التفاسير

< >
عرض

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَاتِ مِنَ ٱلنِّسَاءِ وَٱلْبَنِينَ وَٱلْقَنَاطِيرِ ٱلْمُقَنْطَرَةِ مِنَ ٱلذَّهَبِ وَٱلْفِضَّةِ وَٱلْخَيْلِ ٱلْمُسَوَّمَةِ وَٱلأَنْعَامِ وَٱلْحَرْثِ ذٰلِكَ مَتَاعُ ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَٱللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ ٱلْمَآبِ
١٤
قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ لِلَّذِينَ ٱتَّقَوْا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا ٱلأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ بَصِيرٌ بِٱلْعِبَادِ
١٥
ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ
١٦
ٱلصَّابِرِينَ وَٱلصَّادِقِينَ وَٱلْقَانِتِينَ وَٱلْمُنْفِقِينَ وَٱلْمُسْتَغْفِرِينَ بِٱلأَسْحَارِ
١٧
-آل عمران

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ ٱلشَّهَوَٰتِ... } الآيةُ هذه الآيةُ ابتداءُ وعظٍ لجميع الناس، وفي ضمن ذلك توبيخٌ، والشهواتُ ذميمةٌ، وٱتباعها مُرْدٍ، وطاعتها مَهْلَكَةٌ، وقد قال صلى الله عليه وسلم: "حُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ، وَحُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمَكَارِهِ" ، فَحَسْبُكَ أَنَّ النَّارَ حُفَّتْ بِهَا، فمَنْ واقعها، خلص إِلى النَّار، قلْتُ: وقد جاءت أحاديثٌ كثيرةٌ في التزْهِيدِ في الدنيا، ذكَرْنا من صحيحها وحَسَنِهَا في هذا المُخْتَصَرِ جملةً صالحةً لا توجد في غيره من التَّفَاسير، فعلَيْكَ بتحصيله، فتَطَّلعَ فيه على جواهرَ نفيسةٍ، لا توجَدُ مجموعةً في غيره؛ كما هي بحَمْدِ اللَّه حاصلةٌ فيه، وكيف لا يكونُ هذا المختصر فائقاً في الحُسْن، وأحاديثه بحَمْد اللَّه مختارةٌ، أكثرها من أصولِ الإسلامِ الستَّةِ: البخاريِّ، ومسلمٍ، وأبي داود، والتِّرمذيِّ، والنَّسائِيِّ، وابنِ مَاجَة، فهذه أصول الإِسلام، ثم مِنْ غيرها؛ كصحيح ٱبْنِ حِبَّانَ، وصحيح الحاكمِ، أعني: «المُسْتَدْرَكَ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ»، وأَبِي عَوَانَةَ، وابْنِ خُزَيْمَةَ، والدَّارِمِيِّ، وَالمُوَطَّإِ، وغيرِها من المسانيدِ المشهورةِ بيْن أئمَّة الحديثِ؛ حَسْبما هو معلومٌ في علْمِ الحديث، وقصْدِي من هذا نُصْحُ من اطلع على هذا الكتاب أنْ يعلم قَدْرَ ما أنعم اللَّه به علَيْه، فإِن التحدُّث بالنعم شُكْر، ولنرجَعْ إلى ما قصدناه من نَقْلِ الأحاديث:

روى الترمذيُّ عن عَائِشَةَ ـــ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا ـــ قَالَتْ: قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: "إِنْ أَرَدتِّ اللُّحُوقَ بِي، فَلْيَكْفِيكِ مِنَ الدُّنْيَا، كَزَادِ الرَّاكِبَ، وإِيَّاكِ وَمُجَالَسَةَ الأَغْنِيَاءِ، وَلاَ تَسْتَخْلِفِي ثَوْباً حَتَّىٰ تَرْقَعِيهِ" حديث غَرِيبٌ، وقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ البَذَاذَةَ مِنَ الإِيمَانِ" ، خرَّجه أبو داود وقد نقله البغويُّ في «مصابيحه»، والبَذَاذَةُ: هي رث الهَيْئَة. اهـ و { القَناطير }: جمع قِنْطَارٍ، وهو العُقْدة الكثيرةُ من المال؛ واختلف النَّاس في تحريرِ حَدِّه، وأصحُّ الأقوالِ فيه: ما رواه أُبَيُّ ابنُ كَعْبٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: "القِنْطَارُ أَلْفٌ ومِائَتَا أُوقِيَّةٍ" ، لكنَّ القنْطارَ على هذا يختلفُ بٱختلافِ البلادِ في قَدْر الأَوقِيَّةِ.

