التفاسير

< >
عرض

أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ ٱللَّهُ ٱلْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ ٱلَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ ٱللَّهَ يَأْتِي بِٱلشَّمْسِ مِنَ ٱلْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ ٱلْمَغْرِبِ فَبُهِتَ ٱلَّذِي كَفَرَ وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّالِمِينَ
٢٥٨
أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ ٱللَّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَٱنْظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَٱنْظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَٱنْظُرْ إِلَى ٱلعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ ٱللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٥٩
-البقرة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

قوله تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَاجَّ إِبْرَٰهِيمَ فِي رِبِّهِ... } الآية: { أَلَمْ تَرَ }: تنبيهٌ، وهي رؤية القَلْب، والَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ، هو نُمْرَوذُ بْنُ كَنْعَانَ مَلِكُ زمانه، وصاحبُ النَّار، والبَعُوضَةِ، قاله مجاهد وغيره، قال قتادة: هو أولُ من تجبَّر، وهو صاحبُ الصَّرْح بِبَابِلَ، قيل: إِنه مَلكَ الدُّنْيَا بأجمعها، وهو أحد الكَافِرَيْنِ، والآخر بُخْتَ نَصَّرَ، وقيل: إِن النُّمْرُوذَ الذي حاجَّ إِبراهيم هو نُمْرُوذُ بْنُ فَالخ، وفي قصص هذه المحاجَّة روايتان.

إحداهما: ذكر زيْد بن أسْلم أنَ النُّمْروذ هذا قَعَدَ يأمر للنَّاس بالميرة، فكلَّما جاء قومٌ، قال: مَنْ رَبُّكُمْ وَإِلَهُكِمْ، فيقولُونَ: أَنْتَ، فيقولُ: مِيرُوهُمْ، وجاء إِبراهيم - عليه السلام -، يَمْتَارُ، فَقَالَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ وَإِلَهُكَ؟ قَالَ إِبْرَاهِيمُ: رَبِّي الَّذِي يُحْيِـــي وَيُمِيتُ، فَلَمَّا سَمِعَهَا نُمْرُوذُ، قَالَ: أَنَا أُحْيِـــي وَأُمِيتُ، فَعَارَضَهُ إِبْرَاهِيمُ بِأَمْرِ الشَّمْسِ؛ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ، وَقَالَ: لاَ تُمِيرُوهُ، فَرَجَعَ إِبْرَاهِيمُ إِلَى أَهْلِهِ دُونَ شَيْءٍ، فَمَرَّ عَلَىٰ كَثِيبٍ رَمْلٍ؛ كَالدَّقِيقِ، فَقَالَ: لَوْ مَلأْتُ غَرَارَتِي مِنْ هَذَا، فَإذَا دَخَلْتُ بِهِ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ؛ حَتَّىٰ أَنْظُرَ لَهُمَا، فَذَهَبَ بِذَلِكَ، فَلَمَّا بَلَغَ مَنْزِلَهُ، فَرِحَ الصِّبْيَانُ، وَجَعَلاَ يَلْعَبَانِ فَوْقَ الغِرَارَتَيْنِ، وَنَامَ هُوَ مِنَ الإِعْيَاءِ، فَقَالَتِ ٱمْرَأَتُهُ: لَوْ صَنَعْتُ لَهُ طَعَاماً يَجِدُهُ حَاضِراً، إِذَا ٱنْتَبَهَ، فَفَتَحَتْ إِحْدَى الْغِرَارَتَيْنِ، فَوَجَدَتْ أَحْسَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الحَوَارِيِّ، فَخَبَزَتْهُ، فَلَمَّا قَامَ، وَضَعَتْهُ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَقَالَ: مِنْ أَيْنَ هَذَا؟ قَالَتْ: مِنَ الدَّقِيقِ الَّذِي سُقْتَ، فَعَلِمَ إِبْرَاهِيمُ؛ أنَّ اللَّه يسَّر لَهُمْ ذَلِكَ.

وقال الربيعُ وغيره في هذا القصص: إِن النُّمروذَ لَمَّا قال: أنَا أُحْيِـــي وأُمِيتُ، أَحْضَرَ رَجُلَيْنِ، فَقَتَل أحَدَهُمَا، وأَرْسَلَ الآخَرَ، وقَالَ: قَدْ أحْيَيْتُ هَذَا، وأَمَتُّ هذا، فردَّ علَيْهِ إِبراهيمُ بأمْرِ الشمْسِ.

والروايةُ الأخرَىٰ: ذكر السُّدِّيُّ؛ أنه لما خَرَجَ إِبراهيمُ من النَّار، وأُدْخِلَ على المَلِكِ، قالَ له: مَنْ ربُّكَ؟ قَالَ: ربِّيَ الَّذِي يُحْيِـــي ويُمِيتُ.

يقالُ: بُهِتَ الرَّجُلُ، إِذا انقطعَ، وقامَتْ عليه الحُجَّةُ.

