التفاسير

< >
عرض

خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ
١٠٧
وَأَمَّا ٱلَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي ٱلْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَٰوَٰتُ وَٱلأَرْضُ إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ
١٠٨
فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـٰؤُلاۤءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ
١٠٩
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ
١١٠
وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ
١١١
فَٱسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ
١١٢
-هود

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { خَـٰلِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ }: يُرْوَى عن ابن عباس: أَنَّ اللَّه خلق السمٰوات والأرْضَ مِنْ نُورِ العَرْشِ، ثم يردهما إِلى هنالك في الآخرة، فلهما ثَمَّ بَقَاءٌ دائمٌ، وقيل: معنى: { مَا دَامَتِ ٱلسَّمَـٰوَاتُ وَٱلأَرْضُ }: العبارة عن التأبيدِ بما تَعْهَدُهُ العرب، وذلك أنَّ من فصيح كلامِهَا، إِذا أرادَتْ أَن تخبر عَنْ تأبيد شيء أنْ تقول: لاَ أَفْعَلُ كَذَا وَكَذَا أَمَدَ الدهْرِ، وما نَاحَ الحَمَامُ، وما دامت السمٰوات والأرْضُ، وقيل غير هذا.

قال * ص *: وقيل: المراد سَمٰواتُ الآخرةِ، وأَرْضها؛ يدلُّ عليه قوله: { { يَوْمَ تُبَدَّلُ ٱلأَرْضُ غَيْرَ ٱلأَرْضِ } [إبراهيم:48] انتهى. وأما قوله: { إِلاَّ مَا شَاءَ رَبُّكَ }: في ٱلاستثناء ثلاثةُ أقوالٍ:

أحدها: أنه متَّصل، أي: إِلا ما شاء ربُّكَ من إِخراج الموحِّدين؛ وعلَى هذا يكونُ قوله: { فَأَمَّا ٱلَّذِينَ شَقُواْ... } عاماً في الكَفَرَةِ والعُصَاةِ، ويكون ٱلاستثناء من { خَـٰلِدِينَ }، وهذا قولُ قتادة وجماعةٍ.

الثَّاني: أنَّ هذا ٱلاستثناء ليس بمتَّصل ولا منقطعٍ، وإِنما هو على طريق ٱلاستثناء الذي نَدَبَ إِليه الشَّرْعُ في كلِّ كلام؛ فهو على نحو قوله: { { لَتَدْخُلُنَّ ٱلْمَسْجِدَ ٱلْحَرَامَ إِن شَاءَ ٱللَّهُ } [الفتح:27] }.

الثالث: أَنَّ «إِلا» في هذه الآية بمعنى «سوى»، وٱلاستثناء منقطعٌ، وهذا قول الفَرَّاء، فإِنه يقدِّر ٱلاستثناء المنقطع بـــ «سِوَى» وسيبَوَيْهِ يقدِّره بـــ «لكن»، أيْ: سوَى ما شاء اللَّه زائداً على ذلك؛ ويؤيِّد هذا التأويلَ قوله بَعْدُ: { عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ }، وقيل: سِوَى ما أعد اللَّه لهم من أنواعِ العَذَاب، وأشدُّ من ذلك كلِّه سَخَطُهُ سبحانه عليهم، وقيل: ٱلاستثناء في الآيتين من الكَوْنِ في النار والجنَّة، وهو زمانُ المَوْقِفِ، وقيل: ٱلاستثناءُ؛ في الآية الأولى: من طُول المُدَّة، وذلك على ما روي أَنَّ جهنم تَخْرَبُ، ويُعْدَمُ أهلُها، وتخفقْ أبوابُهَا، فهم على هذا يَخْلُدون حتَّى يصير أمرهم إِلى هذا.

قال * ع *: وهذا قولٌ محتملٌ، والذي رُوِيَ ونُقِل عن ابن مسعود وغيرهِ أنَّ ما يخلى من النَّار إِنما هو الدَّرْكُ الأَعلى المختصُّ بعصاة المؤمنين، وهذا الذي يسمَّى جَهَنَّمَ، وسُمِّي الكلُّ به تجوُّزاً.

