التفاسير

< >
عرض

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلْلَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لاۤ أُحِبُّ ٱلآفِلِينَ
٧٦
فَلَمَّآ رَأَى ٱلْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ ٱلْقَوْمِ ٱلضَّالِّينَ
٧٧
فَلَماَّ رَأَى ٱلشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي هَـٰذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّآ أَفَلَتْ قَالَ يٰقَوْمِ إِنِّي بَرِيۤءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ
٧٨
إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ ٱلْمُشْرِكِينَ
٧٩
-الأنعام

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ ٱلَّيْلُ رَءَا كَوْكَباً قَالَ هَـٰذَا رَبِّي } الآية: جَنَّ اللَّيْلُ: ستَرَ وغطَّىٰ بظلامه، ذهب ابن عباس وناسٌ كثيرون إلى أنَّ هذه القصة وقعَتْ في حال صباه وقبل البلوغ والتكليفِ، ويحتملُ أنْ تكون وقعتْ له بعد بلوغه وكونه مكلَّفاً، وحكى الطبريُّ هذا عَنْ فرقةٍ، وقالتْ: إنه ٱستفْهَمَ قومَهُ؛ علَىٰ جهة التوقيفِ والتوبيخِ، أي: هذا ربِّي، وحكي أن النمرودَ جَبَّارَ ذلك الزمان رأَىٰ له منجِّموه أنَّ مولوداً يُولَدُ في سَنَةِ كذا في عمله يكون خَرَابُ المُلْك علَىٰ يديه، فجعل يَتَتَبَّعُ الحَبَالَىٰ، ويوكِّل بهن حُرَّاساً، فمن وضَعَتْ أنثَىٰ، تُركَتْ، ومَنْ وضعتْ ذكَراً، حمل إلى المَلِك فذَبَحه، وأن أمَّ إبراهيمَ حَمَلَتْ، وكانَتْ شابَّة قويةً، فسَتَرَتْ حملها، فلما قربت ولادتُها، بعثَتْ أبا إبراهيم إلى سَفَر، وتحيَّلت لمضيِّه إليه، ثم خرجَتْ هي إلى غارٍ، فولدَتْ فيه إبراهيم، وتركته في الغار، وكانَتْ تتفقَّده فوجدَتْه يتغذَّىٰ بأنْ يمصَّ أصابعه، فيخرج له منها عسلٌ وسَمْنٌ ونحو هذا، وحُكِيَ: بل كان يغذِّيه مَلَكٌ، وحُكِيَ: بل كانَتْ أمه تأتيه بألبان النِّساء التي ذُبِحَ أبناؤهن، واللَّه أعلم، أيُّ ذلك كان، فشبَّ إبراهيم أضعافَ ما يشب غيره، والمَلِكُ في خلالِ ذلك يحسُّ بولادته، ويشدِّد في طلبه، فمكَثَ في الغار عَشَرَةَ أعوامٍ، وقيل: خمسَ عَشْرة سنةً، وأنه نظر أول ما عَقَل من الغارِ، فرأى الكواكِبَ، وجرَتْ قصة الآية، واللَّه أعلم.

فإن قلنا بأنه وقعَتْ له القصَّة في الغارِ في حال الصَّبْا، وعدمِ التكليفِ؛ علَىٰ ما ذهب إليه بعض المفسِّرين، ويحتمله اللفظ، فذلك ينقسمُ علَىٰ وجْهين: إما أنْ يجعل قوله: { هَـٰذَا رَبِّي } تصميماً وٱعتقاداً، وهذا باطلٌ؛ لأن التصميم على الكُفْر لم يقع من الأنبياء ـــ صلوات اللَّه عليهم ـــ، وإما أنْ نجعله تعريضاً للنظر والاستدلال؛ كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ البهيُّ ربِّي؛ إنْ عَضَّدتَ ذلك الدلائلُ.