وقوله تعالى: { وَٱللَّهُ لاَ يَهْدِي ٱلْقَوْمَ ٱلظَّـٰلِمِينَ }: إِخبارٌ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم وأمته، والمعنَىٰ: لا يرشدهم في حججهم على ظُلْمهم، وظاهر اللفْظ العمومُ، ومعناه الخصوصُ؛ لأنَّ اللَّه سبحانه قد يَهْدي بعْضَ الظالمينَ بالتَّوْبة والرجوع إِلى الإِيمان.

قوله تعالى: { أَوْ كَٱلَّذِي مَرَّ عَلَىٰ قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا... } الآية: عطفت «أوْ» في هذه الآية على المعنى الَّذِي هو التعجُّب في قوله: { أَلَمْ تَرَ إِلَى ٱلَّذِي حَاجَّ }.

قال ابن عبَّاس وغيره: الذي مَرَّ على القَرْيَة هو عُزَيْرٌ، وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ وغيره: هو أَرْمِيَا، قال ابن إِسحاق: أَرْمِيَا هو الخَضِرُ، وحكاه النَّقَّاش عن وهْب بن منَبِّه.

وٱختلف في القَرْيَةِ، مَا هِيَ؟ فقِيلَ: المُؤْتَفِكَةُ، وقال زيْدُ بن أسلم: قريةُ الَّذين خَرَجُوا مِنْ ديارهم، وهم أُلُوفٌ، وقال وهْبُ بن مُنَبِّهٍ، وقتادة، والضَّحَّاك، والرَّبيع، وعِكْرِمَة هي بَيْت المَقْدِسِ، لما خرَّبها بُخْتَ نَصَّرُ البابليُّ، والعَرِيشُ: سقْف البيتِ، قال السُّدِّيُّ: يقول: هي ساقطةٌ علَىٰ سَقْفِها، أي: سقطت السقْف، ثم سقطت الحيطانُ عليها، وقال غيره: معناه: خاوية من الناس، وخاوية: معناه: خاليةٌ؛ يقال: خَوَتِ الدَّارُ تَخْوِي خَوَاءً وخُوِيًّا، ويقال: خويت، قال الطبريُّ: والأول أفْصَحُ، قال:* ص *: { وَهِيَ خَاوِيَةٌ } في موضع الحالِ من فَاعِلِ «مَرَّ» أو من «قَرْيَةٍ» و { عَلَىٰ عُرُوشِهَا }: قيل: على بابِهَا، والمعنَىٰ: خاويةٌ من أهلها، ثابتةٌ علَىٰ عروشها، والبُيُوت قائمةٌ، والمَجْرور علَىٰ هذا يتعلَّق بمحذوفٍ، وهو ثابتةٌ، وقيل: يتعلَّق بـــ «خَاوِيَة» والمعنى: وقعتْ جُدُرَاتُهَا علَىٰ سقوفها بعْد سُقُوط السقوفِ. انتهى، وقد زدنا هذا المعنى وضوحاً في سورة الكهف، واللَّه الموفِّق بفضله.

وقوله: { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا }: ظاهر اللفظ السؤَالُ عن إِحياءِ القَرْيَة بعمارةٍ أو سُكَّانٍ، فكأنَّ هذا تلهُّفٌ من الواقِفِ المعتبر علَىٰ مدينة أحبَّته، ويحتمل أنْ يكونَ سؤاله إِنما كانَ عن إِحياء الموتَىٰ، فضرب له المَثَل في نَفْسه، وحكى الطبريُّ عن بعضهم؛ أنَّ هذا القَوْلَ منه شك في قدرة اللَّه على الإِحياء؛ قال: * ع *: والصواب ألاَّ يتأول في الآية شكٌّ، وروي في قصص هذه الآية؛ أنَّ بني إِسرائيل، لَمَّا أحدثوا الأحدَاثَ، بعث اللَّه عليهم بُخْتَ نَصَّرَ، فقتَلَهُم، وجَلاَهم من بْيتِ المَقْدِسِ، وخرَّبه، فلَمَّا ذهب عنه، جاء عُزَيْرٌ أَوْ أزمِيَّا، فوقَف على المدينة معتبراً، فقال: { أَنَّىٰ يُحْيِـي هَـٰذِهِ ٱللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا }؛ فأماته اللَّه تعالَىٰ، وكان معه حمارٌ قد رَبَطَهُ بحَبْلٍ جديدٍ، وكان معه سَلَّة فيها تِينٌ هو طعامه، وقيل: تِينٌ وعِنَبٌ، وكانتْ معه رِكْوة من خَمْر، وقيل: من عصيرٍ، وقيل: قُلَّة من ماءٍ هي شرابُهُ، وبقي ميتاً مائةَ عامٍ، فروي أنَّه بَلِيَ، وتفرَّقت عظامه هو وحمارُهُ، وروي أنَّ الحمار بَلِيَ، وتفرَّقت أوصاله، دون عُزَيْرٍ.

