التفاسير

< >
عرض

وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ
١٥٤
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ وَٱلْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمَوَالِ وَٱلأَنفُسِ وَٱلثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ ٱلصَّابِرِينَ
١٥٥
ٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّـآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ
١٥٦
أُولَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُهْتَدُونَ
١٥٧
-البقرة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ ٱللَّهِ أَمْوَاتٌ... } الآية: سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأُحُدٍ من المؤمنين: مَاتَ فلانٌ، ماتَ فلانٌ، فكره اللَّه سبحانه؛ أن تُحَطَّ منزلةُ الشهداءِ إِلى منزلة غيرهم، فنزلَتْ هذه الآية، وأيضاً: فإِن المؤمنين صَعْبٌ عليهم فراقُ إِخوانهم وقراباتِهِمْ، فنزلَتِ الآيةُ مسلِّية لهم، تعظِّم منزلة الشهداءِ، وتخبر عن حقيقةِ حالِهِمْ، فصاروا مغبوطين لا محزوناً لهم؛ ويظهر ذلك من حديث أُمِّ حارثَةَ في السِّيَرِ.

* ت *: وخرَّجه البخاريُّ في «صحيحه» عن أنسٍ، قال: "أُصِيبَ حارثةُ يوم بَدْر أصابه غَرْبُ سَهْمٍ، وهو غلامٌ، فجاءَتْ أُمُّهُ إِلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم فقالَتْ: يا رسُولَ اللَّهِ، قد عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي، فَإِنْ يَكُ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ، وَأَحْتَسِب، وَإِن تَكُن الأُخْرَىٰ، تَرَىٰ مَا أَصْنَعُ، فَقَالَ: وَيْحَكِ، أَوَ هُبِلْتِ، أَو جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هَيَ؛ إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأَعْلَىٰ..." الحديثَ. انتهى.

* ع: والفرق بين الشهيدِ وغيرهِ إِنما هو الرِّزْقُ، وذلك أنَّ اللَّه تعالَىٰ فضَّلهم بدوام حالِهِمُ التي كانَتْ في الدنيا فرزَقهُم.

* ت *: وللشهيدِ أحوالٌ شريفةٌ منها ما خرَّجه الترمذيُّ وابن ماجة عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ؛ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ، وَيَرَىٰ مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ، وَيُوضَعُ عَلَىٰ رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، ومَا فِيهَا، وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ الْعِينِ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقْرِبَائِهِ" . قال الترمذيُّ: هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ، زاد ابن ماجَة: "وَيُحَلَّىٰ حُلَّةَ الإِيمَانِ" ، قال القرطبيُّ في «تذكرته»: هكذا وقع في نسخ الترمذيِّ وابن ماجة: «ستَّ خِصَالٍ» وهي في متن الحديث سَبْعٌ، وعلى ما في ابن ماجة: «وَيُحَلَّىٰ حُلَّةَ الإِيمَانِ» تكون ثمانياً، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سَلْمَان النَّجَّاد بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: "لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ ثَمَانِ خِصَالٍ" انتهى. وخرَّج الترمذيُّ، والنسائِيُّ عنْه صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الشَّهِيدُ لاَ يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ القَرْصَةِ" انتهى.

* ع *: روي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ" ، وروي: "أَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ" ، ورويَ: "أنهم في قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ" ، إِلى كثير من هذا، ولا محالة أنها أحوالٌ لِطَوَائِفَ، أو للجميع في أوقات متغايرة.

* ت *: وكذا ذكر شَبِيبُ بن إِبراهيم في كتاب «الإِفصاح» أنَّ المنعَّمين على جهاتٍ مختلفةٍ؛ بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم، قال صاحب «التذكرة»: وهذا قول حَسَنٌ، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع. انتهى.

قال: * ع *: وجمهور العلماء علَىٰ أنهم في الجَنَّة؛ ويؤيِّده قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم لأمِّ حَارِثَةَ: «إِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأَعْلَىٰ».

وقال مجاهد: هم خارجُ الجَنَّةِ ويعلَّقون من شجرِهَا، وفي «مختصر الطبريِّ»، قال: ونهى عزَّ وجَلَّ أنْ يقال لِمَنْ يقتلُ في سبيلِ اللَّهِ أمْوَاتٌ، وأعْلَمَ سبحانه أنهم أحياءٌ، ولكنْ لا شعورَ لَنَا بذلك؛ إذ لا نُشَاهِدُ باطنَ أمرهم، وخُصُّوا مِنْ بين سائر المُؤمنين، بأنهم في البَرْزَخِ يرزَقُون من مطاعِم الجَنَّة ما يُرْزَقُ المؤمنون من أهْل الجنة علَىٰ أنه قد ورد في الحديثِ: "إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ" ، ومعنى: «يُعَلَّق»: يأكل؛ ومنه قوله: ما ذقْتُ عَلاقاً، أي: مأكلاً، فقد عم المؤمنين؛ بأنهم يرزقُونَ في البرزخ من رزق الجنة، ولكن لا يمتنعُ أن يخصَّ الشهداء من ذلك بقَدْر لا يناله غيرهم، واللَّه أعلم. انتهى.

وروى النسائيُّ "أن رجلاً قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ، مَا بَالُ المُؤْمِنِينَ يُفْتَنُون فِي قُبُورِهِمُ إِلاَّ الشَّهِيدَ؟ قَالَ: كَفَىٰ بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ عَلَىٰ رَأْسِهِ فِتْنَةً" . انتهى.

