التفاسير

< >
عرض

يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ ٱلنَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ هَدْياً بَالِغَ ٱلْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذٰلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ ٱللَّهُ مِنْهُ وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنْتِقَامٍ
٩٥
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ ٱلَّذِيۤ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ
٩٦
جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ قِيَٰماً لِّلنَّاسِ وَٱلشَّهْرَ ٱلْحَرَامَ وَٱلْهَدْيَ وَٱلْقَلاَئِدَ ذٰلِكَ لِتَعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلأَرْضِ وَأَنَّ ٱللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ
٩٧
ٱعْلَمُوۤاْ أَنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ وَأَنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ
٩٨
-المائدة

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { يَـٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ ٱلصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ... } الآية: الصَّيْد: مصدرٌ عومِلَ معاملةَ الأسماء، فأوقع على الحَيَوانِ المَصِيدِ، ولفظُ الصيد هنا عامٌّ، ومعناه الخصوصُ فيما عدا ما استثني، وفي الصحيح عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "خَمْسٌ فَوَاسِقُ يُقْتَلْنَ فِي الحِلِّ وَالحَرَمِ: الغُرَابُ، وَالْحِدَأَةُ، وَالفَأْرَةُ، وَالعَقْرَبُ، وَالْكَلْبُ العَقُورُ" ، وأجمع النَّاس على إباحة قتل الحَيَّة، وبَسْطُ هذا في كُتُب الفقْه، و { حُرُم }: جمع حرامٍ، وهو الذي يدخُلُ في الحَرَم، أو في الإحرام، واختلف في قوله: { مُّتَعَمِّداً }، فقال مجاهد وغيره: معناه: متعمِّداً لقتله، ناسياً لإحرامه، فهذا يُكَفِّرُ،وأما إنْ كان ذاكراً لإِحرامه، فهو أعظمُ مِنْ أن يكفِّر، وقد حَلَّ ولا رخْصَة له.

وقال جماعة من أهْل العلْمِ، منهم ابن عباس ومالكٌ والزُّهْرِيُّ وغيرهم: المتعمِّد: القاصد للقتلِ، الذَّاكرُ لإِحرامه، فهو يكفِّر، وكذلك الناسِي والقاتلُ خطأً يكفِّران، وقرأ نافع وغيره: «فَجَزَاءُ مِثْلِ»، ـــ بإضافة الجزاء إلَىٰ «مثل» ـــ، وقرأ حمزة وغيره: «فَجَزَاءُ» ـــ بالرفع ـــ، «مِثْلُ» ـــ بالرفع أيضاً ـــ، واختلفَ في هذه المماثلة، كيف تكُون، فذهب الجمهور إلى أنَّ الحَكَمين ينظران إلَىٰ مِثْلِ الحيوان المَقْتُول في الخِلْقَة، وعظم المرأَىٰ، فيجعلانِ ذلك من النَّعَم جزاءه، وذهب الشَّعْبيُّ وغيره إلى أن المماثلة إنما هي في القيمة يُقَوَّم الصيدُ المقتول، ثم يشتري بقيمته نِدٌّ من النَّعَم، ورد الطبريُّ وغيره هذا القولَ، والنَّعَم: لفظ يقع علَى الإبل والبَقَر والغَنَم، إذا ٱجتمعَتْ هذه الأصنافُ، فإن ٱنفرَدَ كلُّ صِنْفٍ لم يُقَلْ «نَعَم» إلا للإبل وحْدها، وقَصَرَ القرآنُ هذه النازَلَة علَىٰ حَكَمين عدْلَيْن عالِمَيْن بحُكْم النازلة، وبالتقدير فيها، وعلَىٰ هذا جمهورُ الناس.

قال ابنُ وهْب في «العتبية»: من السنة أن يُخَيِّرَ الحَكَمان مَنْ أصاب الصيد؛ كما خَيَّره اللَّه تعالَىٰ في أنْ يخرج هَدْياً بالغَ الكَعْبة، أو كفارةً طعامَ مساكينَ، أو عَدْلَ ذلك صياماً، فإن ٱختار الهَدْيَ، حَكَما عليه بما يريانِهِ نَظيراً لما أصاب ما بينهما وبَيْن أن يكون عَدْلَ ذلك شاةً؛ لأنها أدنَى الهَدْيِ، فما لم يبلُغْ شاةً، حَكَمَا فيه بالطعامِ، ثم خُيِّر في أنْ يطعمه أو يصوم مَكَانَ كُلِّ مُدٍّ يوماً، وكذلك قال مالكٌ في «المدوَّنة»: إذا أراد المصيبُ أنْ يطعم أو يصوم، فَإنْ كان لِمَا أصاب نظيرٌ من النَّعَم، فإنه يقوَّمُ صيدُهُ طعاماً، لاَ دَرَاهِمَ، قال: وإن قوَّماه دراهمَ، وٱشْتُرِيَ بها طعامٌ، لَرَجَوْتُ أنْ يكون واسعاً، والأول أصْوَبُ، فإنْ شاء، أطعمه، وإلا صام مَكَانَ كلِّ مُدٍّ يوماً، وإن زاد ذلك علَىٰ شهرين، أو ثلاثة، وقال يحيـى بن عمر من أصحابنا: إنما يقالُ: كَمْ مِنْ رجلٍ يَشْبَعُ من هذا الصيدِ، فيعرف العددَ، ثم يقال: كَمْ من الطعامِ يُشْبِعُ هذا العَدَدَ؟ فإن شاء، أخرج ذلك الطعام، وإن شاء، صام عدد أمداده، وهذا قولٌ حسنٌ ٱحتاطَ فيه؛ لأنه قد تكونُ قيمةُ الصيدِ مِنَ الطعامِ قليلةً، فبهذا النَّظَر يكثر الإطعام.