وقوله تعالى: { ثُمَّ بَعَثَهُ }: معناه: أحياه، فسأله اللَّه تعالَىٰ بوسَاطَةِ المَلَكِ، كَمْ لَبِثْتَ؛ علَىٰ جهة التقرير، فقال: { لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }، قال ابن جُرَيْج، وقتادة، والربيع: أماته اللَّه غدوة يَوْمٍ، ثم بعثه قُرْبَ الغروبِ، فظنَّ هو اليومَ واحداً، فقال: لَبِثْتُ يوماً، ثم رأى بَقِيَّةً مِن الشمْسِ، فَخَشِيَ أنْ يكون كاذباً، فقال: { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ }، فقيل له: { بَل لَّبِثْتَ مِاْئَةَ عَامٍ }.

وقوله تعالى: { فَٱنظُرْ إِلَىٰ طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ }، أي: لم يتغيَّر.

* ت *: قال البخاريُّ في «جامعه»: { يَتَسَنَّهْ }: يتغيَّر.

وأمَّا قوله تعالى: { وَٱنظُرْ إِلَىٰ حِمَارِكَ }، فقال وهْبُ بن منَبِّه وغيره: المعنى: ٱنظر إِلى ٱتصالِ عظامِهِ، وإِحيائه جُزْءاً جُزْءاً، ويروَىٰ؛ أنه أحياه اللَّهُ كذلك؛ حتى صار عظَاماً ملتئِمَةً، ثم كساه لَحْماً، حتَّىٰ كمل حماراً، ثم جاء ملَكٌ، فنفَخَ في أنْفِهِ الرُّوح، فقام الحمارُ ينْهَقُ.

ورُوِيَ عن الضَّحَّاكِ، ووهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أيضاً؛ أنهما قالا: بل قيلَ لَهُ: وٱنظر إِلَىٰ حمارك قائماً في مربطه، لم يُصِبْهُ شيء مِائَةَ سَنَةٍ، قالا: وإِنما العظامُ التي نَظَر إِلَيْها عظامُ نَفْسِهِ، وأعمى اللَّه العُيُون عنه، وعن حِمَاره طُولَ هذه المُدَّة، وكَثَّر أهْلُ القصص في صورة هذه النَّازلة تَكْثيراً ٱختصرتُهُ، لعدم صحته.

وقوله تعالى: { وَلِنَجْعَلَكَ ءَايَةً لِّلنَّاسِ }،

قال: * ع *: وفي إِمَاتَتِهِ هذه المُدَّةَ، ثم إِحيائِهِ - أعظمُ آية، وأمره كلّه آية للناس غابر الدهر.

* ت *: قال ابن هِشَامٍ: لا يصحُّ ٱنتصابُ «مِائَة» بـــ «أَمَاتَهُ»؛ لأن الإِماتة سلْبُ الحياة، وهي لا تمتدُّ، وإِنما الوجْهُ أنْ يضمَّن «أَمَاتَهُ» معنى «أَلْبَثَهُ»، فكأنه قيلَ: فألبثه اللَّه بالمَوْت مِائَةَ عامٍ؛ وحينئذٍ يتعلَّق به الظرف. انتهى من «المُغْنِي».

ومعنى «نُنْشِرُهَا»، أي: نُحْيِيها، وقرأ حمزةُ وغيره: «نُنْشِزُهَا» ومعناه: نرفعها، أي: ٱرتفاعاً قليلاً قليلاً؛ فكأنه وَقَفَ علَىٰ نباتِ العظامِ الرُّفَاتِ، وقال النَّقَّاشُ: نُنْشِزُهَا: معناه: نُنْبِتُهَا، ومِنْ ذلك: نَشَزَ نَابُ البَعِيرِ.

وقوله تعالى: { فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ }: المعنى: قال هو: أَعلَمُ أنَّ اللَّه علَىٰ كلِّ شيء قديرٌ، وهذا عنْدي لَيْسَ بإِقرار بما كان قَبْلُ يُنْكِرُهُ؛ كما زعم الطبريُّ، بل هو قولٌ بَعَثَهُ الاعتبارُ؛ كما يقول الإِنسان المؤمن، إِذا رأى شيئاً غريباً مِنْ قدرةِ اللَّهِ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ، ونحْو هذا.

وأما قراءة حمزةَ والكسائي: «قال ٱعْلَمْ»ـ موصولةَ الألفِ، ساكنةَ الميمِ، فتحتمل وجهيْن:

أحدهما: قال المَلَكُ له: ٱعْلَمْ، وقد قرأ ابن مسعود، والأعمشُ: «قِيلَ ٱعْلَمْ».

والوجه الثاني: أنْ يُنَزِّلَ نفسه منزلةَ المُخَاطَبِ الأجنبيِّ المُنْفَصِلِ، أي: قال لنفسه: ٱعْلَمْ، وأمثلةُ هذا كثيرةٌ.