التفاسير

< >
عرض

ٱلْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ
٢
-الفاتحة

اللباب في علوم الكتاب

قولُه تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ }.
الحمدُ: الثناءُ على الجَمِيل سواءٌ كانت نِعْمةً مْبْتدأة إلَى أَحَدٍ أَمْ لاَ.
يُقال: حَمَدْتُ الرجلَ على ما أَنْعَمَ به، وحمدتُه على شَجَاعته، ويكون باللسانِ وَحْدَهُ، دون عمل الجَوَارِح، إذْ لا يُقالُ: حمدت زيداً أيْ: عملت له بيدي عملاً حسناً، بخلاف الشكر؛ فإنه لا يكونُ إلاّ على نعمةٍ مُبْتَدأةٍ إلى الغير.
يُقال: شَكَرْتُه على ما أعطاني، ولا يُقالُ: شكرتُه على شَجَاعَتِه، ويكون بالقلبِ، واللِّسَانِ، والجَوَارح؛ قال الله تعالى:
{ { ٱعْمَلُوۤاْ آلَ دَاوُودَ شُكْراً } [سبأ: 13] وقال الشاعرُ: [الطويل].

37- أَفَادَتْكُمُ النَّعْمَاءُ مِنِّي ثَلاثَةً يَدِي وَلِسَانِي وَالضَّمِيرَ الْمُحَبَّبَا