* ت *: وهذا هو الصوابُ - إِن شاء اللَّه - وهو تأويل صاحب «العاقبة»؛ أنَّ الذي يَخْرَبُ ما يَخُصُّ عصاةَ المُؤْمِنِين، وتقدَّم الكلام على نظير هذه الآية، وهو قوله في «الأنعام»: { { خَـٰلِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ ٱللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } [الأنعام:128] }.

قال * ع *: والأقوال المترتِّبة في ٱلاستثناءِ الأوَّلِ مرتبةٌ في ٱلاستثناء الثاني في الذين سعدوا إِلاَّ تأويلَ مَنْ قال: هو ٱستثناء المدة التي تخرَبُ فيها جهنَّم؛ فإِنه لا يترتَّب هنا، والـــ { مَجْذُوذٍ }: المقْطُوع، والإِشارة بقوله: { مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاءِ } إِلى كفَّار العرب، { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } معناه: من العقوبةِ، وقال الداوديُّ عن ابن عباس: { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ }: قال: ما قُدِّر لهم من خَيْرٍ وشرٍّ انتهى.

وقوله: { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ فَٱخْتُلِفَ فِيهِ }: أي: ٱخْتَلَفَ الناسُ عَلَيْه، فلا يَعْظُم عليك، يا محمَّد، أمْرُ مَنْ كذَّبك.

وقال * ص *: «فيه»: الظاهرُ عودُهُ على الكتاب، ويجوزُ أنْ يعود على موسَى، وقيل: «في» بمعنى «على»، أي: عليه، انتهى.

والـــ { كَلِمَةٌ }؛ هنا عبارةٌ عن الحُكْم والقضاء { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ }: أي: لَفُصِلَ بين المُؤمن والكافر؛ بنعيم هذا وعذاب هذا، ووَصَفَ الشَّك بالريب؛ تقويةً لمعنى الشك، فهذه الآية يحتملُ أنْ يكونَ المراد بها أمة موسَى، ويحتمل أن يراد بها معاصرو النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وأنْ يعمهم اللفظ أحْسَن، ويؤيِّده قوله: { وَإِنَّ كُـلاًّ }، وقرأ نافع وابن كثير: «وإِنْ كُلاًّ لَمَا» وقرأ أبو عمرو، والكسائِيُّ بتشديد «إِنَّ»، وقرأ حمزة وحَفْص بتشديد «إِنَّ»، وتشديد «لَمَّا»، فالقراءتان المتقدِّمتان بمعنًى فـــ «إِنَّ» فيهما على بابها، و«كُلاًّ»، اسمها، وعُرْفُها أنْ تدخل على خبرها لامٌ، وفي الكلام قَسَمٌ تدخُلُ لامه أيضاً على خبر «إِنَّ»، فلما اجتمع لامَانِ، فُصِلَ بينهما بـــ «ما»؛ هذا قول أبي عليٍّ، والخبر في قوله: { لَيُوَفِّيَنَّهُمْ }، وهذه الآية وعيدٌ، ومعنى الآية: أنَّ كل الخَلْقِ موفًّى في عَمَلَهُ.

وقوله عز وجل: { فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ }: أمر النبي صلى الله عليه وسلم بٱلاستقامةِ، وهو عليها إِنما هو أمر بالدَّوَام والثبوت، وهو أمر لسائر الأمَّة، وروي أنَّ بعض العلماء رأَى النبيَّ صلى الله عليه وسلم في النوْمِ، فقال: يَا رَسُولَ اللَّه، بَلَغَنَا عَنْكَ أَنَّكَ قُلْتَ: « شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا »، فَمَا الَّذِي شَيَّبَكَ مِنْ هُودٍ؟ فَقالَ لَهُ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: { فَٱسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ }.

قال * ع *: والتأويل المشهور في قوله عليه السلام: «شَيَّبَتْنِي هُودٌ وَأَخَوَاتُهَا» أَنه إِشارة إِلى ما فيها مما حَلَّ بالأُممِ السالفةِ، فكأَنَّ حَذَرَهُ على هذه مِثْلَ ذلك شَيَّبه عليه السلام.