وقوله تعالى: { هَدْياً بَـٰلِغَ ٱلْكَعْبَةِ } ذكرت «الكعبة»؛ لأنها أم الحَرَم، والحَرَمُ كلُّه مَنْحَرٌ لهذا الهَدْيِ؛ ولا بد أن يجمع في هذا الهَدْي بَيْن الحِلِّ والحَرَمِ حتَّىٰ يكون بالِغَ الكعبة، فالهَدْيُ لا ينحر إلا في الحَرَمِ.

واختلفَ في الطَّعَام، فقال جماعةٌ: الإطعام والصَّوْمِ حيث شاء المكفِّر من البلاد، وقال عطاء بن أبي رباح وغيره: الهَدْيُ والإطعام بمكَّة، والصوم حيث شِئْتَ.

وقوله سبحانه: { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ }: الذوق هنا مستعارٌ، والوبالُ: سوءُ العاقبةِ، والمرعَى الوَبِيلُ هو الذي يتأذَّىٰ به بَعْد أكله، وعبَّر بـ { أَمَرَه } عن جميع حاله؛ مِنْ قتلٍ وتكْفيرٍ، وحكمٍ علَيْه، ومُضِيِّ مالِهِ، أو تعبِهِ بالصَّوْمِ، واختلف في معنى قوله سبحانه: { عَفَا ٱللَّهُ عَمَّا سَلَف... } الآية: فقال عطاءُ بن أبي رباح، وجماعة: معناه: عفا اللَّه عما سَلَفَ في جاهليَّتكم مِنْ قتلكم الصيد في الحرمة، ومَنْ عاد الآنَ فِي الإسلام، فإن كان مستحلاًّ، فينتقم اللَّه منه في الآخرة، ويكفَّرُ في ظاهر الحُكْم، وإن كان عاصياً، فالنقْمَةُ هي في إلزامُ الكَفَّارة فقَطْ، قالوا: وكلَّما عاد المُحْرِمُ، فهو يكفِّر.

قال * ع *: ويخاف المتورِّعون أنْ تبقى النِّقْمة مع التكفير، وهذا هو قول الفقهاء مالكٍ ونظرائه، وأصحابِهِ (رحمهم اللَّه)، وقال ابن عباس وغيره: أما المتعمِّد، فإنه يكفِّر أول مرَّةٍ، وعفا اللَّه عن ذَنْبه، فإن اجترأ، وعاد ثانياً، فلا يُحْكَم عليه، ويقال له: ينتقم اللَّه منْكَ؛ كما قال اللَّه تعالَىٰ.

وقوله سبحانه: { وَٱللَّهُ عَزِيزٌ ذُو ٱنتِقَامٍ }: تنبيهٌ علَىٰ صفتين تقتضيان خَوْفَ من له بصيرةٌ، ومن خاف، ٱزدَجَر، ومن هذا المعنَىٰ قولُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: "مَنْ خَاَف أَدْلَجَ، وَمَنْ أَدْلَجَ بَلَغَ المَنْزِلَ" ، قلت: والصيد لِلَّهْوِ مكروه، ورَوَىٰ أبو داود في سُنَنه، عن ابنِ عبَّاس، عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم؛ أنه قال: "مَنْ سَكَنَ البَادِيَةَ جَفَا، وَمَنِ ٱتَّبَعَ الصَّيْدَ غَفَلَ، وَمَنْ أتَى السُّلْطَانَ، ٱفْتُتِنَ" . انتهى.

وقوله تعالى: { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ ٱلْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَـٰعاً لَّكُمْ... } الآية: البَحْر: الماء الكثيرُ، مِلْحاً كان أو عَذْباً، وكلُّ نهر كبير: بحرٌ، وطعامه: هو كل ما قَذَفَ به، وما طَفَا عليه؛ قاله جماعة من الصحابة والتابعين ومَنْ بعدهم؛ وهو مذهبُ مالكٍ.

