التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَانِ ٱلرَّجِيمِ
٣٦
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يٰمَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَـٰذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ ٱللَّهِ إِنَّ ٱللًّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ
٣٧
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ ٱلدُّعَآءِ
٣٨
-آل عمران

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ }: الوضْعُ: الولادةُ، وقولها: { رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَىٰ }: لفظ خبر في ضِمْنِهِ التحسُّر والتلهُّف، وبيَّن اللَّه ذلك بقوله: { وَٱللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ }، وقولها: { وَلَيْسَ ٱلذَّكَرُ كَٱلأُنْثَىٰ }، تريد في ٱمتناعِ نَذْرها؛ إِذ الأنثَىٰ تحيضُ ولا تصلُحُ لِصُحْبَة الرُّهْبَان، قاله قتادة وغيره، وبدأَتْ بذكْرِ الأَهَمِّ في نفْسها، وإِلاَّ فسياق قصَّتها يقتضي أنْ تقول: وليس الأنثَىٰ كالذَّكَر، وفي قولها: { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ }: سنةُ تسميةِ الأطفالِ قُرْبَ الولادةِ؛ ونحوُهُ قَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: "وُلِدَ لِي اللَّيْلَةَ مَوْلُودٌ، فَسَمَّيْتُهُ بِٱسْمِ أَبِي إِبْرَاهِيمَ" ، وباقي الآيةِ إعاذةٌ، قال النووي: ورُوِّينَا فِي سُنَن أبِي دَاوُدَ؛ بإسناد جيِّدٍ، عن أبي الدرداء، عن النبِيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: "إِنَّكُمْ تُدْعَوْنَ يَوْمَ القِيَامَةِ بأسْمَائِكُمْ وَأَسْمَاءِ آبَائِكُمْ، فأحْسِنُوا أسْمَاءَكُمْ" . وفي صحيح مُسْلِمٍ، عن ٱبْنِ عُمَرَ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنَّهُ قَالَ: "إِنَّ أَحَبَّ أَسْمَائِكُمْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَبْدُ اللَّهِ، وعَبْدُ الرَّحْمَنِ" وفي سنن أبِي دَاوُدَ والنَّسَائِيّ، وغيرِهِمَا، عن أبِي وَهْب الجُشَمِيِّ، قال: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: "تَسَمَّوْا بِأَسْمَاءِ الأَنْبِيَاءِ، وَأَحَبُّ الأَسْمَاءِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَىٰ عبْدُ اللَّهِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ، وَأَصْدَقُهَا حَارِثٌ وَهَمَّامٌ، وَأَقْبَحُهَا حَرْبٌ ومُرَّة" . اهـ.

وفي الحديثِ، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم، مِنْ روايةِ أبي هُرَيْرة، قَالَ: "كُلُّ مَوْلُودٍ مِنْ بَنِي آدَمَ لَهُ طَعْنَةٌ مِنَ الشَّيْطَانِ، وَبِهَا يَسْتَهِلُّ الصَّبِيُّ إِلاَّ مَا كَانَ مِنْ مَرْيَمَ ٱبْنَةِ عِمْرَانَ، وٱبْنِهَا؛ فَإِنَّ أُمَّهَا قَالَتْ حِينَ وَضَعْتَها: { وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ ٱلشَّيْطَـٰنِ ٱلرَّجِيمِ }، فَضُرِبَ بَيْنَهُمَا حِجَابٌ، فَطَعَنَ الشَّيْطَانُ فِي الحَجابِ" ، وَقَدِ ٱخْتلفت ألفاظُ هذا الحديثِ، والمعنىٰ واحد؛ كما ذكرته، قال النوويُّ: بَاب مَا يُقَالُ عنْد الولادةِ: رُوِّينَا في كتاب ابْنِ السُّنِّيِّ، عن فاطمة (رضي اللَّه عنها)؛ "أنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لمَّا دَنَا ولاَدَهَا، أَمَر أُمَّ سَلْمَة، وَزَيْنَبَ بِنْتَ جَحْشٍ؛ أنْ تَأْتِيَاهَا، فَتَقْرَآ عِنْدَهَا آيَةَ الكُرْسيِّ، و { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ... } إلى آخر الآيَةِ، وتُعَوِّذَانِهَا بِالمُعَوِّذَتَيْنِ«. انتهى.

وقوله تعالى: { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ }: إخبار منه سبحانه لمحمَّد صلى الله عليه وسلم؛ بأنه رَضِيَ مَرْيَمَ لخدمة المَسْجد؛ كما نذَرَتْ أُمُّهَا وسَنَّىٰ لها الأمَلَ في ذلك.

وقوله سبحانه: { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً }: عبارةٌ عن حُسْن النشأة في خِلْقَةٍ وخُلُقٍ.

* ص *: { بِقَبُولٍ } مصدر علَىٰ غير الصَّدْرِ، والجاري علَىٰ: تَقَبَّلَ تَقَبُّلاً، وعلى قَبِلَ قَبُولاً، و { نَبَاتاً }: مصدرٌ منصوبٌ بـــ «أَنْبَتَهَا»؛ علَىٰ غير الصَّدْر. انتهى.