فيكونُ بين الحَمْدِ والشُّكْرِ عُمُومٌ وخُصُوصٌ من وجه.
وقيل: الحمدُ هو الشكر؛ بدليلِ قولِهم: "الحمدُ لِلَّهِ شُكْراً".
وقيل: بينهما عُمومٌ وخصوص مُطْلق.
والحمدُ أَعَمُّ مِنَ الشُّكْرِ.
وقيلَ: الحمدُ: الثناءُ عليه تعالى [بأوصافِه، والشكرُ: الثناءُ عليهِ بِأَفْعَاله] فالحامِدُ قِسْمَانِ: شاكِرٌ ومُثْنٍ بالصفاتِ الجَمِيلة.
وقيل: الحمدُ مَقْلُوبٌ من المَدْحِ، وليس بِسَدِيدٍ - وإِنْ كان منقولاً عن ثَعْلَب؛ لأنَّ المقلوبَ أقلُّ اسْتِعْمالاً من المقلوب منه، وهذان مُسْتَوِيَان في الاستعمالِ، فليس ادعاءُ قلبِ أَحَدِهَما مِنَ الآخر أَوْلَى من العَكْس، فكانا مادّتين مُسْتَقِلَّتَيْن.
وأيضاَ فإنه يمتنعُ إطلاقُ المدْحِ حيثُ يَجُوزُ إطلاقُ الحَمْد، فإنه يُقالُ: حمدتُ الله - تعالى - ولا يقال: مَدَحْتُه، ولو كان مَقْلُوباً لما امتنع ذلك.
ولقائلٍ: أَنْ يَقُولَ: منع من ذلك مانِعٌ، وهو عَدَمُ الإِذْنِ في ذلك.
وقال الرَّاغِبُ: "الحَمْدُ لله": الثناءُ بالفَضِيلَةِ، وهو أخصُّ من المدحِ، وأَعَمُّ من الشُّكْرِ، فإنَّ المدْحَ يقال فيما يكونُ من الإنسانِ باختيارِه، وما يكونُ منه بغَيْرِ اختيار، فقد يُمْدَح الإنسان بطول قَامَتِهِ، وصَبَاحة وجهه، كما يمدح ببذل ماله وشجاعته وعلمه، والحمدُ يكونُ في الثَّاني دُونَ الأوّلِ.
قال ابنُ الخَطِيبِ -رحمه الله تعالى -: الفَرْقُ بين الحَمْدِ والمَدْحِ من وجوه:
أحدها: أن المَدْحَ قد يحصلُ لِلْحَيِّ، ولغيرِ الحَيِّ? أَلاَ تَرَى أَنَّ من رَأَى لُؤْلُؤَةً في غايةِ الحُسْنِ، فإنه يَمْدَحُها؟ فثبت أَنَّ المدحَ أَعمُّ من الحمدِ.
الثَّاني: أن المدحَ قد يكونُ قَبْلَ الإِحْسَانِ، وقد يكونُ بعدَه، أما الحمدُ فإنه لا يكونُ إلاَّ بعد الإحسان.
الثالث: أنَّا المدحَ قَدْ يكونُ مَنْهِياً عنه؛ قال عليه الصلاةُ والسلامُ:
"احْثُوا التُّرَابَ في وُجُوهِ المَدَّاحِينَ" . أما الحمدُ فإنه مأمورٌ به مُطْلَقاً؛ قال - عليه الصلاة والسلام -: "مَنْ لَمْ يَحْمَدِ النَّاسَ لَمْ يَحْمَدِ اللهَ"
الرابعُ: أنَّ المدحَ عبارةٌ عنِ القولِ الدَّالُّ على كونه مُخْتَصاً بنوع من أنواع الفَضَائل.
وأمّا الحمدُ فهو القولُ الدّالُّ على كونه مُخْتَصًّا بِفَضِيلة مُعَيَّنَةٍ، وهي فضيلةُ الإنعامِ والإحسان، فثبت أنَّ المدحَ أعمُّ من الحمدِ.
وأَمَّا الفرقُ بين الحمدِ والشُّكْرِ، فهو أَنَّ الحمدَ يَعُمُّ إذا وَصَلَ ذلك الإنْعَامُ إليك أَوْ إلَى غَيْرِك، وأما الشُّكْرُ، فهو مُخْتَصٌّ بالإنعامِ الواصلِ إليك.
وقال الرَّاغِبُ -رحمه الله -: والشكرُ لا يُقالُ إلاَّ في مُقَابلة نعمة، فكلُّ شُكْرٍ حَمْدٌ، وليس كُلُّ حمدٍ شُكْراً، وكل حمد مَدْحٌ، وليس كُلُّ مَدْحٍ حَمداً.
ويقال: فُلانٌ مَحْمُودٌ إذَا حُمِد، ومُحَمَّدٌ وُجِدَ مَحْمُوداً، ومحمد كثرت خصالُه المحمودَةُ.
واحمدُ أَيْ: أَنَّه يَفُوقُ غَيْرَه في الحَمْدِ.
والألفُ: واللام في "الحَمْد" قِيل: للاستغراقِ.
وقيل: لتعريفِ الجِنْس، واختاره الزَّمَخْشَرِيُّ؛ وقال الشاعر: [الطويل]

38-.................. إلَى الْمَاجِدِ الْقَرْمِ الْجَوَادِ الْمُحَمَّدِ

وقيل: للعَهْدِ، ومنع الزمخشريُّ كونَها للاستغراقِ، ولم يُبَيّنْ وجهةَ ذلك، ويشبه أن يُقالَ: إنَّ المطلوبَ من العبدِ إنشاء الحَمْدِ، لا الإخبار به، وحينئذٍ يَسْتَحيلُ كونها للاستغراقِ، إذْ لا يمكنُ العَبْد أن ينشىءَ جميعَ المَحَامِدِ منه ومن غيرِه، بخلاف كونها للجِنْسِ.
والأصلُ في "الحَمْدِ" المصدريةُّ؛ فلذلك لا يُثَنَّى، ولا يُجْمَعُ.
وحكى ابنُ الأَعْرَابِيِّ جَمْعَهُ على "أَفْعُل"؛ وأنشد: [الطويل]

39- وَأَبْيَضَ مَحْمُودِ الثَّنَاءِ خَصَصْتُهُ بأَفْضَلِ أَقْوَالِي وَأَفْضَلِ أَحْمُدِي

