التفاسير

< >
عرض

وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَانَ بِوَٰلِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَٰلُهُ ثَلٰثُونَ شَهْراً حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِيۤ أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ ٱلَّتِيۤ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَىٰ وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَٰلِحاً تَرْضَٰهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِيۤ إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ فِيۤ أَصْحَابِ ٱلْجَنَّةِ وَعْدَ ٱلصِّدْقِ ٱلَّذِي كَانُواْ يُوعَدُونَ
١٦
-الأحقاف

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ } يريد: النوع، أي: هكذا مَضَتْ شرائِعِي وكُتُبِي، فَهِيَ وَصِيَّةٌ من اللَّه في عباده، وبِرُّ الوالدَيْنِ واجبٌ، وعُقُوقُهُمَا كبيرةٌ، وقد قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: "كُلُّ شَيْءٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ إلاَّ شَهَادَةَ أَنْ لاَ إلٰهَ إلاَّ اللَّه، وَدَعْوَةَ الْوَالِدَيْنِ" قال * ع *: ولن يَدْعُوَا في الغالب إلاَّ إذا ظلمَهُمَا الوَلَدُ، فهذا يَدْخُلُ في عُمُومِ قوله ـــ عليه السلام ـــ: "اتَّقُوا دَعْوَةَ المَظْلُومِ؛ فَإنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللَّهِ حِجَابٌ" ثم عَدَّدَ سُبْحَانَهُ عَلَى الأبْنَاءِ مِنَنَ الأُمَّهَاتِ.

وقوله تعالى: { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } قال مجاهد، والحسن، وقتادة: حملته مَشَقَّةً، ووضعته مَشَقَّةً، قال أبو حَيَّان: { وَحَمْلُهُ } علَىٰ حَذْفِ مضافٍ، أي: مدَّة حمله، انتهى.

وقوله: { ثَلاَثُونَ شَهْراً } يقتضى أَنَّ مُدَّة الحمل والرَّضَاعِ هي هذه المُدَّةُ، وفي البقرة: { { وَٱلْوٰلِدٰتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَـٰدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } } [البقرة:233] فيترتب من هذا أَنَّ أَقَلَّ مُدَّةِ الحَمْلِ سِتَّةُ أَشهر، وأقلَّ ما يَرْضَعُ الطفْلُ عَامٌ وتسعَةُ أشْهُرٍ، وإكمال الحولَيْنِ هو لمن أراد أَنْ يُتِمَّ الرضاعة، وهذا في أمد الحَمْلِ، هو مذهب مالك وجماعة من الصحابة، وأقوى الأقوال في بلوغ الأَشُدِّ ستةٌ وثلاثُونَ سنَةً، قال * ع *: وإنَّما ذكر تعالى الأربعين؛ لأَنَّها حَدٌّ للإنسان في فلاحه ونَجَابَتِهِ، وفي الحديث: "إنَّ الشَّيْطَانَ يَجُرُّ يَدَهُ عَلَىٰ وَجْهِ مَنْ زادَ عَلَى الأَرْبَعِينَ وَلَمْ يَتُبْ، فَيَقُولُ: بِأَبِي، وَجْهٌ لاَ يُفْلِحُ" .

* ت *: وحَدَّثَ أبو بَكْرِ ابْنُ الخَطِيبِ في «تاريخِ بَغْدَادَ» بسنده المُتَّصِلِ عن أنسٍ، قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: "إذَا بَلَغَ الْعَبْدُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، أَمَّنَهُ اللَّهُ مِنَ البَلاَيَا الثَّلاَثِ: الجُنُونِ، وَالجُذَامِ وَالْبَرَصِ، فَإذا بَلَغَ خَمْسِينَ سَنَةً خَفَّفَ اللَّهُ عَنْهُ الحِسَابَ، فَإذَا بَلَغَ سِتِّينَ سَنَةً رَزَقَهُ اللَّهُ الإنَابَةَ لِمَا يُحِبُّ، فَإذَا بَلَغَ سَبْعِينَ سَنَةً غَفَرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ، وَشُفِّعَ في أَهْلِ بَيْتِهِ، وَنَادَاهُ مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: هَذَا أَسِيرُ اللَّهِ في أَرْضِهِ" انتهى، وهذا ـــ واللَّه أعلم ـــ في العبد المُقْبِلِ على آخرته، المشتغل بطاعة ربه.

وقوله: { رَبِّ أَوْزِعْنِى } معناه: ادفع عني الموانع، وأَجِرْنِي من القواطع؛ لأجل أنْ أشكرَ نعمتك، ويحتمل أنْ يكون { أَوْزِعْنِى } بمعنى: اجعل حَظِّي ونصيبي، وهذا من التوزيع.

* ت *: وقال الثعلبيُّ وغيره { أَوْزِعْنِى }: معناه: ألهمني، وعبارة الفَخْر: قال ابن عباس { أَوْزِعْنِى }: معناه: ألهمني، قال صَاحِبُ «الصِّحَاحِ» ٱسْتَوْزَعْتُ اللَّهَ فَأَوْزَعَنِي، أي: استَلْهَمْتُهُ فألْهَمَنِي، انتهى، قال ابن عباس { نِعْمَتَكَ }: في التوحيد و{ صَـٰلِحاً تَرْضَـٰهُ }: الصلواتِ، والإصلاحُ في الذُّرِّيَّةِ: كونُهم أَهْلَ طاعة وخيرٍ، وهذه الآية معناها: أَنْ هٰكَذَا ينبغي للإنسان أنْ يَكُونَ، فهي وَصِيَّةُ اللَّه تعالى للإنسان في كُلِّ الشرائع، وقولُ مَنْ قال: إنَّها في أبي بكر وأبويه ـــ ضعيف؛ لأَنَّ هذه الآية نزلت بمَكَّةَ بلاَ خِلاَفٍ، وأبو قُحَافَةَ أَسْلَمَ عامَ الفتح، وفي قوله تعالى: { أُوْلَـئِكَ ٱلَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ... } الآية: دليلٌ على أَنَّ الإشارة بقوله: { وَوَصَّيْنَا ٱلإِنسَـٰنَ } إنما أراد به الجِنْسَ.

وقوله: { فِى أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ } يريد: الذين سبقت لهم رحمةُ اللَّه، قال أبو حَيَّان { فِى أَصْحَـٰبِ ٱلْجَنَّةِ } قيل: { فِى } على بابها، أي: في جملتهم؛ كما تقول: أَكْرَمَنِي الأمِيرُ في نَاسٍ، أي: في جملةِ مَنْ أَكْرَمَ، وقيل: { فِى } بمعنى مع، انتهى.