و { مَّتَـٰعاً }: نصبٌ على المَصْدر، والمعنَىٰ: مَتَّعَكُمْ به متاعاً تنتفعُونَ به، وتأْتَدِمُونَ، و { لَكُمْ }: يريدُ حاضري البَحْر ومُدُنِهِ، و { لِلسَّيَّارَةِ }: المسافرينَ، واختلف في مقتضَىٰ قوله سبحانه: { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ ٱلْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً }، فتلقاه بعضهم على العُمُوم من جميع جهاته؛ فقالوا: إنَّ المُحْرِمَ لا يحلُّ له أنْ يصيد، ولا أنْ يأمر من يَصِيد، ولا أن يأكل صيداً صِيدَ من أجله، ولا مِنْ غير أجله، وأنَّ لَحْم الصيد بأيِّ وجه كان حرامٌ على المُحْرِمِ، وكان عمر بنُ الخطَّاب (رضي اللَّه عنه) لاَ يَرَىٰ بأساً للمُحْرِمِ أنْ يأكل ما صَادَهُ حلالٌ لنفسه، أو لحلالِ مثله، وقال بمثل قولِ عمر ـــ عثمانُ بنُ عفَّان والزُّبَيْر بنُ العَوَّام؛ وهو الصحيحُ؛ لأن النبيَّ صلى الله عليه وسلم أَكَلَ مِنَ الحِمَارِ الَّذِي صَادَهُ أبو قَتَادَةَ، وهو حَلاَلٌ، والنبيُّ ـــ عليه السلام ـــ مُحْرِم.

ثم ذكَّر سبحانه بأمر الحَشْر والقيامةِ، مبالغةً في التحذير؛ ولما بان في هذه الآيات تعظيمُ الحَرَمِ والحُرْمة بالإحرام من أجْل الكعبة، وأنَّها بيْتُ اللَّه تعالَىٰ، وعنصر هذه الفَضَائلَ ذَكَرَ سبحانه في قوله: { جَعَلَ ٱللَّهُ ٱلْكَعْبَةَ ٱلْبَيْتَ }؛ تنبيهاً سَنَّهُ في الناس، وهداهم إلَيْهِ، وحَمَلَ عليه الجاهليَّة الجهلاَءَ من ٱلتزامِهِمْ أنَّ الكعبة قِوَامٌ، والهَدْي قِوَامٌ، والقلائد قِوَام، أي: أمر يقوم للناس بالتَّأمين، ووَضْعِ الحربِ أوزارها، وأعلَمَ تعالى أنَّ التزامَ النَّاس لذلك هو ممَّا شرعه وٱرتضاه، و { جَعَلَ }، في هذه الآيةِ: بمعنى «صَيَّر»، والكَعْبَة بيْتُ مكة، وسمي كعبةً لتربيعه، قال أهْل اللُّغَة: كلُّ بَيْتٍ مربَّع، فهو مكعَّب، وكَعْبة، وذهب بعض المتأوِّلين إلى أنَّ معنى قوله تعالى: { قِيَاماً لِّلنَّاسِ }، أي: موضع وُجُوب قيامٍ بالمناسك والتعبُّدات، وضَبْطِ النفوسِ في الشهر الحرام، ومع الهَدْيِ والقلائدِ، قال مَكِّيٌّ: معنى { قِيَاماً لِّلنَّاسِ }، أي: جعلها بمنزلة الرئيس الَّذي يقُومُ به أمر أتباعه، فهي تحجزهم عَنْ ظُلْم بعضهم بعضاً، وكذلك الهَدْيُ والقلائد جُعِلَ ذلك أيضاً قياماً للناس؛ فكان الرجُلُ إذا دَخَل الحَرَمِ أَمِنَ مِنْ عدوه، وإذا ساق الهَدْي كذلك، لم يعرض لَهُ، وكان الرجُلُ إذا أراد الحجَّ، تقلَّد بقلادة مِنْ شعر، وإذا رجع تقلَّد بقلادة من لِحَاءِ شَجَر الحَرَمِ، فلا يعرض له، ولا يُؤْذَىٰ حتى يَصِلَ إلَىٰ أَهله، قال ابنُ زيد: كان الناسُ كلُّهم فيهم ملوكٌ تدفع بعضُهُم عن بعض، ولم يكُنْ في العرب ملوكٌ تدفع عن بعضهم ظُلْمَ بعضٍ، فجعل اللَّه لهم البَيْتَ الحرامَ قياماً يدفَعُ بعضَهُمْ عن بعض. انتهى من «الهداية».

والشهرُ هنا: اسمُ جنسٍ، والمراد الأشهر الثلاثةُ بإجماع من العرب، وشَهْرُ مُضَرَ، وهو رَجَبٌ، وأما الهَدْيُ، فكان أماناً لمن يسوقه؛ لأنه يعلم أنه في عبادةٍ لم يأت لحَرْبٍ، وأما القلائد، فكذلك كان الرجُلُ إذا خَرَج يريدُ الحَجِّ، تقلَّد مِنْ لحاء السَّمُرِ أو غيره شيئاً، فكان ذلك أماناً له، وكذلك إذا انصرفوا، تقلَّدوا من شجر الحَرَمِ، وقوله { ذٰلِكَ }: إشارةٌ إلى أنَّ جعل اللَّه هذه الأمور قياماً.

وقوله سبحانه: { بِكُلّ شَيْءٍ عَلِيمٌ }: عامٌّ عموماً تامًّا في الجزئيَّات ودَقائِقِ الموجودات، والقولُ بغير هذا إلحادٌ في الدِّين وكُفْر.