التفاسير

< >
عرض

إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ ٱلْمَلاۤئِكَةُ ظَالِمِيۤ أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ قَالْوۤاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـٰئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَآءَتْ مَصِيراً
٩٧
إِلاَّ ٱلْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ ٱلرِّجَالِ وَٱلنِّسَآءِ وَٱلْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً
٩٨
فَأُوْلَـٰئِكَ عَسَى ٱللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ ٱللَّهُ عَفُوّاً غَفُوراً
٩٩
وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي ٱلأَرْضِ مُرَٰغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ ٱللَّهِ وَكَانَ ٱللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً
١٠٠
-النساء

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ ظَـالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ... } الآية: المرادُ بهذه الآيةِ إلَىٰ قوله: { مَصِيراً } جماعةٌ من أهل مكَّة كانوا قد أسلموا، فَلَمَّا هاجَرَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم أقَامُوا مَعَ قَوْمِهِمْ، وفُتِنَ منهم جماعةٌ، فَٱفتتنوا، فلما كَانَ أَمْرُ بَدْرٍ، خَرَجَ منهم قومٌ مع الكُفَّار، فقُتِلُوا ببَدْرٍ، فنزلَتِ الآية فيهم.

قال * ع *: والذي يَجْرِي مع الأصولِ أنَّ مَنْ ماتَ مِنْ هؤلاء مرتدًّا، فهو كافرٌ، ومأواه جهنَّم علَىٰ جهة الخلودِ المؤبدِ، وهذا هو ظاهرُ أمْرِ هؤلاءِ، وإنْ فَرَضْنا فيهم مَنْ مَاتَ مؤمناً، وأُكْرِهَ عَلَى الخُرُوجِ، أوْ ماتَ بمكَّة، فإنما هو عاصٍ في ترك الهِجْرة، مأواه جهنَّم علَىٰ جهة العِصْيَانِ دُونَ خُلُودٍ.

وقوله تعالى: { تَوَفَّـٰهُمُ }: يحتملُ أن يكون فعلاً ماضياً، ويحتملُ أنْ يكون مستقْبَلاً؛ علَىٰ معنى: «تَتَوَفَّاهُمْ»؛ فحذِفَتْ إحدى التاءَيْنَ وتكون في العبارة إشارة إلَىٰ ما يأتي مِنْ هذا المعنَىٰ في المستقبل بعد نزول الآية، و { ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ }: نصبٌ علَى الحالِ، أي: ظالميها بتَرْكِ الهِجْرَة، وَ { تَوَفَّـٰهُمُ ٱلْمَلَـٰئِكَةُ }: معناه: تقبِضُ أرواحَهُمْ، قال الزَّجَّاج، وحُذِفَتِ النونُ مِنْ ظَالِمِينَ؛ تخفيفاً؛ كقوله: { { بَـٰلِغَ ٱلكَعْبَةِ } [المائدة:95]، وقولُ الملائكة: { فِيمَ كُنتُمْ }: تقريرٌ وتوبيخٌ، وقولُ هؤلاء: { كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي ٱلأَرْضِ }: ٱعتذارٌ غيرُ صحيحٍ؛ إذ كانوا يستطيعُونَ الحِيَلَ، ويَهْتَدُونَ السُّبُلَ، ثم وقَفَتْهُم الملائكةُ علَىٰ ذَنْبهم بقولهم: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً }، والأرْضُ الأولَىٰ: هي أرْضُ مكَّة خاصَّة، وأرْضُ اللَّهِ هي الأرضُ بالإطلاق، والمراد: فتهاجِرُوا فيها إلَىٰ مواضعِ الأَمْنِ، وهذه المقاوَلَةُ إنما هِيَ بعد توفي الملائكَةِ لأرواحِ هؤلاءِ، وهي دالَّة علَىٰ أنهم ماتوا مُسْلِمِينَ وإلاَّ فلو ماتوا كافِرِينَ، لم يُقَلْ لهم شيءٌ مِنْ هذا، ثم استثنَىٰ سبحانه مَنْ كان ٱستضعافُهُ حقيقةً مِنْ زَمْنَى الرجالِ، وضَعَفَةِ النساءِ، والولدانِ، قال ابنُ عَبَّاس: «كُنْتُ أَنَا وَأُمِّي مِنَ المُسْتَضْعَفِينَ»، والحِيلَةُ: لفظٌ عامٌّ لأنواع أسبَاب التخلُّص، والسَّبِيلُ: سبيلُ المدينةِ؛ فيما قاله مجاهد وغيره، والصوابُ: أنه عامٌّ في جميع السُّبُل، ثم رَجَّى اللَّه تعالَىٰ هؤلاءِ بالعَفْو عنهم، والمُرَاغِمُ: المُتَحَوَّلُ والمَذْهَب؛ قاله ابن عبَّاس وغيره، وقال مجاهدٌ: المُرَاغَمُ المتزحْزَحُ عمَّا يُكْرَه، وقال ابن زيْدٍ: المُرَاغَمُ: المُهَاجَرُ، وقال السُّدِّيُّ: المُرَاغَمُ: المبتغَىٰ للمعيشة.