وقرأ الجُمْهُورُ: "الحَمْدُ لِلَّه" برفْعِ الدّال وكسرِ لاَمِ الجَرِّ، ورفعُهُ على الابتداءِ، والخبرُ الجارُّ والمجرورُ بعده يَتَعَلَّقُ بمحذوفٍ وهو الخَبَرُ في الحقيقة.
ثم ذلك المحذوفُ إنْ شئتَ قَدَّرْتَهُ [اسْماً، وهو المُخْتارُ، وإنْ شِئْتَ قَدَّرْتَهُ] فِعْلاً أَي: الحمدُ مُسْتَقِرٌّ لله، واسْتَقَرَّ لِلَّه.
والدليلُ على اختيارِ القَوْلِ الأَوَّلِ: أَنَّ ذَلك يَتَعَيّنُ في بَعْضِ الصورِ، فلا أَقَلَّ مِنْ ترجيحِه في غَيْرِها، وذلك أنّك إذا قُلْتَ: "خرجتُ فإِذَا في الدَّار زَيْدٌ" و"أمَّا في الدارِ فَزَيْدٌ" يتعيّنُ في هاتَيْن الصُّورَتَيْنِ [أن يقدر بالاسم]؛ لأَنَّ "إذا" الفُجائية وأَمَّا التَّفصِيلِيَّةُ لا يَلِيهِمَا إلاَّ المبتدأُ. وقد عُورِضَ هذا اللَّفظُ بأنه يَتَعيَّنُ تقدير الفِعْلِ في بعض الصُّورِ، وهو ما إِذا وَقَعَ الجَارُّ والمجرورُ صِلَةً لموصولٍ، نحو: الَّذِي في الدارِ فليكن رَاجِحاً في غيره؟
والجوابُ: أَنَّ ما رجحنا به من باب المبتدإِ، أَو الخبر، وليس أَجْنَبِيًّا، فكان اعتباره أَوْلَى، بخلاف وقوعه صِلةً، [والأول غيرُ أَجْنَبِيٍّ].
ولا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ قاعدةٍ -ها هنا- لعُمُومِ فائدتها، وهي أَنَّ الجار والمجرور والظرف إذا وَقَعا صلةً أو صِفَةً، أو حالاً، أو خبراً تعلقا بمحذوفٍ، وذلك المحذوف لا يجوز ظهوره إذا كان كَوْناً مُطلقاً: فأمّا قول الشاعر: [الطويل]

40 - لَكَ الْعِزُّ إِنْ مَوْلاَكَ عَزَّ، وَإِنْ يَهُنْ فَأَنْتَ لَدَى بُحْبُوحَةِ الْهُونِ كَائِنُ

