التفاسير

< >
عرض

فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ فَأُوْلَـٰئِكَ هُمُ ٱلظَّالِمُونَ
٩٤
قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ فَٱتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٩٥
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ
٩٦
فِيهِ ءَايَٰتٌ بَيِّنَـٰتٌ مَّقَامُ إِبْرَٰهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ مَنِ ٱسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱلله غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَٰلَمِينَ
٩٧
-آل عمران

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { فَمَنِ ٱفْتَرَىٰ عَلَى ٱللَّهِ ٱلْكَذِبَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ }، أي: مِنْ بعد ما تبيَّن له الحَقُّ، وقيامُ الحُجَّة، فهو الظَّالِمُ.

وقوله: { قُلْ صَدَقَ ٱللَّهُ }، أي: الأمر كما وصَفَ سبحانه، لا كما تَكْذُبونَ، فإن كنتم تَعْتزونَ إلى إبراهيم، فٱتبعوا ملَّته؛ علَىٰ ما ذكر اللَّه.

وقوله سبحانه: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ... } الآية: لا مِرْيَة أنَّ إبراهيم ـــ عليه السلام ـــ وضع بيْتَ مكة، وإنما الخلافُ، هَلْ هو وضع بَدْأَةً أوْ وُضِعَ تجديداً؟ وقال الفَخْر: يحتمل أولاً في الوضْعِ والبناءِ، ويحتملُ أنْ يريد أولاً في كونه مباركاً، وهذا تحصيلُ المفسِّرين في الآية. اهـــ.

قال ابن العربيِّ في «أحكامِهِ» وكونُ البَيْتِ الحَرَامِ مُبَارَكاً، قيل: بركَتُهُ ثوابُ الأعمال هناك، وقيل: ثوابُ قاصِدِيهِ، وقيل: أمْنُ الوَحْش فيه، وقيل: عُزُوفُ النفْسِ عن الدنيا عِنْدَ رؤيته، قال ابنُ العربيِّ: والصحيحُ عِنْدَي أنَّهُ مُبَارَكٌ مِنْ كلِّ وجْهٍ مِنْ وجوه الدنْيَا والآخرة؛ وذلك بجميعه موجودٌ فيه. اهـــ.

قال مالكٌ في سماعِ ٱبْنِ القاسِمِ من «العتبية»: بَكَّة موضعُ البَيْت، ومَكَّة غيره مِنَ المواضعِ، قال ابن القاسِمِ: يريد القَرْيَةَ، قلتُ: قال ابنُ رُشْدٍ في «البيان»: أُرَىٰ مالكاً أخَذَ ذلك مِنْ قول اللَّه عزَّ وَجَلَّ؛ لأنه قال تعالَىٰ في بَكَّة: { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً }، وهو إنما وضع بموضعه الَّذي وُضِعَ فيه لا فيما سواه من القرية، وقال في «مَكَّة»؛ { { وَهُوَ ٱلَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ } [الفتح:24] وذلك إنما كان في القرية، لا في موضع البَيْتَ. اهـــ.

وقوله سبحانه: { فِيهِ }، أي: في البيتِ { ءَايَٰتٌ بَيّنَٰتٍ }،

قال * ع *: والمترجِّح عندي أنَّ المَقَامَ وأَمْنَ الدَّاخِلِ جُعِلاَ مثالاً ممَّا في حَرَمِ اللَّه منَ الآياتِ وخُصَّا بالذكْرِ؛ لعظمهما، و { مَّقَامُ إِبْرٰهِيمَ }: هو الحَجَرُ المعروفُ؛ قاله الجمهور، وقال قوم: البيتُ كلُّه مقامُ إبراهيم، وقال قومٌ: الحَرَمُ كلُّه مقامُ إبراهيم، والضميرُ في قوله: { وَمَن دَخَلَهُ } عائدٌ على البَيْت؛ في قول الجمهور، وعائدٌ على الحَرَمِ؛ في قول مَنْ قَالَ: مقامُ إبراهيم هو الحَرَمُ.

وقوله: { كَانَ ءامِناً } قال الحَسَنُ وغيره: هذه وصْفُ حالٍ كانَتْ في الجاهلية، إذا دخَلَ أحدٌ الحَرَمَ، أَمِنَ، فلا يُعْرَضُ له، فأما في الإسلام، فإن الحرم لا يَمْنَعُ مِنْ حَدٍّ مِنْ حدودِ اللَّه، وقال يَحْيَـى بْنُ جَعْدَةَ: معنى الآية: ومَنْ دخل البيتَ، كان آمناً من النَّار، وحكى النقَّاش عن بَعْض العُبَّاد، قال: كُنْتُ أطوفُ حوْلَ الكعبةِ لَيْلاً، فقلْتُ: يا رَبِّ، إنَّكَ قُلْتَ: { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ ءامِناً }، فمماذا هو آمنٌ؟ فسمعتُ مكلِّماً يكلِّمني، وهو يقولُ: مِنَ النَّارِ، فنظَرْتُ، وتأمَّلت، فما كان في المكان أحد، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه»: وقول بعضهم: وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمناً من النار ـــ لا يصحُّ حمله علَىٰ عمومه، ولكنه ثَبَتَ؛ أنَّ مَنْ حَجَّ، فَلَمْ يرْفُثْ، وَلَمْ يَفْسُقْ، خَرَجَ مِنْ ذُنُوبِهِ كَيَوْمَ وَلَدَتْهُ أُمُّهُ، والحَجُّ المَبْرُور لَيْسَ لَهُ جَزَاءٌ إلاَّ الجَنَّة. قال ذلك كلَّه رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اهـــ.

