التفاسير

< >
عرض

يَٰـأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ
٢١
ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَٰشاً وَٱلسَّمَاءَ بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَآءِ مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ ٱلثَّمَرَٰتِ رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ
٢٢
وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَٱدْعُواْ شُهَدَآءَكُم مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَٰدِقِينَ
٢٣
فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَٰفِرِينَ
٢٤
-البقرة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

قوله تعالَىٰ: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ... } الآيَةَ: «يَا»: حرفُ نداءٍ، وفيه تنبيهٌ، و «أَيُّ» هو المنادَىٰ، قال مجاهد: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ } حيث وقع في القرآن مَكِّيٌّ، و { يـَٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } مدنيٌّ.

قال: * ع *: قد تقدَّم في أول السورة؛ أنها كلها مدنية، وقد يجـيء في المَدَنِيِّ: { يَـٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ }.

وأما قوله في: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ } فصحيح.

{ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ }: معناه: وحِّدوه، وخصوه بالعبادة، وذكر تعالى خلقه لهم؛ إِذ كانت العرب مقرة بأن اللَّه خلقها، فذكر ذلك سبحانه حجةً عليهم، ولعل في هذه الآية قال فيها كثيرٌ من المفسِّرين: هي بمعنى إيجاب التقوَىٰ، وليست من اللَّه تعالَىٰ بمعنى ترجٍّ وتوقُّع، وفي «مختصر الطَّبَرِيِّ»: { لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } عن مجاهد، أي: لعلَّكم تطيعون، والتقوَى التوقِّي من عذاب اللَّه بعبادته، وهي من الوقاية، وأما «لَعَلَّ» هنا، فهي بمعنى «كَيْ» أو «لامِ كَيْ»، أي: لتتقوا، أوْ لكَيْ تتقوا، وليست هنا من اللَّه تعالَىٰ بمعنى الترجِّي، وإنما هي بمعنى كَيْ، وقد تجـيء بمعنى «كَيْ» في اللغة؛ قال الشاعر: (الطويل)

وَقُلْتُمْ لَنَا كُفُّوا الحُرُوبَ لَعَلَّنَانَكُفُّ وَوَثَّقْتُمْ لَنَا كُلَّ مَوْثِقِ

انتهى.

قال: * ع *: وقال سيبويه: ورؤساءُ اللِّسَان: هي على بابها، والترجِّي والتوقُّع إنما هو في حيز البشر، أي: إذا تأملتم حالكم مع عبادة ربكم، رجَوْتُمْ لأنفسكم التقوَىٰ، و «لَعَلَّ»: متعلِّقة بقوله: «ٱعْبُدُوا»، ويتجه تعلُّقها بـ «خَلَقَكُمْ» أي: لَمَّا وُلِدَ كلُّ مولود على الفطرة، فهو إِن تأمله متأمِّل، توقَّع له ورجا أن يكون متقياً، و «تَتَّقُونَ»: مأخوذ من الوقاية، وجعل بمعنى «صَيَّرَ» في هذه الآية؛ لتعدِّيها إِلى مفعولين، و «فِرَاشاً» معناه: تفترشونها، و «السَّمَاء» قيل: هو اسم مفرد، جمعه سماوات، وقيل: هو جمعٌ، واحده سَمَاوَة، وكلُّ ما ارتفع عليك في الهواء، فهو سماء، { وَأَنزَلَ مِنَ ٱلسَّمَاءِ } يريد السحاب، سمي بذلك تجوُّزاً؛ لَمَّا كان يلي السماء، وقد سَمَّوُا المطر سماءً للمجاورة؛ ومنه قول الشاعر: [الوافر]

إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بأَرْضِ قَوْمٍ رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا

فتجوز أيضاً في «رَعَيْنَاهُ».

وواحد الأنداد نِدٌّ، وهو المقاوم والمضاهي، واختلف المتأوِّلون من المخاطب بهذه الآية، فقالتْ جماعة من المفسِّرين: المخاطَبُ جميع المشركين، فقوله سبحانه على هذا: { وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } يريد العلم الخاصَّ في أنه تعالَىٰ خلق، وأنزل الماء، وأخرج الرزق، وقيل: المراد كفَّار بني إسرائيل، فالمعنى: وأنتم تعلَمُون من الكتب التي عندكم أنَّ اللَّه لا ندَّ له، وقال ابنْ فُورَكَ: يحتمل أن تتناول الآية المؤمنين.

قوله تعالى: { وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ }، أي: في شكٍّ، { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ }: الضمير في «مِثْلِهِ» عند الجمهور: عائد على القرآن، { وَٱدْعُواْ شُهَدَاءَكُم }، أي: مَنْ شهدكم وحضركم من عون ونصير؛ قاله ابنُ عَبَّاس: { إِن كُنتُمْ صَـٰدِقِينَ }، أي: فيما قلتم من أنَّكم تقدرون على معارضته. ويؤيِّد هذا القول ما حكي عنهم في آية أخرى: { { لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَـٰذَا } [الأنفال:31]، وفي قوله جل وعلا: { وَلَنْ تَفْعَلُواْ } إِثَارةٌ لِهِمَمِهِمْ، وتحريكٌ لنفوسهم؛ ليكون عجزهم بعد ذلك أبدع، وهو أيضاً من الغيوب التي أخبر بها القرآن.

وقوله تعالَىٰ: { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ }: أمر بالإيمانِ وطاعةِ اللَّه، قال الفَخْر ولما ظهر عجزهم عن المعارضة، صح عندهم صدق النبيِّ صلى الله عليه وسلم وإِذا صح ذلك، ثم لزموا العناد، استوجبوا العقاب بالنار، واتقاءُ النار يوجب ترك العناد؛ فأقيم قوله: { فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ } مُقَامَ قوله: «وَٱتْرُكُوا العِنَادَ»، ووصف النار بأنها تتقد بالناس والحجارة؛ وذلك يدلُّ على قوتها، نجَّانا اللَّه منها برحمته الواسعة.

وقرَنَ اللَّه سبحانه النَّاسَ بالحجارة؛ لأنهم اتخذوها في الدنيا أصناماً يعبدونها؛ قال تعالَىٰ: { { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ ٱللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [الأنبياء:98] فإحدى الآيتين مفسِّرة للأخرى، وهذا كتعذيب مانعي الزكاة بنوعِ ما منعوا، انتهى.