْهَا فَيَجْعَلُ وُجُوهَهُمْ نُوراً وَثِيَابَهُمْ نُوراً، يَفْزَعُ النَّاسُ يَوْمَ القِيَامَةِ، وَهُمْ لاَ يَفْزَعُونَ، وَهُمْ أَوْلِيَاءُ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ" . انتهى.

وقوله تعالى: { لَهُمُ ٱلْبُشْرَىٰ... } الآية: أَمَّا بشرَى الآخرة، فهي بالجنَّةِ؛ بلا خلاف قولاً واحداً، وذلك هو الفَضْل الكبير، وأَمَّا بُشْرَى الدنيا، فَتَظاهَرَت الأَحاديث من طرق، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهَا " الرُّؤْيا الصَّالِحَةُ يَرَاهَا الْمُؤْمِنُ أَوْ تُرَى لَهُ " ، وقال قتادة والضَّحَّاك: البُشْرَى في الدنيا: هِيَ ما يُبَشَّرُ به المؤمنُ عِنْد موته، وهو حَيٌّ عند المعاينة، ويصح أنْ تكون بُشْرَى الدنيا ما في القرآن من الآيات المبشِّرات؛ ويقوَّى ذلك بقوله: { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ }، ويؤوَّل قوله صلى الله عليه وسلم:« هِيَ الرُّؤْيَا » أنه أعطَى مثالاً يعمُّ جميع الناس.

وقوله سبحانه: { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ ٱللَّهِ }: يريد: لا خُلْفَ لمواعيده، ولا رَدَّ في أمره، وقد أخذ ذلك ابنُ عُمَرَ علَى نحو غَيْرِ هذا، وجَعَلَ التبديلَ المنفيَّ في الألفاظ، وذلك أنَّه روي أَنَّ الحجاج خَطَبَ، فَقَالَ: أَلاَ إِنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ الزُّبَيْر قَدْ بَدَّلَ كِتَابَ اللَّهِ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ: إِنَّكَ لاَ تُطِيقُ ذَلِكَ أَنْتَ، وَلاَ ٱبْنُ الزُّبَيْرِ؛ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ، وقد رُوِيَ هذا النظرُ عن ابن عباس في غيرِ مُقَاوَلَةِ الحَجَّاجِ، ذكره البخاريُّ.