التفاسير

< >
عرض

فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ ٱلدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً
٥
ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً
٦
إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ ٱلْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً
٧
عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً
٨
-الإسراء

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولَـٰهُمَا } الضمير في قوله: { أُولَـٰهُمَا } عائدٌ على قوله { مَرَّتَيْنِ }، وعبَّر عن الشر بـ «الوعد»؛ لأنه قد صرَّح بذكْرِ المعاقبة.

قال * ص *: { وَعْدُ أُولَـٰهُمَا }، أي: موعود، وهو العقاب، لأن الوعد سبق بذلك، وقيلَ: هو على حذف مضاف، أي وعد عقاب أولاهما. انتهى، وهو معنى ما تقدَّم.

واختلف الناس في العبيد المبعوثِينَ، وفي صورة الحال ٱختلافاً شديداً متباعِداً، عيونُهُ أنَّ بني إِسرائيل عَصَوْا وقتلوا زكريَّاء عليه السلام، فغزاهُمْ سِنْجارِيبُ مَلِك بابل، قاله ابن إسحاق وابن جَبْير.

وقال ابن عباس: غزاهُمْ جالوتُ من أهْل الجزيرة، وقيل: غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ، وروي أنه دخل قَبْلُ في جيش من الفرس، وهو خامل يسير في مَطْبَخ الملك، فٱطَّلع مِنْ جور بني إِسرائيل على ما لم تعلمه الفُرْسُ، فَلمَّا انصرف الجيشُ، ذكر ذلك للملك الأعظَمِ، فلما كان بعد مدَّة، جعله الملك رئيسَ جيشٍ، وبعثه فخرَّب بيت المقدس، وقتلهم، وأجلاهم، ثم انصرَفَ، فوجد المَلِكَ قد ماتَ، فمَلَكَ موضعه، وٱستمرَّتْ حاله حتى ملك الأرْضَ بعد ذلك، وقالت فرقة: إنما غزاهم بُخْتَ نَصَّرَ في المرَّة الأخيرة حين عَصَوْا وقتلوا يحيى بن زَكَرِيَّاءَ، وصورة قتله: أن الملك أراد أنْ يتزوج بِنْتَ امرأته، فنهاه يحيى عَنْها، فعزَّ ذلك على امرأته، فزَّينت بنْتَها، وجعَلَتها تسقي المَلِك الخمر، وقالت لها: إِذا راوَدَكَ عن نفسك، فتمنَّعي حَتَّى يعطيَكِ المَلِكُ ما تَتَمَنَّيْنَ، فإِذا قال لك: تَمنِّي عَلَيَّ ما أردتِّ، فقولي: رأسَ يحيى بن زكرياء، ففعلَتِ الجارية ذلك، فردَّها الملك مرَّتَيْنِ، وأجابها في الثالثة، فجيء بالرأْسِ في طَسْتٍ، ولسانُهُ يتكلَّم، وهو يقول: لا تحلُّ لك، وجرى دمُ يحيى، فلم ينقطعْ، فجعل الملك عليه التُرابَ، حتى ساوى سور المدينةِ، والدمُ ينبعث، فلما غزاهم المَلِكُ الذي بُعِثَ عليهم بحسب الخِلاَفِ الذي فيه، قَتَلَ منهم على الدمِ سبعين ألْفاً حتى سكَنَ، هذا مقتضى خبرهم، وفي بعض الروايات زيادة ونقصٌ، وقرأ الناس: «فَجَاسُوا»، وقرأ أبو السَّمَّال: بالحاء، وهما بمعنى الغلبةِ والدخولِ قهراً، وقال مُؤَرِّجٌ: جَاسُوا خِلاَلَ الأزِقَّةَ.

* ت * قال * ص *: { جَاسُواْ } مضارعُه يَجُوسُ، ومصدره جَوْسٌ وجَوَسَانٌ، ومعناه: التردُّد، و { خِلاَلَ } ظرف، أي: وسط الديار انتهى.

وقوله سبحانه: { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ ٱلْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ... } الآية عبارة عما قاله سبحانه لبني إِسرائيل في التوراة، وجعل «رددنا» موضع «نَرُدُّ»، لما كان وعد اللَّه في غاية الثِّقَة، وأنه واقع لا محالة، فعبَّر عن المستقبل بالماضي، وهذه الكرة هي بعد الجولة الأولى، كما وصفْنا، فغَلَبَتْ بنو إِسرائيل على بيت المقدس، وملَكُوا فيه، وحَسُنت حالهم بُرْهةً من الدهْرِ، وأعطاهم اللَّه الأموالَ والأولادَ وجعلَهم إِذا نفروا إِلى أمْرٍ أكثر النَّاس، فلما قال اللَّه: إِني سأفعل بُكْم هكذا، اعقَّب بوصيَّتهم في قوله: { إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ... } الآية، والمعنى: إِنكم بعملكم تُجَازَوْنَ، و{ وَعْدُ ٱلآخِرَةِ } معناه: من المرَّتَيْن.

وقوله: { لِيَسُوءُواْ } اللام لام أمْرِ، وقيل: المعنى: بعثناهم، ليسوؤوا وليدخلوا، فهي لام كْيِ كلّها، والضمير للعباد أُولي البأس الشديد، و{ ٱلْمَسْجِدَ } مسجد بيت المقدس، «وتَبَّر» معناه: أفسد بغشمٍ وركوب رأْس.

وقوله: { مَا عَلَوْاْ }، أي: ما علوا عليه من الأقطار، وملكوه من البلاد، وقيل: «ما» ظرفية، والمعنى مدة علوهم وغلبتهم على البلاد.

وقوله سبحانه: { عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ... } الآية: يقول اللَّه عزَّ وجلَّ لبقية بني إِسرائيل: عسى ربكم إِن أطعتم في أنفسكم وٱستقمتُمْ أنْ يرحمكم، وهذه العِدَةُ ليست برجوعِ دولةٍ، وإِنما هي بأنْ يرحم المطيع منهم، وكان من الطاعة ٱتِّبَاعهم لعيسى ومحمَّد عليهما السلام، فلم يفعلوا، وعادوا إلى الكفر والمعصية، فعاد عقابُ اللَّه عليهم بِضَرْبِ الذَّلة عليهم، وقتلِهمْ وإذلالِهمْ بِيَدِ كلِّ أمة، و«الحصير»: من الحَصْر بمعنى السَّجْن، وبنحو هذا فسَّره مجاهد وغيره، وقال الحسن: «الحصير» في الآية: أراد به ما يفترشُ ويُبْسَطُ؛ كالحصير المعروف عند الناس.

قال * ع *: وذلك الحصيرُ أيضاً هو مأخوذ من الحَصْر.