قال * ع *: وهذا كله تَفْسيرٌ بالمعنَىٰ، وأما الخاصُّ بِاللفظة، فإن المُرَاغَمَ هو موضِعُ المراغَمَةِ، فلو هاجر أَحَدٌ من هؤلاءِ المَحْبُوسِين بمكَّةَ، لأرْغَمَ أنُوفَ قريشٍ بحصوله في مَنَعَةٍ منهم، فتلكَ المَنَعَةُ هي مَوْضِعُ المراغَمَةِ، قال ابنُ عَبَّاس وغيره: السَّعَةُ هنا هي السَّعَةُ في الرِّزْقِ، وقال مالك: السَّعة: سَعَةُ البلاد.

قال * ع *: وهذا هو المُشَبِهُ للفصاحة؛ أنْ يريد سعة الأرْضِ؛ وبذلك تكونُ السَّعَةُ في الرِّزْق، وٱتِّسَاعُ الصَّدْرِ، وغيرُ ذلك من وجوه الفَرَجِ، وهذا المعنَىٰ ظاهرٌ من قوله تعالى: { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ ٱللَّهِ وٰسِعَةً }.

قال مالكُ بْنُ أَنَسٍ (رحمه اللَّه): الآية تُعْطِي أنَّ كلَّ مسلمٍ ينبغي لَهُ أنْ يَخْرُجُ من البلادِ الَّتي تُغَيَّرُ فيها السُّنَنُ، ويُعْمَلُ فيها بغَيْر الحَقِّ.

وقوله تعالى: { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَـٰجِراً إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ ٱلْمَوْتُ... } الآية حُكْمُ هذه الآية باقٍ في الجهَادِ، والمَشْيِ إلى الصلاةِ، والحَجِّ، ونحوِهِ، قلْتُ: وفي البابِ حديثٌ عن أبي أُمَامَةَ، وسيأتِي عند قوله تعالى: { { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلّمُواْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ } [النور:61].

قال * ع *: والآية نزلَتْ بسبب رَجُلٍ من كِنَانَةَ، وقيلَ: من خُزَاعَةَ، اسمه ضَمْرَةُ في قولِ الأكْثَرِ؛ لما سمع قَوْلَ اللَّه تعالَى: الَّذِينَ { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } قال: إنِّي لَذُو مَالٍ وَعَبِيدٍ، وَكَانَ مَرِيضاً، فَقَالَ: أَخْرِجُونِي إلَى المَدِينَةِ، فَأُخْرِجَ فِي سَرِيرٍ، فَأَدْرَكَهُ المَوْتُ بِالتَّنْعِيمِ، فَنَزَلَتِ الآيةُ بسببه.

قال * ع *: ومِنْ هذه الآية رَأَىٰ بعضُ العلماء أنَّ مَنْ مات من المسلمين، وقد خَرَجَ غازياً، فله سَهْمُهُ من الغنيمة، قَاسُوا ذلك علَى الأجْرِ، وَوَقَعَ: عبارةٌ عن الثُّبُوتِ، وكذلك هِيَ «وَجَبَ»؛ لأنَّ الوقوعَ والوُجُوبَ نُزُولٌ في الأجْرَامِ بقوَّة، فشبه لازم المعانِي بذلك، وباقي الآية بيِّن.