التفاسير

< >
عرض

فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَٱللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوۤاْ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ ٱللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ ٱللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً
٨٨
وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْاْ فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً
٨٩
إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَٰقٌ أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَن يُقَٰتِلُوكُمْ أَوْ يُقَٰتِلُواْ قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَآءَ ٱللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَٰتَلُوكُمْ فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَٰتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ ٱلسَّلَمَ فَمَا جَعَلَ ٱللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً
٩٠
-النساء

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { فَمَا لَكُمْ فِي ٱلْمُنَـٰفِقِينَ فِئَتَيْنِ... } الآية: واختلف في هؤُلاَءِ المنافِقِينَ.

فقال ابنُ عَبَّاس: هم قومٌ كانوا بمَكَّة أظهروا الإيمانَ لأصْحَابِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم في كُتُبٍ بَعَثُوا بِهَا إلى المدينةِ، ثم خَرَجُوا مسافِرِينَ إلى الشَّام، وأعطَتْهم قريشٌ بِضَاعَاتٍ، وقالوا لهم: أنتم لا تَخَافُونَ أصْحَاب محمَّد؛ لأَنَّكُمْ تخدَعُونَهم بإِظْهَار الإِيمانِ، فٱتَّصَلَ خبرُهُمْ بالمدينَةِ، فاختلف المؤمنُونَ فيهم، فقالَتْ فرقةٌ: نَخْرُجُ إلَيْهم؛ فإنهم منافقونَ، وَقَالَتْ فِرْقَةٌ: بَلْ هُمْ مُؤْمِنُونَ، لاَ سَبِيلَ لَنَا إلَيْهِمْ، فنزلَتِ الآية، وعن مجاهدٍ نحوه.

قال * ع *: ويَعْضُدُهُ ما في آخر الآيةِ مِنْ قوله تعالَىٰ: { حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ }، وقال زيدُ بنُ ثابتٍ: نزلَتْ في عبد اللَّه بْنِ أُبيٍّ وأصحابِهِ المنافِقِينَ الذين رجَعُوا عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم يَوْمَ أُحُدٍ، وهو في «صحيحِ البخاريِّ» مسنداً، قال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه»، وهذا القولُ هو ٱختيارُ البخاريِّ والترمذيِّ. انتهى.

قال * ع *: وعلَىٰ هذا، فقولُه سبحانَهُ: { حَتَّىٰ يُهَاجِرُواْ } المرادُ هَجْرُ ما نَهَى اللَّهُ عنه؛ كما قال ـــ عليه السلام ـــ: "والمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ ما نَهَى اللَّهُ عَنْه" ، و { فِئَتَيْنِ }: معناه: فرقَتَيْنِ، و { أَرْكَسَهُمْ }: معناه: أرجعَهُمْ في كُفْرِهِمْ وضَلاَلِهِمْ، والرِّكْس: الرَّجيع؛ ومنه قوله صلى الله عليه وسلم في الرَّوْثَةِ: "إنَّهَا رِكْسٌ" ، وحكى النضْرُ بْنُ شُمَيْلٍ والكِسَائِيُّ: رَكَسَ وأَرْكَسَ بمعنًى واحدٍ، أي: أرجَعَهم، ومَنْ قال مِنَ المتأوِّلين: أَهْلَكَهم، أو أضلَّهم، فإنَّما هو بالمعنىٰ، وباقي الآية بَيِّنٌ.

قال * ص *: { أَرْكَسَهُمْ }، أي: رَدَّهم في الكُفْر.

وقال ابنُ العَرَبِيِّ في «أحكامه»: أَخْبَرَ اللَّه تعالَىٰ أنه رَدَّ المنافِقِينَ إلى الكُفْر، وهو الإركَاسُ، وهو عبارةٌ عن الرجُوعِ إلى الحالَةِ المكروهَةِ؛ كما قال في الرَّوْثَةِ: «إنَّهَا رِكْسٌ»، أيْ: رجَعَتْ إلى حالةٍ مكروهةٍ، فنَهَى اللَّه سبحانَهُ الصحابَةَ أنْ يتعلَّقوا فيهم بظَاهِرِ الإِيمان؛ إذ كان باطنهم الكُفْرَ، وأمرهم بقَتْلهم، حَيْثُ وجَدُوهُم. انتهىٰ.

وقولُهُ تعالى: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَىٰ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَـٰقٌ... } الآية.

قال * ص *: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ يَصِلُونَ }: استثناءٌ متَّصِلٌ من مَفْعولِ { فَخُذُوهُمْ وَٱقْتُلُوهُمْ }. انتهى.

قال * ع *: هذه الآيةُ مِنْ آياتِ المُوَادَعَةِ في أول الإسلام، ثم نُسِخَتْ بما في سورة «بَرَاءَةَ» فالآيةُ تقتضي أنَّ مَنْ وصَلَ من المشركِينَ الذين لاَ عَهْدَ بينهم، وبَيْن النبيِّ صلى الله عليه وسلم إلَىٰ هؤلاءِ أهْلِ العهدِ، فدخَلَ في عِدَادِهِمْ، وفَعَلَ فِعْلَهم من المُوَادَعَةِ، فلا سَبِيلَ عليه.

وقوله تعالى: { أَوْ جَاءوكُمْ }: عطْفٌ على { يَصِلُونَ }، ويحتملُ أنْ يكون علَىٰ قوله: { بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مّيثَـٰقٌ }، والمعنَىٰ في العَطْفَينِ مختلفٌ، وهذا أيضاً حُكْمٌ قبل أنْ يستحكم أمْرُ الإسلام، فكان المشرك، إذا ٱعتزلَ القتَالَ، وجاء إلَىٰ دارِ الإِسلامِ مُسَالماً كارهاً لقتالِ قَوْمِهِ مع المسلِمِينَ، ولقِتَالِ المُسْلمين مع قومه، لا سَبِيلَ عليه، وهذه نُسِخَتْ أيضاً بما في «براءة»، ومعنى { حَصِرَتْ }: ضاقَتْ، وحَرِجَتْ؛ ومنه: الحَصَرُ في القَوْل، وهو ضِيقُ الكَلاَم علَى المتكلِّم، وَ { حَصِرَتْ }: في موضعِ نصبٍ على الحال، واللاَّمُ في قوله: { لَسَلَّطَهُمْ } جوابٌ «لو»، والمعنَىٰ: ولو شاء اللَّه، لَسَلَّطَ هؤلاءِ الَّذين هُمْ بهذه الصِّفَة من المُسَالَمَة والمُتَارَكَة عليكم، { فَإِنِ ٱعْتَزَلُوكُمْ }، أي: إذا وقَعَ هذا، فلَمْ يقاتِلُوكم، فلا سَبِيلَ لكم عليهم، وهذا كلُّه، والذي في سورة «المُمْتَحنة»: { { لاَّ يَنْهَـٰكُمُ ٱللَّهُ... } [الممتحنة:8] منسوخٌ؛ قاله قتادة وغيره.

و { ٱلسَّلَـٰم }: الصُّلَحُ.