التفاسير

< >
عرض

يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُوۤاْ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْمُعْتَدِينَ
٨٧
وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلَـٰلاً طَيِّباً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ
٨٨
لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذٰلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَٱحْفَظُوۤاْ أَيْمَانَكُمْ كَذٰلِكَ يُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ
٨٩
-المائدة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله تعالى: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ... } الآية: قال ابن عباس وغيره نزلَتْ بسبب جماعةٍ من أصحاب النبيِّ صلى الله عليه وسلم بلغَتْ منهم المواعظ، وخوفُ اللَّه تعالَىٰ إلى أنْ حرَّم بعضهم النساء، وبعضُهم النوْمَ بالليلِ، والطِّيبَ، وهَمَّ بعضهم بالاختصاءِ، فبلَغَ ذلك النبيَّ صلى الله عليه وسلم، فقال: "أَمَّا أنَا فَأَقُومُ وَأَنَامُ، وَأَصُومُ وَأُفْطِرُ، وآتِي النِّسَاءَ، وَأَنَالُ الطِّيبَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي، فَلَيْسَ مِنِّي" ، قال الطبريُّ: كان فيما يتلَىٰ: «مَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِكَ، فَلَيْسَ مِنْ أُمَّتِكَ، وَقَدْ ضَلَّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ»، والطيباتُ في هذه الآية: المستلَذَّات؛ بدليل إضافتها إلَىٰ ما أحلَّ اللَّه؛ وبقرينة ما ذُكِرَ من سبب الآية.

وقوله سبحانه: { وَلاَ تَعْتَدُواْ }، قال عكرمة وغيره: معناه: في تحريم ما أحلَّ اللَّه، وقال الحسنُ بنُ أبي الحَسَنِ: المعنَىٰ: ولا تعتدُوا، فَتُحِلُّوا ما حرَّم اللَّه، فالنهْيَان علَىٰ هذا تضمَّنا الطرفَيْن؛ كأنه قال: لا تشدِّدوا؛ فتحرِّموا حلالاً، ولا تترخَّصوا؛ فتحلُّوا حراماً، قلتُ: وروى مالكٌ في «الموطإ»، عن أبي النَّضْر، قال: قال رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم، لَمَّا ماتَ عثمانُ بْنُ مظعونٍ، ومُرَّ بجَنَازَتِهِ: "ذَهَبْتَ، وَلَمْ تَلْتَبِسْ مِنْهَا بِشَيْءٍ" .

قال أبو عمر في «التمهيد»: هذا الحديثُ في «الموطإ» مقطوعٌ، وقد رُوِّينَاه متصلاً مُسْنَداً من وجه صالحٍ حسن، ثم أسند أبو عمر عن عائشةَ، قالَتْ: "لمَّا ماتَ عُثْمَانُ بنُ مظعونٍ، كشف النبيُّ صلى الله عليه وسلم الثَّوْبَ عن وجْهِهِ، وَقَبَّلَ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَبَكَىٰ بُكَاءً طويلاً، فلما رُفِعَ عَلَى السَّرِيرِ، قَالَ: طُوبَىٰ لَكَ يَا عُثْمَان لَمْ تَلْبَسْكَ الدُّنْيَا وَلَمْ تَلْبَسْهَا" .

قال أبو عمر: كان عثمانُ بنُ مظعونٍ أحد الفُضَلاء العُبَّاد الزاهدين في الدنْيَا من أصْحَاب رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم المتبتِّلين منهم، وقد كان هو وعليُّ بن أبي طالب هَمَّا أنْ يترهَّبا ويَتْرُكَا النساء، ويُقْبِلا على العبادة، ويحرِّما طيِّباتِ الطعامِ علَىٰ أنفسهما، فنزلَتْ: { يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءامَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَـٰتِ مَا أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ... } الآية. ونقل هذا مَعْمَرٌ وغيره عن قتادة. انتهى.