* ت *: وحديثُ: "إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ" خرَّجه مالك رحمه اللَّه. قال الدَّاووديُّ: وحديث مالكٍ، هذا أصحُّ ما جاء في الأرواح، والذي روي أنها تجعل في حواصِلِ طيرٍ لا يصحُّ في النقل. انتهى.

قال أبو عُمَرَ بْنُ عبْدِ البَرِّ في «التمهيد»: والأشبه قولُ من قال: كَطَيْرٍ أو كصُوَرِ طيرٍ؛ لموافقته لحديثِ «الموطَّإ»، هذا وأسند أبو عمر هذه الأحاديثَ، ولم يذكر مطعناً في إسنادها. انتهى.

ثم أعلمهم تعالَىٰ أن الدنيا دارُ بلاءٍ ومحنةٍ، ثم وعد على الصَّبْر، فقال: { وَلَنَبْلُوَنَّكُم } أي: نمتحنكم { بِشَيْءٍ مِّنَ ٱلْخَوْفِ }، أي: من الأعداء في الحروبِ، { وَنَقْصٍ مِّنَ ٱلأَمْوَالِ } أي بالجوانحِ، والمصائبِ، { وَٱلأَنفُسِ } بالموت، والقَتْل، { وَٱلثَّمَرٰتِ } بالعَاهَاتِ، والمرادُ بشيءٍ من هذا وشيءٍ من هذا، واكتفَىٰ بالأول إِيجازاً، ثم وصف سبحانه الصابرين الَّذين بشَّرهم بقوله: { ٱلَّذِينَ إِذَا أَصَـٰبَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ }، فجعل سبحانه هذه الكلماتِ ملجأً لذوي المصائبِ؛ لما جمعتْ من المعاني المباركةِ من توحِيدِ اللَّهِ سبحانه، والإِقرار له بالعبودية، والبعثِ من القبورِ، واليقينِ بأنَّ رجوع الأمر كلِّه إِليه؛ كما هو له، قال الفَخْرُ: قال أبو بَكْرٍ الوَرَّاق: { إِنَّا لِلَّهِ }: إقرارٌ منَّا له بالمُلْكِ، { وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعونَ } إِقرارٌ على أنفسنا بالهلاكِ.

واعلم أن قوله: { إِنَّا لِلَّهِ } يدلُّ علَىٰ كونه راضيًا بكلِّ ما نَزَلَ به، ووردَتْ أخبارٌ كثيرةٌ في هذا البابِ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، فمنِ ٱسترجَع عند المصيبة، جَبَر اللَّه مصيبته، وأحْسَنَ عقباه، وجعل له خَلَفاً صالحاً يرضَاهُ. انتهى.

ورُوِيَ: "أنَّ مَصْبَاحَ رسُولِ اللَّه صلى الله عليه وسلم ٱنْطَفَأَ ذَاتَ لَيْلَةٍ، فَقَالَ: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعُونَ }، فَقِيلَ: أَمُصِيبَةٌ هِيَ، يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ؛ كُلُّ مَا آذَى المُؤْمِنَ، فَهُوَ مُصِيبَةٌ" . قال النوويُّ: ورُوِّينَا في «كتاب ابن السُّنِّيِّ» عن أبي هريرة، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "ليسترجعْ أحدُكُمْ في كلِّ شيء، حتَّىٰ في شِسْعِ نَعْلِه؛ فَإِنها من المصائِبِ" . انتهى من «الْحِلْيَةِ».

وقوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَٰتٌ مِّن رَّبِّهِمْ... } الآية: نِعَمٌ من اللَّه تعالَىٰ على الصابرين المسترجعين، وصلوات اللَّه علَىٰ عبده: عفْوُهُ، ورحمتُه، وبركته، وتشريفه إِياه في الدنيا والآخرة، وكرَّر الرحْمَة، وهي من أعظم أجزاء الصلاة، لمَّا اختلف اللَّفْظ؛ تأكيداً منه تعالَىٰ وشهد لهم بالٱهتداء.

* ت *: وفي «صحيح البخاري»: وقال عُمَرُ: نِعْمَ العدلان، ونَعْمُ العِلاَوة الَّذين إذا أصابتهم مصيبةٌ، قالوا: { إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رٰجِعُونَ... } إلى { ٱلْمُهْتَدُونَ }، قال النوويُّ في «الحلية»: ورُوِّينا في سنن ابن ماجة، والبيهقيِّ بإِسناد حَسَنٍ عن عمرِو بْنِ حَزْمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَا مِنْ مُؤْمِنٍ يُعَزِّي أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ إِلاَّ كَسَاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ حُلَلِ الكَرَامَةِ يَوْم القِيَامَةِ" ، ورُوِّينا في كتاب الترمذيِّ، والسنن الكَبيِرِ للبيهقيِّ عن ابْنِ مسعودٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ عَزَّىٰ مُصَابًا، فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ" إِسناده ضعيف، ورُوِّينا في كتاب الترمذيِّ أيضاً عن أبي هريرة؛ عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ عَزَّىٰ ثَكْلَىٰ، كُسِيَ بِرِدَاءٍ فِي الجَنَّةِ" . قال الترمذيُّ ليس إِسناده بالقَوِيِّ. انتهى.