وقوله تعالى: { وَللَّهِ عَلَى ٱلنَّاسِ حِجُّ ٱلْبَيْتِ } الآية: هو فرضُ الحجِّ في كتابِ اللَّه؛ بإجماع، وقرأ حمزةُ، والكِسَائيُّ، وحَفْص عن عاصِمٍ: «حَجُّ الَبْيتِ»؛ بكَسْر الحاء، وقرأ الباقُونَ بفتحها، فَبِكَسْر الحاء: يريدُون عَمَلَ سَنَةٍ واحدةٍ، وقال الطبريُّ: هما لُغَتَانِ الكَسْر: لُغَةُ نَجْدٍ، والفتْحُ لغة أهل العَالِيَةِ.

وقوله سبحانه: { مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } «مَنْ»: في موضعِ خَفْضٍ بدلٍ من «النَّاس»، وهو بدلُ البَعْض من الكلِّ، وقال الكسائيُّ وغيره: هي شَرْطٌ في موضع رفعٍ بالابتداءِ، والجوابُ محذوفٌ، تقديره: فَعَلَيْهِ الحِجُّ؛ ويدلُّ عليه عطْفُ الشرطِ الآخَرِ بعده في قوله: { وَمَنْ كَفَرَ }، وأسند الطبريُّ إلى النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "مَنْ مَلَكَ زَاداً وَرَاحِلَةً، فَلَمْ يَحُجَّ، فَلاَ عَلَيْهِ أَنْ يَمُوتَ يَهُودِيًّا أَوْ نَصْرَانِيًّا" ، وذهب جماعةٌ من العلماءِ إلى أنَّ قوله سبحانه: { مَنِ ٱسْتَطَـٰعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً } كلامٌ عامٌّ لا يتفسَّر بزادٍ ولا راحلةٍ، ولا غَيْرِ ذلك، بل إذا كان مستطيعاً غَيْرَ شاقٍّ علَىٰ نفسه، فقد وجَبَ علَيْه الحَجُّ، وإليه نحا مَالِكٌ في سماع أَشْهَبَ، وقال: لا صِفَةَ في هذا أبْيَنُ ممَّا قال الله تعالى. هذا أنْبَلُ الأقوال، وهذه مِنَ الأمور التي يتصرَّف فيها فِقْهُ الحال، والضميرُ في «إِلَيْهِ» عائدٌ على البيت، ويحتملُ عَلَى الحِجِّ.

وقوله سبحانه: { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ ٱللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ }، قال ابن عبَّاس وغيره: المعنَىٰ: مَنْ زعم أنَّ الحَجَّ ليس بفَرْضٍ عليه، ورُوِيَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قرأَ هذه الآيةَ، فقَالَ رَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ: يَا رَسُولَ اللَّهِ: مَنْ تَرَكَهُ، كَفَرَ، فَقَالَ لَهُ النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ تَرَكَهُ، لاَ يَخَافُ عُقُوبَتَهُ، ومَنْ حَجَّهُ لاَ يَرْجُو ثَوَابَهُ، فَهُوَ ذَلِكَ" ، وقال بمعنَىٰ هذا الحديثِ ابْنُ عبَّاس وغيره، وقال السُّدِّيُّ وجماعة مِنْ أهْل العلْم. معْنَى الآيةِ: مَنْ كَفَر بأنْ وَجَد ما يَحُجُّ به، ثم لَمْ يَحُجَّ، قال السُّدِّيُّ: مَنْ كان بهذه الحالِ، فهو كافرٌ، يعني: كُفْرَ مَعْصية، ولا شكَّ أنَّ مَنْ أنعم اللَّه علَيْه بمالٍ وصحَّة، ولم يَحُجَّ، فقد كَفَر النِّعْمَةَ، وقال ابنُ عُمَر وجماعةٌ: معنى الآيةِ: ومن كَفَر باللَّه واليومِ الآخِرِ، قال الفَخْر: والأكثرون هم الذين حَمَلُوا الوعيدَ علَىٰ مَنْ ترك اعتقادَ وُجُوبَ الحجِّ، وقال الضَّحَّاك: لما نَزلَتْ آية الحَجِّ، فأعْلَمِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بذَلِكَ أَهْلَ المِلَلِ، وقَالَ: "إنَّ اللَّه تَعالَىٰ كَتَبَ عَلَيْكُمْ الحَجُّ، فحُجُّوا" ، فَآمَنَ بِهِ المُسْلِمُونَ وَكَفَرَ غَيْرُهُم فَنَزَلَتِ الآيةُ، قَالَ الفَخْرُ وهذا هو الأقوَىٰ، واللَّه أعلم. اهـــ.

ومعنى قوله تعالى: { غَنِيٌّ عَنِ ٱلْعَـٰلَمِينَ }: الوعيدُ لِمَنْ كفر، والقَصْدُ بالكلامِ: فَإنَّ اللَّه غنيٌّ عنهم، ولكن عمَّم اللفظ؛ ليَبْرَعَ المعنَىٰ، وتنتبه الفِكَرُ لقدرته سبحانه، وعظيم سلطانه، واستغنائه عن جميعِ خَلْقِهِ لا ربَّ سواه.