وقوله سبحانه: { وَلَـٰكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ ٱلأَيْمَـٰنَ }: معناه: شدَّدتم، وعَقْدُ اليمينِ كَعَقْدِ الحبل والعهدِ؛ قال الحطيئة: [البسيط]

قَوْمٌ إذَا عَقَدُوا عَقْداً لِجَارِهِمُشَدُّوا الْعِنَاجَ وَشَدُّوا فَوْقَهُ الْكَرَبَا

قال الفَخْر: وأما وجه المناسبة بَيْنَ هذه الآية والَّتي قبلها، فهو ما تقدَّم مِنْ أنَّ قوماً من الصحابة (رضي اللَّه عنهم) حَرَّموا علَىٰ أنفسهم المطاعِمَ والمَلاَذَّ، وحلفوا على ذلك، فلمَّا نهاهم اللَّه تعالَىٰ عن ذلك، قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، فكيف نصنع بأَيْمَانِنَا؟ فأنزل اللَّه تعالَىٰ هذه الآية. انتهى.

وقوله سبحانه: { فَكَفَّـٰرَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَـٰكِينَ }، أي: إشباعهم مرةً واحدةً، وحكم هؤلاءِ ألاَّ يتكرَّر واحدٌ منهم في كفَّارة يمينٍ واحدةً.

واختلفَ في معنَىٰ قوله سبحانه: { مِنْ أَوْسَطِ }، فرأَىٰ مالك وجماعةٌ معه هذا التوسُّط في القَدْر، ورأى ذلك جماعةٌ في الصِّنْف، والوَجْهُ أن يُعَمَّ بلفظ «الوسَطِ» القَدْرُ والصِّنْفُ، فرأَىٰ مالكٌ أنْ يُطْعَمَ المسكينُ بـ «المدينة» مُدًّا بمُدِّ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، وذلك رِطْلٌ وثُلُثٌ، وهذا لضيقِ المعيشة بالمدينة، ورأَىٰ في غيرها أنْ يتوسَّع، ورأَىٰ من يقول: إنَّ التوسُّط إنما هو في الصِّنْف أنْ يكون الرجُلُ المكفِّر يتجنب أدنَىٰ ما يأكل الناس في البلد، وينحطُّ عن الأعلَىٰ، ويكفِّرُ بالوَسَط من ذلك، ومذهب «المدونة»؛ أنْ يراعي المكفِّر عيش البلد، وتأويلُ العلماء في الحانث في اليمين باللَّه: أنه مخيَّر في الإطعام، أو الكُسْوة، أو العِتْق، والعلماءُ على أنَّ العتق أفضلُ ذلك، ثم الكسوة، ثم الإطعام، وبدأ اللَّه تعالَىٰ عباده بالأيسر، فالأيسر، قال الفَخْر: وبدأ سبحانه بالإطعام؛ لأنه أعمُّ وجوداً، والمقصودُ منه التنبيهُ علَىٰ أنه سبحانه يُرَاعِي التخفيفَ، والتسهيلَ في التكاليفِ، وثانيها: أنَّ الإطعام أفضلُ، قلتُ: وهذا هو مشهورُ مذهب مالكٍ. انتهى، ويجزىء عند مالكٍ من الكُسْوَة في الكفارة ما يجزىءُ في الصَّلاة.

وقوله سبحانه: { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ }، أيْ: مؤمنة؛ قاله مالك وجماعةٌ؛ لأن هذا المطْلَق راجعٌ إلى المقيدِ في عِتْقِ الرقبة في قَتْل الخطإ.

وقوله سبحانه: { فَمَن لَّمْ يَجِدْ }: معناه: لم يجدْ في ملكه أحد هذه الثلاث المذكورة. واختلفَ العلماءُ في حدِّ هذا العادِمِ، ومتَىٰ يصحُّ له الصيام؛ فقال الشافعيُّ ومالكٌ وجماعة من العلماء: إذا كان المكفِّر لا يملك إلاَّ قوته، وقُوتَ عياله، يَوْمَهُ وليلته، فله أنْ يصوم، فإن كان عنده زائدٌ علَىٰ ذلك مَا يُطْعِم عشرةَ مساكينَ، لزمه الإطعام، قال الطبريُّ: وقال آخرون: جائز لِمَنْ لم يكُنْ له فضْلٌ علَىٰ رأس ماله الذي يتصرَّف به في معايشه؛ أنْ يصوم، وقرأ أبيُّ بن كعبٍ، وابن مسعود: «ثَلَـٰثَةَ أَيَّامٍ مُتَتَابِعَاتٍ»، وقال بذلك جماعة.

وقال مالك وغيره: إن تابع، فحَسَنٌ، وإن فرق، أجزأ، وقوله: { إِذَا حَلَفْتُمْ }، معناه: وأردتم الحِنْثَ، أو وَقَعْتُمْ فيه.