التفاسير

< >
عرض

فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ وَٱلْجَرَادَ وَٱلْقُمَّلَ وَٱلضَّفَادِعَ وَٱلدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَٱسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ
١٣٣
وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَىٰ ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا ٱلرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ
١٣٤
فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ ٱلرِّجْزَ إِلَىٰ أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ
١٣٥
فَٱنْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي ٱلْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ
١٣٦
وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ عَلَىٰ بَنِيۤ إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ
١٣٧
-الأعراف

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ ٱلطُّوفَانَ... } الآية: الطُّوفانُ: مصْدَر مِنْ قولك: طَافَ يَطُوفُ، فهو عامٌ في كلِّ شيء يطُوفُ إِلاَّ أن ٱستعمال العَرَب له كثيرٌ في الماءِ والمَطَر الشديد، قال ابن عبَّاس وغيره: الطُّوفَان في هذه الآية: هو المطر الشديدُ، أصابهم وتوالَىٰ عليهم حتَّى هدَّم بيوتَهُمْ وضيَّق عليهم، وقيل: طَمَّ فَيْضُ النِّيلِ عليهم، ورُوي في كيفيَّته قصصٌ كثيرةٌ، وقالتْ عائشة رضي اللَّه عنها، عن النَبيِّ صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ الطُّوفان المراد في هذه الآية هو المَوْتُ" .

قُلْتُ: ولو صحَّ هذا النقلُ، لم يبق مُجْمَلاً وروي أن اللَّه عز وجل لما والَىٰ عليهم المطر، غَرِقَتْ أرضهم، وامتنعوا من الزراعة قالوا: يا موسىٰ ٱدع لنا ربك في كَشْف هذا الغَرَقِ، ونحن نؤمنُ، فدعا، فكَشَفَه اللَّه عنْهم، فأنبتتِ الأرضُ إنباتاً حسناً، فنكَثُوا، وقالوا: ما نودُّ أنَّا لم تمْطَرْ، وما هذا إِلا إِحسانٌ مِنَ اللَّه إِلينا، فبعث اللَّه علَيْهم حينئذٍ الجَرَادَ، فأكل جميعَ ما أنبتَتِ الأرض، فروى ابنُ وَهْبٍ، عن مالكٍ؛ أنه أكل حتى أبوابَهم، وأكل الحديدَ والمساميرَ، وضيَّق عليهم غايةَ التضْييق، وترك اللَّهُ مِنْ نباتهم ما يَقُومُ به الرَّمق، فقالوا لموسى: ادع لنا ربَّك في كشف الجراد، ونحن نؤمن، فدعا اللَّه فكَشَفه، ورجعوا إِلى كفرهم، فبعث اللَّه عليه القُمَّل، وهي الدُّبَّىٰ صغارُ الجَرَادِ، الذي يثب ولا يطير؛ قاله ابن عباس وغيره، وقرأ الحسن: «القَمْل» ـــ بفتح القاف، وسكون الميم ـــ فهي على هذا القَمْلُ المعروفُ، وروي أن موسى مشَىٰ بعصاه إِلى كثيب أَهِيلٍ، فضربَهُ، فٱنتشر كُلُّه قُمَّلاً في مِصْر، ثم إِنهم قالوا: ادع في كَشْفِ هذا، فدعا فرَجَعُوا إِلىٰ طُغْيَانهم، وكُفرهم، فبعَثَ اللَّه عَلَيْهم الضَّفَادَع، فكانَتْ تدخلُ في فَرُشِهِمْ، وبَيْن ثيابهم، وإِذا هَمَّ الرجُلُ أن يتكلَّم، وَثَبَ ضفْدَعٌ في فَمِهِ.

قال ابن جُبَيْر: كان الرجُلُ يجلسُ إلى ذقنه في الضفادع.

وقال ابنُ عبَّاس: لما أُرْسِلَتِ الضفادِعُ عليهم، وكانَتْ بَرِّيَّةً، سمعتْ وأطاعت، فَجعلتْ تقذفُ أنفسها في القُدُور، وهي تغلي، فأثابها اللَّه بحُسْن طاعتها بَرْدَ الماء، فقالوا: يا موسَىٰ، ٱدع في كَشْف هذا فدعا، فكشفَ، فرجَعُوا إِلى كُفْرهم، فبعث اللَّه عليهم الدَّم، فرجع ماؤهم الذي يستقونه، ويَحْصُلُ عندهم دماً، فرويَ أنه كان يَسْتَقِي القبْطِيُّ والإسرائيليُّ بإِناء واحدٍ، فإِذا خرج الماء، كان الذي يلي القِبْطِيَّ دماً، والذي يلي الإِسرائيليَّ ماءً إِلى نحو هذا، وشبهه، من العذاب بالدَّمِ المنقلبِ عن الماء، هذا قول جماعة من المتأوِّلين.