وأما قولُه تبارك وتَعَالى: { { فَلَمَّا رَءَاهُ مُسْتَقِرّاً عِندَهُ } [النمل: 40] فلم يقصدْ جعل الظَّرفِ كائناً فلذلك ذكر المتعلّقَ به، ثم ذلك المحذوفُ يجوزُ تقديرُه باسمٍ أَوْ فعلٍ إلاّ في الصلَةِ، فإنه يتعيّنُ أن يكونَ فِعْلاً. واختلفُوا: أَيُّ التقديرَيْنِ أَوْلَى فيما عدا الصور المستثناة؟
فقومٌ رجّحُوا تقديرَ الفِعْلِ، [وقومٌ رجَّحُوا تقدير الاسمِ]، وقد تقدمَ دليلُ الفريقين. وقُرِىءَ شَاذًّا بنصب الدالِ من "الحَمْد"، وفيه وجهان:
أظهرُهُما: أنه منصوبٌ على المصدريَّةِ، ثم حُذِف العاملُ، ونابَ المصدرُ مَنَابه؛ كقولِهِم في الأخبار: "حمداً، وشكراً لا كُفْراً" والتقدير: "أَحمد الله حمداً"، فهو مصدرٌ نَابَ عن جملةٍ خبريَّةٍ.
وقال الطَّبَرِيُّ -رحمه الله تعالى -: "إنَّ في ضمنِهِ أَمْرَ عبادِه أَنْ يُثْنُوا به عليه، فكأَنَّه قال: "قولوا: الحَمْد للهِ" وعلى هذا يَجِيءُ قُولُوا: إِيَّاكَ".
فعلى هذه العبارة يكونُ من المصادِر النائبَةِ عن الطَّلبِ لا الخبرِ، وهو محتملٌ للوجْهَيْنِ، ولكنْ كونُهُ خَبَرِيًّا أَوْلَى من كونه طَلَبياً، ولا يجوزُ إظهار الناصب، لئلاَّ يجمعَ بين البدلِ والمُبْدَلِ مِنْه.
والثاني: أنه منصوبٌ على المَفْعُولِ بهِ، أَي: اقْرَءُوا الحَمْدَ، أَو اتْلُوا الحَمْدَ؛ كقولهم: "اللَّهُمَّ ضَبُعاً وَذِئْباً"، أَي: اجْمَعْ ضَبُعاً، والأوّلُ أَحْسَنُ؛ للدَّلالَةِ اللفظيةِ.
وقراءَةُ الرفْعِ أمكنُ، وأَبْلَغُ مِنْ قراءَةِ النَّصب، لأنَّ الرفعَ في باب المَصَادِر التي أَصْلُها النِّيَابَةُ عَنْ أَفْعَالِها يدل على الثُّبُوتِ والاستقرَارِ، بخلافِ النَّصْبِ، فإنه يدلُّ على التجددِ والحُدوثِ، ولذلك قال العلماء - رحمهم الله -: إن جوابَ إِبْرَاهِيمَ - عليه الصلاة والسّلام - في قوله تَعَالَى حكايةً عنه:
{ { قَالَ سَلاَمٌ } } [هود: 69] أَحْسَنُ من قولِ الملائكة: { { قَالُواْ سَلاَماً } [هود: 69] امتثالاً لقولِه تعالى: { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ } [لنساء: 86].
و"لله" على قراءةِ النصبِ يتعلّقُ بمحذوفٍ لا بالمصدرِ، لأنَّها للبيانِ، تقديرهُ: أَعْنِي لله، كقولِهم: "سُقْياً له ورَعياً لك" تقديرُه: "أَعْنِي له ولك"، ويدلُّ على أنَّ اللام تتعلّقُ في هذا النوع بمحذوف لا بنفس المصدر، أنَّهم لم يُعْمِلُوا المصدر المتعدِّي في المجرور باللام، فينصبوه به فيقُولُوا: سُقْياً زيداً، ولا رَعْياً عمراً، فدلَّ على أنه ليس مَعْمولاً للمصدرِ، ولذلك غَلِطَ من جعل قولَه تَعَالَى:
{ { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } [محمد: 8]، مِنْ بَابِ الاشْتِغَالِ؛ لأنَّ "لَهُمْ" لا يتعلّقُ بـ "تَعْساً" كما مَرَّ.
ويحتملُ أَنْ يُقالُ: إن اللام في "سُقياً لك" ونحوِهِ مقويةٌ لتعدِيَةِ العامل؛ لكونِهِ فَرْعاً فيكون عاملاً فيما بعده.
وقُرِىءَ: - أَيْضاً - بِكَسْرِ الدَّال، ووجهُهُ: أَنَّها حركةُ إِتباعٍ لكسرَةِ لاَمِ الجَرِّ بعده، وهي لُغَةُ "تَمِيم"، وبَعْضِ "غَطَفَان"، يُتْبِعُونَ الأوّل للثَّاني؛ للتَّجَانُسِ. ومنه: [الطويل]

41-............... اضْرِبِ السَّاقَيْنُ أُمُّكَ هَابِلُ

بضمِ نُونِ التّثنِيَةِ لأجل ضمّةِ الهَمْزَةِ، ومثلُه: [البسيط]

42- وَيْلِمِّهَا فِي هَوَاءِ الْجَوِّ طَالِبَةً وَلاَ كَهَذَا الَّذِي في الأَرْضِ مَطْلُوبُ

