وقوله تعالى: { ٱلْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَـٰتٌ } في الكلام حذفٌ، تقديره: أشهر الحج أشهرٌ أو وقتُ الحجِّ أشهر معلوماتٌ، قال ابن مسعود وغيره: وهي شوَّال، وذُو القَعْدة، وذو الحَجَّة كلُّه.
وقال ابن عبَّاس وغيره: هي شَوَّال، وذو القَعْدة، وعَشْرٌ من ذي الحجة، والقولان لمالكٍ - رحمه اللَّه - { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ ٱلْحَجَّ }، أي: ألزمه نفْسَهُ، وفرض الحج هو بالنيةِ والدخولِ في الإِحرام، والتلبيةُ تَبَعٌ لذلك، وقوله تعالى: { فِيهِنَّ }، ولم يجــىء الكلام «فيها»، فقال قوم: هما سواء في الاستعمال، وقال أبو عثمانَ المَازِنِيُّ: الجمعُ الكثيرُ لما لا يعقل يأتي كالواحدةِ المؤنَّثة، والقليلُ ليس كذلك، تقول: الأجذاعُ ٱنْكَسَرْنَ والجُذُوعُ ٱنْكَسَرَتْ، ويؤيد ذلك قوله تعالى:
{ { إِنَّ عِدَّةَ ٱلشُّهُورِ عِندَ ٱللَّهِ } [التوبة:36] ثم قال: { { مِنْهَآ } [التوبة:36]. وقوله تعالى: { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ... } الآية، وقرأ ابن كثيرٍ، وأبو عمرٍو: «فَلاَ رَفَثٌ وَلاَ فُسُوقٌ وَلاَ جِدَالَ»، بالرفع في الاثنين، ونصب الجدال، و «لا» بمعنى «لَيْسَ»، في قراءة الرفع، والرَّفَثُ الجماعُ في قول ابن عبَّاس، ومجاهد، ومالك، والفُسُوقُ قال ابن عبَّاس وغيره: هي المعاصِي كلُّها، وقال ابن زَيْد، ومالك: الفُسُوقُ: الذبْح للأصنام، ومنه قوله تعالَىٰ:
{ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ ٱللَّهِ بِهِ } }، [الأنعام:145] والأول أولَىٰ. قال الفَخْر: وأكثر المحقِّقين حملوا الفِسْقَ هنا على كل المعاصِي؛ قالوا: لأن اللفظ صالِحٌ للكلِّ ومتناولٌ له، والنهي عن الشيء يوجبُ الاِنتهاءَ عن جَميعِ أنواعه، فحمل اللفْظ على بعض أنواع الفسوقِ تحكُّم من غير دليل. انتهى.
قال ابن عباس وغيره: الجِدَالُ هنا: أن تماري مسلماً.
وقال مالك، وابن زَيْد: الجدالُ هنا أن يَخْتَلفَ الناسُ أيهم صادَفَ موقفَ إِبراهيمَ - عليه السلام -؛ كما كانوا يفعلون في الجاهلية، قُلْتُ: ومعنى الآية: فلا تَرْفُثُوا، ولا تفسُقُوا، ولا تجادلُوا؛ كقوله صلى الله عليه وسلم:
"وَالصَّوْمُ جُنَّةٌ، فَإِذَا كَانَ صَوْمُ أَحَدِكُمْ، فَلاَ يَرْفُثْ، وَلاَ يَصْخَبْ، فَإِنْ شَاتَمَهُ أَحَدٌ، أَوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ إِنِّي ٱمْرُؤٌ صَائِمٌ..." الحديث. انتهى. قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: قوله تعالى: { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ }، أراد نفيه مشروعاً، لا موجوداً، فإِنا نجد الرفَثَ فيه، ونشاهده، وخبَرُ اللَّه سبحانه لا يَقَعُ بخلافِ مخبره. انتهى.
قال الفَخْر: قال القَفَّال: ويدُخُل في هذا النهْيِ ما وقَعَ من بعضهم من مجادلة النبيِّ صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفَسْخِ الحَجِّ إِلى العمرة، فشَقَّ عليهم ذلك، وقالوا: «أنروحُ إِلَىٰ مِنَىٰ، ومَذَاكِيرُنَا تَقْطُرُ مَنِيًّا...» الحديث. انتهى.
وقوله تعالى: { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ }: المعنى: فيثيب عليه، وفي هذا تحضيضٌ على فعل الخير.
* ت *: وروى أُسَامَةُ بنُ زيدٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أَنَّهُ قَالَ:
"مَنْ صُنِعَ إِليْهِ مَعْرُوفٌ، فَقَالَ لِفَاعِلِهِ: جَزَاكَ اللَّهُ خَيْراً، فَقَدْ أَبْلَغَ فِي الثَّنَاءِ" رواه الترمذيُّ، والنَّسائي، وابنُ حِبَّانَ في «صحيحه» بهذا اللفظ. انتهى من «السلاح» ونحو هذا جوابُهُ صلى الله عليه وسلم للمهاجرينَ؛ حَيْثُ قَالُوا: «مَا رَأَيْنَا كَالأَنْصَارِ»، وأثنوا علَيْهم خيراً. وقوله سبحانه: { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ... } الآية: قال ابن عُمَرَ وغيره: نزلَتِ الآية في طائفةٍ من العرب، كانت تجـــيء إِلى الحج بلا زادٍ، ويبقون عالة على النَّاس، فأمروا بالتزوُّد، وقال بعض النَّاس: المعنَىٰ: تزوَّدوا الرفيقَ الصالحَ، وهذا تخصيصٌ ضعيفٌ، والأَولَىٰ في معنى الآية: وتزوَّدوا لمعادِكُمْ من الأعمال الصالحة، قُلْتُ: وهذا التأويلُ هو الذي صَدَّر به الفخْرُ وهو الظاهرُ، وفي قوله: { فَإِنَّ خَيْرَ ٱلزَّادِ ٱلتَّقْوَىٰ } حضٌّ على التقوَىٰ.