التفاسير

< >
عرض

إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن ٱلسَّمَآءِ مَآءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ ٱلشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَىٰ قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ ٱلأَقْدَامَ
١١
إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى ٱلْمَلاۤئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَاقِ وَٱضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ
١٢
ذٰلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ
١٣
-الأنفال

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { إِذْ يُغَشِّيكُمُ ٱلنُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ }. القَصْدُ تعديد نِعَمِهِ سبحانه على المؤمنين في يوم بَدْرٍ، والتقدير: اذكروا إذ فعلنا بكم كذا، وإذ فعلنا كذا، والعامل في «إذا» «اذكروا» وقرأ نافع: «يُغْشِيكُم» - بضم الياء، وسكون الغين - وقرأ حمزة وغيره: { يُغَشِّيكم } - بفتح الغين وَشَدِّ الشين المكسورة، وقرأ ابن كثير وغيره: «يَغْشَاكم» - بفتح الياء وألف بعد الشين - «النُّعَاسُ» بالرفع، ومعنى { يُغَشِّيكُمُ }: يغطيكم، والنُّعَاسُ أَخَفُّ النوم، وهو الذي يصيب الإِنْسَانَ، وهو واقف أو مَاشٍ، وينص على ذلك قَصَصُ هذه الآية؛ أنهم إنما كان بهم خَفْقٌ بالرُّؤُوس، وقوله: { أَمَنَةً } مصدر من أَمِنَ يَأْمَنُ أَمْنَاً وأَمَنَةً وأَمَاناً، والهاء فيه لتأنيث المصدر، كما هي في المَسَاءَةِ والحَمَاقَةِ والمَشَقَّةِ.

وروي عن ابن مَسْعُودٍ أنه قال: النُّعَاسُ عند حضور القِتَالِ عَلاَمَةُ أمن، وهو من اللَّه، وهو في الصَّلاَةِ من الشيطان.

قال * ع *: وهذا إنما طريقه الوَحْيُ، فهو لا مَحَالَةَ يسنده وقوله سبحانه: { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّنَ ٱلسَّمَاءِ مَاءً لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ }. وذلك أن قَوْماً من المؤمنين لحقتهم جَنَابَاتٌ في سفرهم، وعدموا المَاءَ قَرِيبَ بَدْرٍ، فصلوا كذلك، فَوَسْوَسَ الشيطان في نفوس بعضهم مع تخويفه لهم من كثرة العَدُوِّ وقلتهم، وأيضاً فكانت بينهم وبين مَاءِ بَدْرٍ مَسَافَةٌ، من رمل دَهْسٍ تَسُوخُ فيها الأَرْجُلُ، فكانوا يتوقعون أن يسبقهم الكُفَّارُ إلى ماء بدر، فأنزل اللَّه تلك المَطَرَةَ فَسَالَتِ الأودية، فاغتسلوا، وطهرهم اللَّه تعالى فذهب رِجْزُ الشيطان، وَتَدَمَّثَ الطريق، وتَلَبَّدَتْ تلك الرِّمَالُ، فسهل اللَّه عليهم السير، وأمكنهم الإسراع حتى سبقوا إلى ماءَ بَدْرٍ، وأصاب المشركين من ذلك المَطَرَ ما صَعَّبَ عليهم طريقهم، فسر المؤمنون، وتبينوا من فِعْلِ اللَّه بهم ذلك قَصْدَ المعونة لهم، فطابت نفوسهم، واجتمعت، وتَشَجَّعَتْ، فذلك الرَّبْطُ على قلوبهم، وتثبيت أقدامهم على الرملة اللَّيِّنَةِ.

والضمير في «به» على هذا الاحتمال عَائِدٌ على الماء، ويحتمل عَوْدُهُ على رَبْطِ القلوب، ويكون تثبيت الأقدام عِبَارَةً عن النصر والمعونة في مَوْطِنِ الحَرْبِ، ونزول الماء كان في الزمن قبل تَغْشِيَةِ النعاس، ولم يترتب كذلك في الآية، إذ القَصْدُ فيها تَعْدِيدُ النعم فقط.

وقوله سبحانه: { فَثَبِّتُواْ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } وتثبيتهم يكون بقتالهم، وبحضورهم، وبأقوالهم المُؤْنِسَةِ، ويحتمل أن يكون التَّثْبِيتُ بما يلقيه المَلَكُ في القلب بِلَمَّتِهِ من تَوَهُّمِ الظَّفَرِ، واحتقار الكفار، وبخواطر تشجعه.

قال * ع *: ويقوي هذا التأويل مطابقة قوله تعالى: { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } وعلى هذا التأويل يجيء قوله: { سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ ٱلرُّعْبَ } مخاطبة للملائكة، ويحتمل أن يكون مخاطبة للمؤمنين. وقوله سبحانه: { فَٱضْرِبُواْ فَوْقَ ٱلأَعْنَـٰقِ } قال عكرمة: هي على بابها، وأراد الرؤوس، وهذا أنبل الأقوال.

قال * ع *: ويحتمل عندي أن يريد وَصْفَ أبْلَغِ ضربات العنق وأحكمها، وهي الضربة التي تكون فَوْقَ عَظْمِ العنق دون عَظْمِ الرأس في المفصل، كما وصف دريد بن الصِّمَّة، فيجيء على هذا فوق الأَعْنَاقِ متمكناً.

والبَنَان: قالت فرقة: هي المَفَاصِلُ؛ حيث كانت من الأعضاء.

وقال فرقة: البنان الأصابع، وهذا هو الصحيح؛ لأنه إذا قطع البنان لم ينتفع صَاحِبُهُ بشيء من أعضائه واستأسر.

و{ شَاقُّواْ }: معناه خالفوا ونَابَذُوا، وقطعوا، وهو مأخوذ من الشَّقِّ، وهو القَطْعُ والفَصْلُ بين شيئين، وعبر المفسرون عن قوله: { شَاقُّواْ } أي: صاروا في شق غير شقه.

قال * ع *: وهذا وإن كان معناه صَحِيحاً، فتحرير الاشتقاق إنما هو ما ذَكَرْنَاهُ، وقوله: { فَإِنَّ ٱللَّهَ شَدِيدُ ٱلْعِقَابِ } جَوَابٌ، للشرط تضمن وَعِيداً وَتَهْدِيداً.