وقال زيدُ بن أسْلَمَ: إِنما سلط عليهم الرُّعَاف، فهذا معنى قوله: { وَٱلدَّمَ }، وقوله: { آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ } التفصيل: أصله في الأجرام: إِزالة ٱلاتصالِ، فهو تفريقُ شيئَيْن، فإِذا استعمل في المعاني، فيراد به أنه فُرِقَ بينها، وأُزِيلَ ٱشتباكها وإِشكالها، فيجيء من ذلك بيانها.

وقالتْ فرقةٌ: { مُّفَصَّلاَتٍ } يراد بها: مفرَّقات في الزمَن.

قال الفخر: قال المفسِّرون: كان العذابُ يَبْقَىٰ عليهم من السَّبْت إِلى السَّبْت، وبَيْنَ العذابِ والعذابِ شَهْرٌ، وهذا معنَىٰ قوله: { آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ }، على هذا التأويل، أي: فصلَ بين بعضها وبَعْضٍ بزمانٍ تمتحنُ فيه أحوالهم، ويُنْظَرُ؛ أيقبلون الحُجَّة والدليلَ، أم يستمرُّون على الخلاف والتقليد. انتهى.

وقوله عز وجل: { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ ٱلرِّجْزُ قَالُواْ يٰمُوسَى ٱدْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ... } الآية: «الرّجز»: العذابُ، والظاهر من الآية أنَّ المراد بالرجْزِ هنا العذابُ المتقدِّم الذكْر من الطُّوفان والجراد وغيره.

وقال قوم: [إن] الرجْزَ هنا طاعونٌ أنزل اللَّه بهم، واللَّه أعلم، وهذا يحتاجُ إِلَىٰ سندٍ، وقولهم: { بِمَا عَهِدَ عِندَكَ } لفظ يعمُّ جميع الوسائل بَيْنَ اللَّه وبَيْنَ موسَىٰ من طاعةٍ من موسَىٰ ونعمةٍ من اللَّه تبارك وتعالَىٰ، ويحتمل أنْ يكون ذلك منهم علىٰ جهَةِ القَسَمِ عَلَىٰ موسَى، وقولُهم: { لَئِن كَشَفْتَ } أي: بدعائك، { لَنُؤْمِنَنَّ } { وَلَنُرْسِلَنَّ } قسمٌ وجوابُه، وهذا عهدٌ من فرعونَ وَمَلَئِهِ، وروي أنه لما انكشف العذابُ، قال فرعون لموسى: اذهب ببني إسرائيل حيْثُ شِئْتَ، فخالفه بعْضُ مَلَئِهِ، فرجع ونكث، و«إذا» هنا للمفاجأة، والأَجَلُ: يراد به غايةُ كُلِّ واحد منهم بما يخصُّه من الهلاكِ والموتِ؛ كما تقول: أخَّرْتُ كذا إِلى وقْتٍ، وأنْتَ لا تريد وقْتاً بعينه، فاللفظ متضمِّن توعُّداً مَّا، { وَكَانُواْ عَنْهَا غَـٰفِلِينَ } أي: غافلين عما تضمَّنته الآيات من النجاة والهدىٰ.

وقوله تعالى: { وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَـٰرِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا... } الآية: { ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } كنايةٌ عن بني إسرائيل، و{ مَشَـٰرِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَـٰرِبَهَا }. قال الحسنُ وغيره: هي الشامُ. وقالتْ فرقة: يريد الأرضَ كلَّها؛ وهذا يتَّجه إِمَّا على المَجازِ؛ لأنه ملَّكهم بلاداً كثيرة، وإِما على الحقيقة في أَنَّه ملك ذرِّيَّتهم، وهمْ سليمانُ بنُ دَاوُدٌ، ويترجَّح التأويل الأَول بوَصْف الأرض بأنها التي بَارَكَ فيها سبحانه.

وقوله سبحانه: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ٱلْحُسْنَىٰ }، أي: ما سبق لهم في علمه وكلامِهِ في الأزلِ من النَّجَاة من عدوِّهم، والظهور عليه؛ قاله مجاهد، و{ يَعْرِشُونَ } قال ابن عباس ومجاهد: معناه: يبنون.

قال * ع *: رأيتُ للحسنِ البصريِّ رحمه اللَّه؛ أنَّه احتجَّ بقوله سبحانه: { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ... } إلى آخر الآية؛ على أنه ينبغي أَلاَّ يخرج عن ملوك السُّوء، وإِنما ينبغي أنْ يُصْبَر عليهم؛ فإِن اللَّه سبحانه يدمِّرهم، ورأَيْتُ لغيره؛ أنه إِذا قابل الناسُ البلأَ بمثله، وَكَّلَهُمُ اللَّهُ إلَيْه، وإِذا قابلوه بالصبر، وانتظارِ الفَرَجِ، أتى اللَّه بالفَرَج، ورُوِي هذا أيضاً عن الحسن.