وقوله تعالى: { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } معناه: ضمَّها إِلى إِنفاقه وحِضْنِهِ، والكَافِلُ: هو المربِّي، قال السُّدِّيُّ وغيره: إِنَّ زكريَّا كان زَوْجَ أختها؛ وَيَعْضُدُ هذا القوْلَ قولُهُ صلى الله عليه وسلم في يَحْيَـىٰ وعِيسَىٰ: «ٱبْنَا الخَالَةِ»، والذي عليه النَّاس: أنَّ زكريَّا إنما كفَّلها بالاِستهامِ؛ لتشاحِّهم حينئذٍ فيمَنْ يكفُلُ المحرَّر.

وقوله تعالى: { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا ٱلْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقًا }: المِحْرَابُ: المَبْنَى الحَسَنُ، ومِحْرَابُ القَصْر: أشرف ما فيه؛ ولذلك قيل لأَشْرَفِ مَا في المُصَلَّىٰ؛ وهو موقِفُ الإِمامِ: مِحْرَاب، ومعنى { رِزْقاً }، أيْ: طعاماً يتعذَّى به، لم يَعْهَدْهُ، ولا عَرفَ كيف جُلِبَ إليها، قال مجاهد وغيره: كان يجدُ عندها فاكهةَ الشِّتاءِ في الصَّيْفِ، وفاكهةَ الصَّيْفِ في الشتاءِ، ونحوه عن ابن عَبَّاس إِلاَّ أنه قال: ثِمَار الجَنَّة، وقوله: { أَنَّىٰ }: معناه: كَيْفَ، ومِنْ أَيْنَ، وقولها: { مِنْ عِندِ ٱللَّهِ } دليلٌ علَىٰ أنه ليس مِنْ جَلْب بَشَرٍ، قال الزَّجَّاج. وهذا من الآية الَّتي قال اللَّه تعالَىٰ: { { وَجَعَلْنَـٰهَا وَٱبْنَهَا ءَايَةً لِّلْعَـٰلَمِينَ } [الأنبياء:91] وقولها: { إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }: تقرير لكون ذلك الرزْقِ من عند اللَّه، وذهب الطَّبَرِيُّ إِلى أنَّ ذلك ليس من قولِ مرْيَمَ، وأنَّه خبر من اللَّه تعالَىٰ لمحمَّد صلى الله عليه وسلم، واللَّه سبحانه لا تنتقصُ خزائنه، فليس يَحْسُبُ ما خرج منها، وقد يُعَبَّر بهذه العبارة عن المُكْثِرِينَ مِنَ النَّاسِ؛ أنهم ينفقون بغَيْرِ حِسَابٍ، وذلك مجازٌ وتشبيهٌ، والحقيقةُ هي فيما ينتفقُ من خزائنِ اللَّه سبحانه، قال الشيخُ ابْنُ أبي جَمْرَةَ (رضي اللَّه عنه)، وقد قال العلماءُ في معنَىٰ قوله عزَّ وجلَّ: { إِنَّ ٱللَّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }: إِنه الفتوحُ، إِذا كان علَىٰ وجهه. اهـ، ذكر هذا عند شرحه لقوله صلى الله عليه وسلم: "لَوْ دُعِيْتُ إِلَىٰ ذِرَاعٍ أَوْ كُرَاعٍ، لأَجَبْتُ" .

وقوله تعالى: { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ } هُنَالِكَ؛ في كلامِ العربِ: إِشارةٌ إِلى مكانٍ أو زمانٍ فيه بُعْدٌ، ومعنَىٰ هذه الآية: إِنَّ في الوقْتِ الذي رأَىٰ زكريَّاء رزْقَ اللَّهِ لمَرْيَمَ ومكانَتَها مِنَ اللَّه، وفَكَّر في أنَّها جاءَتْ أُمَّها بَعْدَ أَنْ أَسَنَّتْ، وأن اللَّه تعالَىٰ تقَبَّلها، وجعَلَها من الصالحاتِ، تحرَّك أملُهُ لطَلَبِ الولدِ، وقَوِيَ رجاؤه، وذلك منْه علَىٰ حالِ سِنٍّ وَوَهْنِ عَظْمٍ، وٱشتعالِ شَيْب، فدعا ربَّه أنْ يَهَبَ له ذريَّةً طيِّبَةً يرثه، والذُّرِّيَّةُ: اسم جنسٍ، يقع علَىٰ واحد فصاعدًا؛ كما أن الوَلَدَ: اسمُ جنسٍ كذلك، وطَيِّبة: معناه: سَلِيمَة في الخَلْق والدِّين، تَقِيَّة، ثم قال تعالَىٰ: { { فَنَادَتْهُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ } [آل عمران:39]، وتُرِكَ محذوفٌ كثيرٌ دَلَّ علَيْه ما ذُكِرَ، تقديره: فَقَبِلَ اللَّهُ دُعَاءَهُ، وبَعَثَ المَلَكَ، أو الملائكة، فنادتْهُ، وذكر جمهورُ المفسِّرين؛ أنَّ المنادِي إِنما هو جبريلُ، وقال قومٌ: بل نادته ملائكةٌ كثيرةٌ؛ حسْبما تقتضيه ألفاظ الآيةِ، قلت: وهذا هو الظاهرُ، ولا يعدل عنه إِلا أن يصحَّ في ذلك حديثٌ عنه صلى الله عليه وسلم، فيتَّبَع.