التفاسير

< >
عرض

لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ
٢٩
قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ إِنَّ ٱللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ
٣٠
وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِيۤ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَآئِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ ٱلتَّابِعِينَ غَيْرِ أُوْلِي ٱلإِرْبَةِ مِنَ ٱلرِّجَالِ أَوِ ٱلطِّفْلِ ٱلَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُواْ عَلَىٰ عَوْرَاتِ ٱلنِّسَآءِ وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوۤاْ إِلَى ٱللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَ ٱلْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٣١
-النور

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ... } الآية: أباح سبحانه في هذه الآية رفعَ الاستئْذان في كُلِّ بيت لا يسكنه أحد؛ لأَنَّ العِلَّةَ في الاستئذان خوفُ الكشفة على المُحَرِّمَاتِ، فإذا زالت العِلَّةُ زال الحكم، وباقي الآية بَيِّنٌ ظاهر التوعد، وعن مالك رحمه اللّه: أَنه بلغه أَنَّهُ كان يُسْتَحَبُّ إذا دخل البيتَ غيرَ المسكون أَنْ يقول، الذي يدخله: السَّلاَمُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللّهِ الصَّالِحِينَ، انتهى، أخرجه في «المُوَطَّإِ».

وقوله تعالى: { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ } أظهر ما في { مِنْ } أَنْ تكون للتبعيض، لأَنَّ أول نظرة لا يملكها الإنسانُ؛ وإنَّما يَغُضُّ فيما بعد ذلك، فقد وقع التبعيض بخلاف الفروج؛ إذ حفظُها عامٌّ لها، والبصر هو الباب الأكبر إلى القلب، وبحسب ذلك كثر السقوط من جهته، ووجب التحذيرُ منه، وحفظُ الفرج هو عن الزنا وعن كشفه حيث لا يحل.

قلت: النواظر صوارمُ مشهورة فاغمدها في غِمْدِ الغَضِّ والحياء مِنْ نظر المولى وإلاَّ جرحك بها عَدُوُّ الهوى، لا ترسلْ بريد النظر فيجلبَ لقلبك رَدِيءَ الفكر، غُضُّ البصرِ يُورِثُ القلب نوراً، وإطلاقُه يَقْدَحُ في القلب ناراً، انتهى من «الكلم الفارقية في الحكم الحقيقية».

قال ابن العربيِّ في «أحكامه»: قوله تعالى: { ذٰلِكَ أَزْكَىٰ لَهُمْ } يريد: أطهر وأنمى، يعني: إذا غَضَّ بصره كان أطهرَ له من الذنوب وأَنمى لعمله في الطاعة.

قال ابن العربي: ومِنْ غَضَّ، البصر: كَفُّ التطلع إلى المُبَاحَاتِ من زينة الدنيا وجمالِها؛ كما قال اللّه تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: { { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوٰجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ ٱلْحَيَوٰةِ ٱلدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَىٰ } [طه:131]. يريد ما عند اللّه تعالى، انتهى.

وقوله تعالى: { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَـٰتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَـٰرِهِنَّ... } الآية: أمر اللّه تعالى النساء في هذه الآية بِغَضِّ البصر عن كل ما يُكْرَهُ ـــ من جهة الشرع ـــ النظرُ إليه، وفي حديث أُمِّ سلمةَ قالت: كُنْتُ أنا وعائشةُ عند النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَدَخَلَ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "احْتَجِبْنَ، فَقُلْنَ: إنَّهُ أَعْمَىٰ فَقَالَ صلى الله عليه وسلم: أَفَعَمْيَاوَانِ أَنْتُمَا" و{ من } الكلام فيها كالتي قبلها.

قال ابن العربي في «أحكامه»: وكما لا يَحِلُّ للرجل أن ينظر إلى المرأة، لا يحل للمرأة أَنْ تنظر إلى الرجلِ، فإنَّ عَلاَقَتَهُ بها كعلاقتها به، وقصدَه منها كقصدها منه، ثم استدل بحديث أُمِّ سلمة المتقدم، انتهى. وحفظ الفرج يَعُمُّ الفواحش، وسترَ العورة، وما دون ذلك مِمَّا فيه حفظ، ثم أَمر تعالى بأَلاَّ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إلاَّ ما يظهر من الزينة؛ قال ابن مسعود: ظاهر الزينة: هو الثياب.

