التفاسير

< >
عرض

وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَٰشِعِينَ للَّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلـٰئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ
١٩٩
يَا أَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ
٢٠٠
-آل عمران

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ ٱلْكِتَـٰبِ لَمَن يُؤْمِنُ بِٱللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَـٰشِعِينَ للَّهِ }، قال جابر بن عبد اللَّه وغيره: هذه الآيةُ نَزَلَتْ بسبب أَصْحَمَةَ النَّجَاشِيِّ سُلْطَانِ الحبشة، آمن باللَّه، وبمحمَّد ـــ عليه السلام ـــ، وأَصْحَمَة: تفسيره بالعربيَّة: عَطِيَّة؛ قاله سفيان وغيره، وقال قومٌ: نزلَتْ في عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلاَمٍ، وقال ابنُ زَيْدٍ ومجاهدٌ: نَزَلَتْ في جميعِ مَنْ آمَنَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَاب.

وقوله سبحانه: { لاَ يَشْتَرُونَ بِـئَايَـٰتِ ٱللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً }: مدحٌ لهم، وذَمٌّ لسائر كفَّار أهل الكتاب؛ لتبديلهم وإيثارهم مكاسبَ الدُّنْيا على آخرتهم، وعلَىٰ آياتِ اللَّهِ سُبْحانه، ثم خَتَمَ اللَّه سُبْحانه السُّورة بهذه الوَصَاةِ التي جَمَعَتِ الظُّهورَ في الدنيا علَى الأعداء، والفَوْزَ بنعيمِ الآخرةِ، فحضَّ سبحانه على الصبْرِ على الطاعات، وعنِ الشهواتِ، وأَمَرَ بالمصابرةِ، فقيل: معناه مصابرةُ الأعداء؛ قاله زيدُ بْنُ أسلم، وقيل: معناه مصابَرَةَ وعْدِ اللَّهِ فِي النَّصْر؛ قاله محمدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظِيُّ، أي: لا تسأَمُوا وٱنتظروا الفَرَجَ، وقد قَالَ صلى الله عليه وسلم: "ٱنْتِظَارُ الفَرَجِ بِالصَّبْرِ عِبَادَةٌ" .

قال الفَخْر: والمصابرةُ عبارةٌ عن تحمُّل المكارِهِ الواقعة بَيْن الإنسان، وبَيْن الغَيْر. انتهى.

وقوله: { وَرَابِطُواْ }: معناه عند الجُمْهُور: رَابِطُوا أعداءكم الخَيْلَ، أي: ارتبطوها؛ كما يرتبطها أعداؤكم، قلْتُ: وروى مسلمٌ في «صحيحه»، عن سلمانَ، قال: سَمِعْتُ النَّبيَّ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: "رِبَاطُ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ خَيْرٌ مِنْ صِيَامِ شَهْرٍ وَقِيَامِهِ، وإنْ مَاتَ جَرَىٰ عَلَيْهِ عَمَلُهُ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُهُ، وأُجْرِيَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ، وَأَمِنَ الفَتَّان" ، وخَرَّجَ الترمذيُّ، عن فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ، عن النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "كُلُّ مَيِّتٍ يُخْتَمُ عَلَىٰ عَمَلِهِ إلاَّ الَّذِي مَاتَ مُرَابِطاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ؛ فإنَّهُ يَنْمُو عَمَلُهُ إلَىٰ يَوْمِ القِيَامَةِ، وَيَأْمَنُ مِنْ فِتْنَةِ القَبْرِ" ، قال أبو عيسَىٰ: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ، وخرَّجه أبو داود بمعناه، وقال: "ويُؤْمَنُ مِنْ فَتَّانِي القَبْرِ" ، وخرَّجه ابنُ ماجة بإسناد صحيحٍ، عن أبي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قَالَ: "مَنْ مَاتَ مُرَابِطاً فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَجْرَى اللَّهُ عَلَيْهِ أَجْرَ عَمَلِهِ الصَّالِحِ الَّذِي كَانَ يَعْمَلُ، وَأَجْرَىٰ عَلَيْهِ رِزْقَهُ، وَأَمِنَ الفَتَّانَ، وَيَبْعَثُهُ اللَّهُ آمناً مِنَ الفَزَعَ" ، وروى مسلم والبخاريُّ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "رِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا، ومَا فِيهَا" . انتهى.

وجاء في فَضْل الرباطِ أحاديثُ كثيرةٌ يطُولُ ذكْرها.

قال صاحبُ «التَّذْكرة»: وروى أبيُّ بن كَعْب، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مِنْ وَرَاءِ عَوْرَةِ المُسْلِمِينَ مُحْتَسِباً مِنْ غَيْرِ شَهْرِ رَمَضَانَ ـــ أَعْظَمُ أجْراً مِنْ عِبَادَةِ مِائَةِ سَنَةٍ؛ صِيَامِهَا، وقِيَامِهَا، وَرِبَاطُ يَوْمٍ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَعْظَمُ أَجْراً" ، أُرَاهُ قَالَ: "مِنْ عِبَادَةِ أَلْفَيْ سَنَةٍ، صِيَامِهَا، وقِيَامِهَا..." الحديثَ ذكره القرطبيُّ مسنداً. انتهى.

والرباط: هو الملازمةُ في سَبيلِ اللَّهِ؛ أصلها مِنْ رَبَطَ الخَيْلَ، ثم سُمِّيَ كلُّ ملازمٍ لثَغْرٍ من ثُغُور الإسلام مرابطاً، فارساً كان أو راجلاً، واللفظةُ مأخوذةٌ من الرَّبْط، قلْتُ: قال الشيخُ زيْنُ الدينِ العِرَاقِيُّ في «اختصاره لغريب القرآن»؛ لأبي حَيَّان: معنى: رَابِطُوا: دُومُوا وٱثْبُتُوا، ومتَىٰ ذكَرْتُ العِرَاقِيَّ، فمرادِي هذا الشيخُ. انتهى.

وروى ابنُ المبارك في «رقائقه»، أنَّ هذه الآيةَ: { ٱصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ }، إنما نزلَتْ في ٱنتظارِ الصَّلاةِ خَلْفَ الصلاة؛ قاله أبو سَلَمَةَ بْنُ عبدِ الرحمنِ، قال: ولم يكُنْ يومئذٍ عَدُوٌّ يرابَطُ فيه. انتهى.

وقوله سبحانه: { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }: ترجٍّ في حقِّ البَشَر، والحمدُ للَّه حَقَّ حمده.