التفاسير

< >
عرض

قُلِ ٱللَّهُمَّ مَالِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِي ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٦
تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ وَتُولِجُ ٱلنَّهَارَ فِي ٱلْلَّيْلِ وَتُخْرِجُ ٱلْحَيَّ مِنَ ٱلْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ ٱلَمَيِّتَ مِنَ ٱلْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٢٧
لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ ٱلْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذٰلِكَ فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَـٰةً وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَىٰ ٱللَّهِ ٱلْمَصِيرُ
٢٨
قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ ٱللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
٢٩
-آل عمران

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ... } الآية: هو سبحانه وتعالى مالكُ الملكِ كلِّه مطلقاً في جميع أنواعه، وأشرفُ ملكٍ يؤتيه عباده سعادةُ الآخرة، رُوِيَ أنَّ الآية نزلَتْ بسبب أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم بشَّر أُمَّتَه؛ بفتح مُلْك فارس وغيره، فقالَتِ اليهودُ والمنافقُونَ: هَيْهَاتَ، وكذَّبوا بذلك.

ومذهب البصريِّين أن الأصل في «اللَّهُمَّ»: يَا أَللَّهُ، فعوِّض من ياء النداءِ ميماً مشدَّدة.

و { مَـٰلِكَ }: نصْبٌ على النداء، وخص تعالى الخَيْر بالذكْر، وهو تعالى بيده كلُّ شيء؛ إِذ الآية في معنى دعاء ورغبة، فكأنَّ المعنَىٰ: بِيَدِكَ الخَيْرُ فأجزِلْ حظِّي منه، قال النوويُّ: ورُوِّينَا في كتاب «التِّرْمذيِّ» وغيره، عن عُمَرَ بْنِ الخَطَّاب (رضي اللَّه عنه)؛ أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "مَنْ دَخَلَ السُّوقَ، فَقَالَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّه وَحْده لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ المُلْكُ، وَلَهُ الحَمْدُ، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَهُوَ حَيٌّ لاَ يَمُوتُ، بِيَدِهِ الخَيْرُ، وهو عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ــ كَتَبَ اللَّهُ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ حَسَنَةٍ، وَمَحَا عَنْهُ أَلْفَ أَلْفِ سَيِّئَةٍ، وَرَفَعَ لَهُ أَلْفَ أَلْفِ دَرَجَةٍ" ، ورواه الحاكمُ أبو عبد اللَّه في «المُسْتَدْرَكِ عَلَى الصَّحِيحَيْنِ»؛ من طرق كثيرةٍ، وزاد فيه في بعْضِ طرقه: "وَبَنَىٰ لَهُ بَيْتاً فِي الجَنَّةِ" قال الحاكمُ: وفي البابِ، عن جابرٍ، وأبي هريرة، وبُرَيْدَة الأسلميِّ. اهـ من «الحلية».

وقال ابن عبَّاس وغيره في معنَىٰ قوله تعالى: { تُولِجُ ٱللَّيْلَ فِي ٱلْنَّهَارِ... } الآية: إنه ما ينتقصُ من النهار، فيزيد في الليل، وما ينتقصُ من الليلِ، فيزيدُ في النَّهار دَأَباً كلَّ فَصْلٍ من السنة، وتحتملُ ألفاظُ الآية أنْ يدخل فيها تعاقُبُ الليلِ والنهارِ؛ كأن زوالَ أحدهما وُلُوجٌ في الآخر.

واختلف في معنَىٰ قوله تعالى: { وَتُخْرِجُ ٱلْحَىَّ مِنَ ٱلْمَيّتِ... } الآيةَ:

فقال الحسَنُ: معناهُ: يُخْرِجُ المؤمِنَ من الكافر، والكافِرَ من المؤمن، وروي نحْوَه، عن سَلْمَانَ الفَارِسِيِّ، وروى الزُّهْرِيُّ، أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم، لمَّا سَمِعَ نَغْمَةَ خَالِدَةَ بِنْتِ الأَسْوَدِ ابْنِ عَبْدِ يَغُوثَ، فَقَالَ: "مَنْ هَذِهِ" فأُخْبِرَ بِهَا، فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "سُبْحَانَ الَّذِي يُخْرِجُ الحَيَّ مِنَ المَيِّتِ" ، وكَانَتِ ٱمْرَأَةً صَالِحَةً، وكَانَ أَبُوهَا كَافِراً، والمرادُ علَىٰ هذا: موتُ قلبِ الكافرِ، وحياةُ قَلْب المؤمن.