وقوله: { ٱلْمُقَنطَرَةِ }، قال الطبريُّ: معناه: المُضَعَّفة، وقال الربيعُ: المالُ الكثيرُ بعْضُه علَىٰ بعض.

* ص *: { ٱلْمُقَنطَرَةِ }: مُفَعْلَلَة، أو مُفَنْعَلَة؛ مِن القِنْطَار، ومعناه: المجتمعة.

* م *: أبو البقاء: و { مِنَ ٱلذَّهَبِ }: في موضعِ الحالِ من { ٱلْمُقَنطَرَةِ } اهـ.

وقوله: { ٱلْمُسَوَّمَةِ }: قال مجاهدٌ: معناه المُطَهَّمة الحِسَان، وقال ابن عبَّاس وغيره: معناه: الراعيَةُ، وقيل: المُعَدَّة، { وَٱلأَنْعَـٰمِ }: الأصنافُ الأربعةُ: الإِبلُ، والبَقَرُ، والضَّأْنُ، والمَعْز.

* ص *: والأنعامُ: واحدُها نَعَمٌ، والنَّعَمُ: الإِبل فقَطْ، وإِذا جُمِعَ، ٱنطلق على الإِبلِ والبقرِ والغنمِ. اهـ.

{ وَٱلْحَرْثِ }: هنا اسمٌ لكلِّ ما يُحْرَثُ من حَبٍّ وغيره، والمَتَاعُ: ما يستمتعُ به، وينتفعُ مدَّةً مَّا منحصرة، و { ٱلْمَآبِ }: المَرْجِعُ، فمعنى الآية: تقليلُ أمر الدُّنيا وتحقيرُها، والترغيبُ في حُسْن المَرْجِع إِلى اللَّه تعالَىٰ.

وقوله تعالى: { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذٰلِكُمْ... } الآية: في هذه الآية تَسْلِيَةٌ عن الدنيا، وتقويةٌ لنفوسِ تاركيها؛ ذَكَر تعالَىٰ حالَ الدُّنْيا، وكَيْف ٱستقرَّ تزيينُ شهواتها، ثم جاء بالإِنباءِ بخَيْرٍ من ذلك هَازًّا للنفُوس، وجامعاً لها؛ لتَسْمَعَ هذا النبأَ المستغْرَبَ النافعَ لِمَنْ عقل، وأُنَبِّىءُ: معناه: أُخْبِرُ.

وقوله تعالى: { وَرِضْوَٰنٌ مِّنَ ٱللَّهِ }، الرِّضْوَانُ: مصدر مِنْ «رَضِيَ»، وفي الحديث الصحيحِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "أنَّ أَهْلَ الجَنَّةِ، إذا ٱسْتَقَرُّوا فِيهَا، وَحَصَلَ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مَا لاَ عَيْنٌ رَأَتْ وَلاَ أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلاَ خَطَرَ عَلَىٰ قَلْبِ بَشَرٍ، قَالَ اللَّهُ لَهُمْ: أَتُرِيدُونَ أنْ أُعْطِيَكُمْ مَا هُوَ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ قَالُوا: يَا رَبَّنَا، وَأَيُّ شَيْءٍ أَفْضَلُ مِنْ هَذَا؟ فَيَقُولُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ: أُحِلُّ عَلَيْكُمْ رِضْوَانِي، فَلاَ أَسْخَطُ عَلَيْكُمْ أَبَداً" ، هذا سياقُ الحديثِ، وقد يجيءُ مختلِفَ الألفاظِ، والمعنَىٰ قريبٌ بعضُه من بعض، قال الفَخْر: وذلك أن معرفة أهْلِ الجَنَّة، مع هذا النعيم المقيم بأنَّه تعالَىٰ راضٍ عنهم، مُثْنٍ عليهم ـــ أزيدُ عليهم في إِيجابِ السُّرور. اهـــ.