وإن قلنا: إن القصَّة وقَعَتْ له في حال كِبَرِهِ، وهو مكلَّف، فلا يجوز أنْ يقولَ هذا مصمِّماً ولا مُعَرِّضاً للنظر؛ لأنها رتبة جهلٍ أو شكٍّ، وهو ـــ عليه السلام ـــ منزَّه معصوم من ذلك كلِّه؛ فلم يبق إلاَّ أنْ يقولها على جهة التَّقْرير لقومه والتوبيخ لهم، وإقامةِ الحُجَّة عليهم في عبادة الأصنام؛ كأنه قال: أَهَذَا المُنِيرُ ربِّي، وهو يريد: علَىٰ زعمكم؛ كما قال تعالَىٰ: { { أَيْنَ شُرَكَائِيَ } [النحل:27]، أي: على زعمكم، ثم عَرَضَ إبراهيم عليهم مِنْ حَرَكَة الكوكب وأفولِهِ أَمارةَ الحدوث، وأنه لا يصلحُ أن يكون ربًّا، ثم في آخر أعظم منه وأحْرَىٰ كذلك، ثم في الشَّمْس كذلك؛ فكأنه يقول: فإذا بان في هذه المُنِيرَاتِ الرفيعةِ؛ أنها لا تصلح للربوبيَّة، فأصنامكم التي هي خشبٌ وحجارةٌ أحْرَىٰ أنْ يبين ذلك فيها؛ ويَعْضُدُ عندي هذا التأويلَ قولُهُ: { إِنّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }، قلت: وإلى ترجيحِ هذا أشار عِيَاضٌ في «الشفا»؛ قال: وذهب معظمُ الحُذَّاق من العلماء والمفسرين إلى أن إبراهيم إنما قال ذلك مبكِّتاً لقومه، ومستدلاًّ عليهم.

قال * ع *: ومَثَّلَ لهم بهذه الأمور؛ لأنهم كانوا أصْحَابَ علْمِ نجومٍ ونظرٍ في الأفلاك، وهذا الأمر كلُّه إنما وقع في ليلةٍ واحدةٍ، رأى الكوكب، وهو الزُّهْرَةُ في قولِ قتادة، وقال السُّدِّيُّ: هو المشتري جانحاً إلى الغروب، فلما أَفَلَ بزغ القمر، وهو أول طلوعه، فَسَرَى الليل أجْمَعُ، فلما بزغَتِ الشمسُ، زال ضوء القمرِ قبلها؛ لانتشار الصباحِ، وخَفِيَ نوره، ودنا أيضاً مِنْ مغربه، فسمَّىٰ ذلك أفولاً؛ لقربه من الأُفُولِ التامِّ؛ علَىٰ تجوُّز في التسمية، وهذا الترتيبُ يستقيمُ في الليلة الخامسةَ عَشَرَ من الشَّهْر إلى ليلة عشْرين، وليس يترتَّب في ليلةٍ واحدة؛ كما أجمع أهل التفسير، إلاَّ في هذه الليالي، وبذلك يصحُّ التجوُّز في أفول القمر، «وأَفَلَ»؛ في كلام العرب: معناه: غاب، وقيل: معناه: ذَهَبَ، وهذا خلافٌ في العبارة فقَطْ، والبزوغُ في هذه الأنوارِ: أوَّلُ الطلوع، وما في كَوْنِ هذا الترتيب في ليلةٍ من التجوُّز في أفول القمر؛ لأنَّ أفوله لو قدَّرناه مَغِيبَهُ، لكان ذلك بَعْد بزوغ الشمسِ، وجميع ما قلناه يعطيه الاعتبارُ، و { يَهْدِنِي }: يرشدْنِي؛ وهذا اللفظ يؤيِّد قول من قال: إن القصة في حالِ الصِّغَر، والقومُ الضالُّون هنا عبدةُ المخلوقاتِ؛ كالأصنام وغيرها، ولما أفَلَتِ الشمسُ، لم يبقَ شيءٌ يمثِّل لهم به، فظهرَتْ حُجَّته، وقَوِيَ بذلك علَىٰ منابذتهم والتبرِّي من إشراكهم، وقوله: { إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ }: يؤيِّد قول من قال: إن القصة في حال الكِبر والتكليفِ، و { وَجَّهْتُ وَجْهِيَ }، أي: أقبلْتُ بقَصْدي وعبادتِي وتوحيدِي وإيمانِي للذي فَطَر السمواتِ والأرْضَ، أي: ٱخترعها و { حَنِيفاً }: أي مستقيماً، والحَنَف: المَيْل؛ فكأنه مال عن كلِّ جهةٍ إلى القِوَامِ.