التفاسير

< >
عرض

أُولَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلآخِرَةِ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ
٨٦
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بِٱلرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ٱبْنَ مَرْيَمَ ٱلْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ ٱلْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَىٰ أَنْفُسُكُمْ ٱسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ
٨٧
وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَل لَّعَنَهُمُ ٱللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ
٨٨
-البقرة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ ٱشْتَرَوُاْ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا بِٱلأَخِرَةِ... } الآية: جعل اللَّه ترك الآخرةِ، وأخْذَ الدنيا عوضاً عنها، مع قدرتهم على التمسُّك بالآخرة - بمنزلة من أخذها، ثم باعها بالدنيا، { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ ٱلْعَذَابُ }، في الآخرة، { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ }؛ لا في الدنيا، ولا في الآخرة.

* ص *: { وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا مُوسَىٰ ٱلْكِتَـٰبَ }: «اللام» في «لَقَدْ»: يحتمل أن تكون توكيداً، ويحتمل أن تكون جواب قسم، وموسَىٰ هو المفعول الأول، والكتاب الثانِي، وعكس السُّهَيْلِيُّ.

و { مَرْيَمَ }: معناه في السُّرْيانية: الخَادَم، وسميت به أمُّ عيسَىٰ، فصار علماً عليها. انتهى.

و { ٱلْكِتَـٰبَ }: التوراةُ.

{ وَقَفَّيْنَا }: مأخوذ من القَفَا؛ تقول: قَفَيْتُ فُلاَناً بِفُلاَنٍ، إِذا جئْتَ به من قبل قَفَاه، ومنه: قَفَا يَقْفُو، إِذا اتبع، وكلُّ رسول جاء بعد مُوسَىٰ، فإِنما جاء بإِثبات التوراة، والأمر بلزومها إلى عيسَى - عليهم السلام -.

و { ٱلْبَيِّنَـٰتِ }: الحججُ التي أعطاها اللَّه عيسَىٰ.

وقيل: هي آياته من إحياء، وإبراء، وخَلْق طَيْرٍ، وقيل: هي الإِنجيل، والآية تعم ذلك.

{ وَأَيَّدْنَـٰهُ }: معناه: قويْناه، والأَيْدُ القوة.

قال ابن عبَّاس: { رُوح ٱلْقُدُسِ }: هو الاسم الذي كان يُحْيِـــي به الموتَىٰ، وقال ابن زِيْد: هو الإِنجيل؛ كما سمَّى اللَّه تعالَى القرآن رُوحاً، وقال السُّدِّيُّ، والضَّحَّاك، والربيع، وقتادة: { رُوحُ ٱلْقُدُسِ }: جبريلُ - عليه السلام -؛ وهذا أصحُّ الأقوال، "وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم لِحَسَّان: ٱهْجُ قُرَيْشاً، وَرُوحُ القُدُسِ مَعكَ" ومرةً قال له: "وَجِبْرِيلُ مَعَكَ" ، و { كُلَّمَا }: ظرف؛ والعامل فيه: { ٱسْتَكْبَرْتُمْ }، وظاهر الكلامِ الاستفهامُ، ومعناه التوبيخُ؛ روي أن بني إِسرائيل كانوا يقتلون في اليومِ ثلاثمائة نبيٍّ، ثم تقوم سوقُهم آخر النهار، وروي سبعين نبيًّا، ثم تقومُ سوق بَقْلِهِمْ آخر النهار.

والهَوَىٰ أكثر ما يستعمل فيما ليس بحقٍّ، وهو في هذه الآية من ذلك؛ لأنهم إنما كانوا يَهْوَوْنَ الشهوات، ومعنَىٰ: { قُلُوبُنَا غُلْفٌ }، أي: عليها غشاواتٌ، فهي لا تفقه، قال ابن عبَّاس. ثم بيَّن تعالَىٰ سبب نُفُورهم عن الإِيمان إِنما هو أنهم لُعِنُوا بما تقدَّم من كفرِهِم وٱجترامِهِمْ، وهذا هو الجزاء على الذنْبِ بذنْب أعظم منه، واللعن: الإبعاد والطرد.

و { قَلِيلاً }: نعتٌ لمصدرٍ محذوفٍ، تقديره: فإِيماناً قَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ، والضميرُ في «يُؤْمِنُونَ» لحاضري محمَّد صلى الله عليه وسلم منْهُمْ؛ ومَا في قوله: { مَّا يُؤْمِنُونَ } زائدةٌ موكِّدَة.