وباقي الآية بيِّن، وقد تقدَّم في سورة البقرة بيانُهُ.

وقوله تعالى: { ٱلَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَٱغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } الآية: «الَّذِينَ»: بدلٌ من «الَّذِينَ ٱتَّقَوْا»، وفسر سبحانه في هذه الآية أحوال المتقين الموعودِينَ بالجَنَّات، والصَّبْرُ؛ في هذه الآية: معناه: على الطَّاعاتِ، وعن المعاصي والشهواتِ، والصِّدْقُ: معناه: في الأقوالِ والأفعالِ، والقُنُوتُ: الطاعةُ والدعاءُ أيضاً، وبكلِّ ذلك يتصف المتَّقِي، والإِنْفَاقُ: معناه: في سبِيلِ اللَّه ومَظَانِّ الأجر، والاِستغفارُ: طلبُ المَغْفرة من اللَّه سبحانه، وخصَّ تعالى السَّحَر؛ لما فيه من الفَضْل؛ حسْبَما وَرَدَ فيه مِنْ صحيحِ الأحاديثِ؛ كحديث النُّزُول: "هَلْ مِنْ دَاعٍ، فَأَسْتجِيبَ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ، فَأَغْفِرَ لَهُ" ، إِلى غير ذلك ممَّا ورد في فَضْله.

قلت: تنبيهٌ: قال القرطبيُّ في «تذكرته»، وقد جاء حديثُ النزولِ مفسَّراً مبيَّناً في ما خرَّجه النسائِيُّ عن أبي هُرَيْرة، وأبي سَعِيدٍ، قَالاَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ اللَّهَ (عَزَّ وَجَلَّ) يُمْهِلُ حَتَّىٰ يَمْضِيَ شَطْرُ اللَّيْلِ الأَوَّل، ثُمَّ يَأْمُرُ مُنَادِياً يَقُولُ: هَلْ مِنْ دَاعٍ يُسْتَجَابُ لَهُ، هَلْ مِنْ مُسْتَغْفِرٍ يُغْفَرُ لَهُ، هَلْ مِنْ سَائِلٍ يُعْطَىٰ" ، صحَّحه أبو محمَّد عبْدُ الحقِّ. اهـــ.

وخرَّج أبو بكرِ بْنُ الخَطِيبِ بسنده، عن عبد الرحمن بْنِ عَوْفٍ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: قَالَ: "إِنَّ نُزُولَ اللَّهِ تَعَالَىٰ إِلَى الشَّيْءِ إِقْبَالُهُ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ نُزُولٍ" . اهـ.

والسَّحَر: آخرُ الليل، قال نافِعٌ: «كان ابْنُ عُمَرَ يُحْيِي الليْلَ صلاةً، ثم يقولُ: يا نَافِعُ، أسْحَرْنَا، فأقول: لاَ، فَيُعَاوِدُ الصَّلاة، ثم يسأل، فَإِذا قُلْتُ: نَعَمْ، قَعَدَ يَسْتَغْفِرُ».

قال * ع *: وحقيقةُ السَّحَرِ في هذه الأحكامِ الشرعيَّة من الاستغفارِ المحمودِ، وسُحُورِ الصَّائِمِ، ومِنْ يَمِين لَوْ وَقَعَتْ، إنما هي مِنْ ثُلُثِ اللَّيْلِ الآخر إِلى الفَجْر.