وقال ابن جبير وغيره: الوجه والكَفَّانِ والثيابُ.

وقيل: غير هذا.

قال: زينتها * ع *: ويظهر لي بحكم ألفاظ الآية أَنَّ المرأة مأمورة بأَلاَّ تبديَ، وأَنْ تجتهدَ في الإخفاء لكل ما هو زينة، ووقع الاستثناء في كُلِّ ما غلبها، فظهر بحكم ضرورة حركة فيما لا بُدَّ منه أو إصلاح شأن، فما ظهر على هذا الوجه فهو المَعفُوُّ عنه، وذكر أبو عمر: الخلاف في تفسير الآية كما تقدم؛ قال ورُوِيَ عن أبي هريرة في قوله تعالى: { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } قال: القُلْبُ والفتخة.

قال جرير بن حازم: القُلْبُ: السِّوَارُ، والفتخة: الخاتم، انتهى من «التمهيد».

وقوله تعالى: { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَىٰ جُيُوبِهِنَّ }.

قال ابن العربي: الجيب هو الطَّوْقُ، والخمار: هو المِقْنَعَة, انتهى.

قال * ع *: سبب الآية أَنَّ النساء كُنَّ في ذلك الزمان إذا غَطَّيْنَ رؤوسهنَّ بالأخمرة سَدَلْنَهَا من وراء الظهر؛ فيبقى النَّحْرُ والعُنُقُ والأُذُنَانِ لا سِتْرَ على ذلك، فأمر اللّه تعالى بِلَيِّ الخمار على الجيوب، وهَيْئَةُ ذلك يستر جميعَ ما ذكرناه، وقالت عائشة - رضي اللّه عنها - رَحِمَ اللّهُ المُهَاجِرَاتِ الأُوَلَ؛ لمَّا نزلت هذه الآية عَمَدْنَ إلى أكثف المروط فشققنها أخمرةً، وضربن بها على الجيوب.

وقوله سبحانه: { أَو نِسائِهن } يعني جميع المؤمنات، ويخرج منه نساء المشركين، وكتب عمر إلى أبي عبيدةَ بن الجراح أَنْ يمنع نساءَ أهل الذِّمَّةِ أَنْ يدخلنَ الحَمَّامَ مع نساء المسلمين فامتثل.

وقوله سبحانه: { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَـٰنُهُنَّ } يدخل فيه الإماءُ الكتابِيَّاتُ والعبيد.

وقال ابن عباس وجماعة: لا يدخل العبد على سَيِّدته فيرى شعرها إلاَّ أن يكون وغْداً.

وقوله تعالى: { أَوِ ٱلتَّـٰبِعِينَ } يريد الأتباع لِيُطْعَمُوا، وهم فُسُولُ الرجال الذين لا إرْبَةَ لهم في الوَطْءِ، ويدخل في هذه الصنيفة: المَجْبُوبُ، والشيخ الفاني، وبعضُ المَعْتُوهِينَ، والذي لا إرْبَةَ له من الرجال قليلٌ، والإربة: الحاجة إلى الوطء، والطفل اسم جنس، ويقال: طفل ما لم يُراهِقِ الحُلُمِ، و { يَظْهَرُواْ } معناه: يَطَّلِعُوا بالوطء.

وقوله تعالى: { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ... } الآية، قيل: سببها أَنَّ امرأة مَرَّتْ على قوم فضربت برجلها الأرض فَصَوَّتَ الخَلْخَالُ، وسماعُ صوت هذه الزينة أَشَدُّ تحريكاً للشهوة من إبدائها؛ ذكره الزَّجَّاجُ، ثم أمر سبحانه بالتوبة مُطْلَقَةً عَامَّةٍ من كل شيء صغير وكبير.