التفاسير

< >
عرض

إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءَايَٰتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَٰناً وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
٢
ٱلَّذِينَ يُقِيمُونَ ٱلصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ
٣
أُوْلۤـٰئِكَ هُمُ ٱلْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
٤
-الأنفال

الجواهر الحسان في تفسير القرآن

وقوله سبحانه: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ ٱلَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ... } الآية، { إِنَّمَا } لفظ لا تُفَارِقُهُ المُبَالَغَةُ والتأكيد؛ حيث وقع، ويصلح مع ذلك لِلْحَصْرِ، بحسب القرينة، فقوله هنا: { إِنَّمَا ٱلْمُؤْمِنُونَ } ظاهرها أنَّها للمبالغة والتأكيد فقط، أي الكاملون.

قال الشَّيْخُ أبو عَبْدُ اللَّه محمد بن محمد بن أحمد الأَنْصَارِيّ الساحلي المالقي في كتابه الذي ألَّفَهُ في «السلوك»: واعلم أن الإنْسَانَ مطلوب بطَهَارَة نفسه، وتزكيتها، وطُرُقُ التزكية وإن كَثُرَتْ، فطريق الذِّكْرِ أسرع نفعاً، وأقرب مَرَاماً، وعليه دَرَجَ أكثر مشائخ التربية، ثم قال: والذِّكْرُ ضد النسيان، والمطلوب منه عِمَارَةُ الباطن باللَّهِ تعالى في كل زمان، ومع كل حال؛ لأن الذِّكْرَ يَدُلُّ على المذكور لا محالة، فذكره ديدنا يوجب المَحَبَّةَ له، والمعرفة به، والذكر وإن اختلف ألفاظه ومعانيه، فلكل معنًى [من] معانيه اختصاص بنوعٍ من التَّحْلِيَةِ والتخلية، والتزكية، ثم قال: والذِّكْرُ على قسمين: ذكر العامة، وذِكْرُ الخاصة. أما ذِكْرُ العامة، وهو ذِكْرُ الأجور، فهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بما شاء من ذِكْرِهِ لا يقصد غير الأجور والثواب، وأما ذكر الخَاصَّة، فهو ذِكْرُ الحضور، وهو أن يذكر العَبْدُ مَوْلاَهُ بأذكار مَعْلُومَةٍ، على صفة مَخْصُوصَةٍ؛ لِينال بذلك المَعْرِفَةَ باللَّهِ سبحانه بطهارة نَفْسِهِ من كل خُلُقٍ ذَمِيمٍ، وتحليتها بكل خُلُق كريم. انتهى.

و{ وَجِلَتْ }: معناه: فَزِعَتْ، وَرَقَّتْ، وخافت، وبهذه المعاني فسرتها العُلَمَاءُ.

و{ تُلِيَتْ } معناه: سُرِدَتْ، وقرئت، والآيات هنا: القرآن المَتْلُوُّ.

ومن كلام صاحب «الكلم الفارقية»: إن تَيَقَّظْتَ يقظة قلبية، وانْتَبَهْتَ ٱنتباهةً حقيقية لم تر في وَقْتِكَ سَعَةً لغير ذِكْرِ ربك، واستشعار عظمته، ومهابته، والإِقبال على طاعته، ما في وَقْتِ العاقل فَضْلَةٌ في غير ما خُلِقَ له من عبادة خالقه، والاهتمام بمَصَالِحِ آخرته، والاستعداد لمَعَادِهِ، أعرف العبيد بجلالِ مَوْلاَهُ أَخْلاَهُمْ عما سواه، وأكثرهم لَهَجاً بذكره، وتعظيماً لأمره، وأحسنهم تَأَمُّلاً لآثار صنعته، وبدائع حِكْمته، وأشدهم شَوْقاً إلى لقائه، ومشاهدته انتهى.

وزيادة الإيمان على وجوه كلها خَارِجٌ، عن نَفْسِ التصديق: منها أن المؤمن إذا كان لم يسمع حُكْماً من أحكام اللَّه عز وجل في القرآن، فنزل على النبي صلى الله عليه وسلم فسمعه، فآمن به، زاد إيماناً إلى سائر ما قد آمن به؛ إذ لكل حُكْم تَصْدِيقٌ خاص، وهذا يَتَرتَّبُ فيمن بَلَغَهُ ما لم يكن عنده من الشرع إلى يوم القِيَامَةِ، وترتب زيادة الإِيمان بزيادة الدَّلاَئِلِ، ولهذا قال مالك: الإِيمان يَزِيدُ ولا ينقص، ويترتب بِزِيَادَةِ الأعمال البَرَّةِ على قول من يَرَى أنَّ لَفْظَةَ الإيمان واقعة على التَّصْدِيقِ والطاعات، وهؤلاء يقولون: يزيد وينقص.

وقوله سبحانه: { وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } عبارة جامعة لِمَصَالِحِ الدنيا والآخرة إذا اعتبرت، وعمل بحسبها في أن يَمْتَثِلَ الإنسان ما أمر به، ويبلغ في ذلك أَقْصَى جهده دون عجز، وينتظر بعدما وعد به من نَصْرٍ، أو رزق، أو غيره، وهذه أَوْصَافٌ جَمِيلَةٌ وَصَفَ اللَّه بها فُضَلاَءَ المؤمنين، فجعلها غاية للأُمَّةِ يَسْتَبِقُ إِليها الأَفَاضِلُ، ثم أَتْبَعَ ذلك وَعْدَهُمْ وَوَسْمَهُمْ بإِقامة الصلاة، ومَدَحَهُمْ بها حَضَّا على ذلك.

وقوله: { وَمِمَّا رَزَقْنَـٰهُمْ يُنفِقُونَ }. قال جَمَاعَةٌ من المفسرين: هي الزَّكَاةُ وإِنما حملهم على ذلك اقْترَانُ الكلام بإِقَامَةِ الصَّلاَةِ، وإِلا فهو لفظ عام في الزكاة، ونوافل الخَيْرِ، وَصِلاَتِ المستحقين، ولفظ ابنَ عَبَّاسٍ في هذا المعنى محتمل.

وقوله سبحانه: { لَّهُمْ دَرَجَـٰتٌ } ظَاهِرُهُ، وهو قَوْلُ الجمهور أن المراد مَرَاتِبُ الجنة، ومنازلها، ودرجاتها على قَدْرِ أعمالهم، { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } يريد مَآكِلَ الجنة، ومَشَارِبَهَا، و{ كَرِيمٌ } صفة تقتضي رَفْعَ المَذَامِّ، كقوله: ثوب كَرِيمٌ .