التفاسير

< >
عرض

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَآءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَامَةِ كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي ٱلأَرْضِ فَسَاداً وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ
٦٤
-المائدة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه وتعالى: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ يَدُ ٱللَّهِ... } إلى قوله: { لاَ يُحِبُّ ٱلْمُفْسِدِينَ }: هذه الآيةُ تعديدُ كبيرةٍ في أقوالهم وكُفْرهم، أي: فَمَنْ يقول هذه العظيمةَ، فلا يُسْتنكَرُ نفاقُهُ وسعْيُهُ في رَدِّ أمر اللَّه تعالى.

قال ابن عباس وجماعة: معنى قولهم: التبخيلُ؛ وذلك أنهم لحقَتْهم سَنَةٌ وجَهْدٌ، فقالوا هذه المقالة، يعْنُونَ بها؛ أنَّ اللَّه بَخِلَ عليهم بالرِّزْقِ والتوسعَةِ، تعالَى اللَّه عن قَوْلِهِمْ، وهذا المعنَىٰ يشبه ما في قوله تعالى: { { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَىٰ عُنُقِكَ } [الإسراء:29] فإن المراد: لا تَبْخَلْ؛ ومنه قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَثَلُ البَخِيلِ وَالمُتَصَدِّقِ..." الحديثَ، وذكر الطبري والنَّقَّاش؛ أن هذه الآية نزلَتْ في فِنْحَاص اليَهُودِيِّ، وأنه قالها.

وقوله سبحانه: { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ }: خبرٌ يحتملُ في الدنيا، ويحتمل في الآخرة، فإن كان خبراً عن الدنيا، فالمعنَىٰ: غُلَّت أيديهم عن الخَيْرِ والإنفاقِ في وجوه البِرِّ ونحوه، وإذا كان خبراً عن الآخرة، فالمعنَىٰ: غُلَّتْ في النار، قلْتُ: ويَحْتَمِلُ الأمْرَيْنِ معاً.

وقوله تعالى: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ }: العقيدةُ في هذا المعنَىٰ: نَفْيُ التشبيه عن اللَّه سبحانه، وأنه ليس بِجِسْمٍ، ولا له جارِحَةٌ، ولا يُشَبَّهُ، ولا يُكَيَّفُ، ولا يَتحيَّز، ولا تَحُلُّهُ الحوادثُ، تعالَىٰ عما يقول المبطلون عُلُوًّا كبيراً، قال ابن عبَّاس في هذه الآية: { يَدَاهُ }: نعمتاه، ثم ٱختلفَتْ عبارة النَّاس في تَعْيِين النعمتَيْن:

فقيل: نعمةُ الدنيا، ونعمةُ الآخرةِ، وقيل: النعمة الظاهرة، والنعمة الباطنةُ، والظاهر أن قوله سبحانه: { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ } عبارةٌ عن إنعامه على الجملة، وعبَّر عنها باليدَيْن؛ جرياً على طريقة العرب في قولهم: فُلاَنٌ يُنْفِقُ بِكِلْتَا يَدَيْهِ؛ ومنه قول الأعْشَىٰ: [الطويل]

يَدَاكَ يَدَا مَجْدٍ فَكَفٌّ مُفِيدَةوَكَفٌّ إذَا مَا ضُنَّ بِالمَالِ تُنْفِقُ

ويؤيِّد أن اليدَيْن هنا بمعنى الإنعامِ ـــ قرينةُ الإنفاق، ثم قال تعالَىٰ لنبيِّه ـــ عليه السلام ـــ: { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم }، يعني: اليهودَ { مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ طُغْيَـٰناً وَكُفْراً }، ثم قال سبحانه: { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ وَٱلْبَغْضَاءَ إِلَىٰ يَوْمِ ٱلْقِيَـٰمَةِ }، العداوة: أخصُّ من البغضاء؛ لأن كلَّ عدوٍّ، فهو يُبْغضُ، وقد يُبْغضُ مَنْ ليس بعدُوٍّ، والبغضاء: قد لا تتجاوَزُ النفوسَ، وقد ألقى اللَّه سبحانه الأمرَيْن علَىٰ بني إسرائيل.

قال الفَخْر: وقد أوقع اللَّه بَيْنَ فِرَقِهِمْ الخصومةَ الشَّديدة، وانتهَىٰ أمرهم إلى أنْ يُكَفِّرَ بعضهم بعضاً، وفي قوله: { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ ٱلْعَدَاوَةَ... }: قولان:

أحدهما: أن المراد ما بَيْن اليهودِ والنصارَىٰ من العداوةِ؛ لأنه جرَىٰ ذكْرُهُمْ في قوله: { { لاَ تَتَّخِذُواْ ٱلْيَهُودَ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ أَوْلِيَاء } [المائدة:51]، وهذا قول الحسنِ ومُجَاهد.

والثاني: ما وقع من العداوة بين فِرَقِ اليهود، فإنَّ بعضهم جبريَّةٌ وبعضهم قَدَرية، وبعضهم مُوَحِّدة، وبعضهم مُشَبِّهة، وكذلك بَيْن فرقِ النصارَىٰ؛ كالمَلْكَانِيَّة، والنُّسْطُورِيَّة، واليَعْقُوبيَّة. انتهى.

وقوله سبحانه: { كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا ٱللَّهُ }: ٱستعارةٌ بليغةٌ، قال مجاهد: معنى الآيةِ: كلَّما أوقدوا ناراً لحَرْبِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، أطفأها اللَّه، فالآيةُ بشارةٌ لنبيِّنا محمد ـــ عليه السلام ـــ وللمؤمنين، وباقي الآية بيِّن.