وذهب جمهورٌ كثيرٌ إِلى أنَّ الحياة والمَوْتَ في الآية حقيقةٌ، لا أنها استعارةٌ، ثم اختلفوا في المُثُلِ التي فسَّروا بها.

فقال ابن مسعود: هي النُّطْفة، تخْرُج من الرجُلِ، وهي ميتة، وهو حيٌّ، ويخرج الرجلُ منْها، وهي ميتة.

وقال عكرمة: هو إِخراج الدَّجَاجة، وهي حية، مِن البَيْضَة، وهي ميتة، وإِخراج البيضة، وهي ميتة من الدَّجَاجة، وهي حية.

وروى السُّدِّيُّ، عن أبي مالكٍ، قال: هي الحبَّة تَخْرُجُ من السنبلةِ، والسنبلةُ تخرجُ من الحبَّة، وكذلك النَّوَاة.

وقوله تعالى: { لاَّ يَتَّخِذِ ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلْكَـٰفِرِينَ أَوْلِيَاءَ... } الآية: هذا النهْيُ عن الاِتخاذِ، إِنما هو عن إِظهار اللُّطْفِ للكفَّار، والميلِ إِليهم، فأما أنْ يتخذوا بالقَلْب، فلا يفعل ذلك مؤمن، ولفظ الآية عامٌّ في جميع الأعصار.

واختلف في سَبَب نزولها، فقال ابنُ عَبَّاس في كَعْبِ بْنِ الأَشْرَف وغيره، قد بطنوا بنَفَرٍ من الأنصار، ليفتنُوهم عن دِينِهِمْ، فنزلَتْ في ذلك الآيةُ، وقال قومٌ: نزلَتْ في قصَّة حاطِبِ بْنِ أَبِي بَلْتَعَةَ، وكتابِه إلى أهْل مكَّة، والآيةُ عامَّة في جميع هذا.

وقوله تعالى: { فَلَيْسَ مِنَ ٱللَّهِ فِي شَيْءٍ }: معناه: في شيءٍ: مَرْضِيٍّ؛ كقوله صلى الله عليه وسلم: "مَنْ غَشَّنَا، فَلَيْسَ مِنَّا" ، ثم أباح سبحانه إِظهار ٱتخاذهِمْ بشرط الاِتقاءِ، فأما إِبطانه، فلا يصحُّ أن يتصف به مؤمنٌ في حالٍ.

وقوله تعالى: { وَيُحَذِّرُكُمُ ٱللَّهُ... } إلى آخر الآية: وعيدٌ وتنبيهٌ ووعظٌ وتذكيرٌ بالآخرة.

وقوله: { نَفْسَهُ }: نائبةٌ عن «إيَّاهُ»، وهذه مخاطبةٌ علَىٰ معهود ما يفهمه البشَرُ، والنَّفْسُ في مثْلِ هذا راجعٌ إِلى الذاتِ، وفي الكلامِ حذْفُ مضافٍ؛ لأن التحذير إِنما هو من عقابٍ وتنكيلٍ ونحوه، قال ابنُ عَبَّاس، والحسن: ويحذِّركم اللَّه عقابه.

وقوله تعالى: { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ... } الآية: الضميرُ في «تُخْفُوا» هو للمؤمنين الذين نُهُوا عن الكافرين، والمعنَىٰ: إِنكم إِن أبطنتم الحرْصَ على إِظهار موالاتهم، فإِن اللَّه يعلم ذلك، وَيَكْرَهُهُ منكم.