وقوله تعالى: { لَّيْسَ ٱلْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ ٱلْمَشْرِقِ وَٱلْمَغْرِبِ... } الآية: قال ابن عَبَّاس وغيره: الخِطَابُ بهذه الآية للمؤمنين، فالمعنَىٰ: ليس البرُّ الصلاةَ وحْدها، وقال قتادة، والربيع: الخطاب لليهودِ والنصارَىٰ؛ لأنهم تكلَّموا في تحويل القبلة، وفضَّلت كل فرقة تولِّيها، فقيلَ لهم: ليس البرَّ ما أنتم فيه، ولكنَّ البرَّ من آمن باللَّه.
وقوله تعالى: { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ... } الآيةَ: هذه كلُّها حقوقٌ في المال سوى الزكاةِ، قال الفَخْر: وروَتْ فاطمةُ بنْتُ قَيْسٍ، أنَّ فِي المَالِ حَقًّا سِوَى الزَّكَاةِ، وتَلاَ: { وَآتَى ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ... }، وعنه صلى الله عليه وسلم
"لاَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ مَنْ بَاتَ شَبْعَانَ، وَجَارُهُ طَاوِياً إِلَىٰ جَنْبِهِ" انتهى.قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: وإِذا وقع أداء الزكاة، ثم نزلَتْ بعد ذلك حاجةٌ، فإِنه يجبُ صرف المال إِليها بٱتفاقٍ من العلماءِ، وقد قال مالك: يجبُ على كافَّة المسلمين فِدَاءُ أسراهم، وإن ٱستغْرَقَ ذلك أموالَهُمْ، وكذلك إِذا منع الوالي الزكاةَ، فهل يجبُ على الأغنياء إِغناءُ الفقراء؟ الصحيحُ: وجوبُ ذلك علَيْهم. انتهى.
ومعنى: { أَتَىٰ }: أعطى علَىٰ حبِّه، أي: على حبِّ المال، ويحتملُ أن يعود الضميرُ على اسْمِ اللَّه تعالَىٰ من قوله: { مَنْ آمَنَ بِٱللَّهِ }، أي: من تَصَدَّقَ مَحَبَّة في اللَّه وطاعته.
* ص *: والظاهر أن الضمير في «حُبِّهِ» عائدٌ على «المال»؛ لأن قاعدتهم أن الضمير لا يعود علَىٰ غير الأقرب إِلاَّ بدليلٍ. انتهى. قال:
* ع *: والمعنَى المقصودُ أن يتصدَّق المرءُ في هذه الوجوهِ، وهو صحيحٌ شحيحٌ يخشَى الفَقْر، ويأمل الغنَىٰ؛ كما قال صلى الله عليه وسلم. والشحُّ؛ في هذا الحديث: هو الغريزيُّ الذي في قوله تعالَىٰ:
{ { وَأُحْضِرَتِ ٱلأَنفُسُ ٱلشُّحَّ } } [النساء:128] وليس المعنَى أنْ يكون المتصدِّق متَّصِفاً بالشحِّ الذي هو البُخْل. { وَفِي ٱلرِّقَابِ }، أي: العتق، وفَكّ الأسْرَىٰ.
{ وَٱلصَّـٰبِرِينَ }: نصبٌ على المدح، أو على إِضمار فعْلٍ، وهذا مَهْيَعٌ في تكرار النعوتِ.
و{ ٱلْبَأْسَآءِ }: الفَقْر والفاقة.
{ وَٱلضَّرَّاءِ }: المرض، ومصائبُ البدن، وعن ابن عبَّاس رضي اللَّه عنهما، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"أَوَّلُ مَنْ يُدْعَىٰ إِلَى الجَنَّةِ الَّذِينَ يَحْمَدُونَ اللَّهَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ" رواه الحاكم في «المستَدْرَكِ»، وقال: صحيحٌ على شرط مُسْلِمٍ. انتهى من «السلاح». وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن صُهَيْب، قال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم:
"عَجَباً لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ لَهُ خَيْرٌ، وَلَيْسَ ذَلِكَ لأِحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ، إِذَا أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ فَشَكَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ، فَكَانَ خَيْراً لَهُ" انتهى. { وَحِينَ ٱلْبَأْسِ }، أي: وقْتَ شدَّة القتال، هذا قولُ المفسِّرين في الألفاظ الثلاثة، تقولُ العربُ: بَئِسَ الرَّجُلُ إِذَا افتقر، وبَؤُسَ إِذا شَجُع، ثم وصف تعالَىٰ أهل هذه الأفعال البَرَّة بالصدْقِ في أمورهم، أي: هم عند الظنِّ بهم والرجاء فيهم؛ كما تقول: صَدَقَنِي المَالُ، وصَدَقَنِي الرُّمْحُ، ووصفهم تعالى بالتقَىٰ، والمعنَىٰ: هم الذين جَعَلُوا بينهم وبين عذاب اللَّه وقايةً.