الأصل: وَيْلٌ لأُمِّهَا، فحذفَ اللاَّمَ الأُولَى، واستثقَلَ ضَمَّةَ الهمزةِ بعد الكَسْرَةِ، فنقلَها إلى اللام بعد سَلْبِ حَرَكَتِها، وحذَفَ الهَمْزَةَ، ثم أَتْبَعَ اللاَّمَ المِيمَ، فصار اللفظ: "وَيْلِمِّهَا".
ومِنْهم مَنْ لا يُتْبِعُ، فيقول: "وَيْلُمِّهَا" بِضَمِّ اللاَّمِ، قال: [البسيط]

43 - وَيْلُمِّهَا خُلَّةً قَدْ سِيْطَ مِنْ دَمِهَا فَجْعٌ وَوَلْعٌ وَإِخْلافٌ وتَبْديلُ

ويحتملُ أَنْ تَكُونَ هذه القراءةُ مِنْ رَفْعٍ، وأَنْ تَكُونَ مِنْ نَصْبٍ، لأنَّ الإعرابَ مُقَدَّرٌ مَنَعَ من ظُهُورِهِ حَرَكَةُ الإتباعِ.
وقرىء أيضاً: "لُلَّهِ" بضم لاَمِ الجَرِّ، قَالُو: وهي إتباعٌ لحركةِ الدَّالِ وفضّلها الزمخشريُّ على قراءة كَسْرِ الدَّالِ، مُعَلِّلاً لذلك بِأَنَّ إتباعَ حركَةِ الإعرابِ أَحْسَنُ مِنَ العَكْسِ، وهي لغةُ بَعْضِ "قَيْس"، يُتْبِعُون الثانِي نحو: "مُنْحَدُر ومُقُبِلِينَ" بضم الدَّال والقاف لأجل الميم، وعليه قرىء:
{ { مُرُدفين } } [الأنفال: 9] بِضَمِّ الراءِ، إِتْباعاً لِلْمِيمِ.
فهذه أَرْبَعُ قِرَاءَاتٍ في "الحَمْدُ لِلَّهِ".
ومعنى لام الجَرِّ - هنا - الاستحقاقُ أَيْ: الحمدُ مستحقٌّ لله - تعالى - ولها معانٍ أخر نَذْكُرُها وهي:
المُلْكُ: المالُ لِزَيْدٍ. والاستحقاقُ: الجُل لِلْفَرَسِ. والتَّمْلِيكُ: نحو: وهبتُ لَكَ وَشِبْهُهُ نحو:
{ { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } } [الشورى: 11] لتسكنوا إليها.
والنسب: نحو: لِزَيْدٍ عَمٌّ.
والتعليلُ: نحو:
{ { لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ } [النساء: 105]، والتبليغُ: نحو: قُلْتُ لَكَ.
والتبليغُ: نحو قلتُ لك.
وللتعجُّبِ في القَسَمِ خاصَّةً؛ كقوله: [البسيط]

44- لِلَّهِ يَبْقَى عَلَى الأَيَّامِ ذُو حِيَدٍ بِمُشْمَخِرٍّ بِهِ الظَّيَّانُ وَالآسُ

والتَّبْيِينُ نحو قولِه تَعَالَى: { { هَيْتَ لَكَ } [يوسف: 23].
والصيرورةُ: نحو قولِهِ تَعَالَى:
{ { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [القصص: 8].
والظرفية إِمَّا بِمَعْنَى "فِي": كقوله تعالى:
{ { وَنَضَعُ ٱلْمَوَٰزِينَ ٱلْقِسْطَ لِيَوْمِ ٱلْقِيَٰمَةِ } } [الأنبياء: 47]، أَوْ بِمَعْنَى "عِنْدَ": كقولِهم: "كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ"، أيْ: عِنْدَ خَمْسٍ، أَوْ بِمَعْنَى "بَعْدَ": كقوله تعالى: { { أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ } [الإسراء: 78] أيْ: بَعْدَ دُلُوكها.
والانتهاءُ: كقوله تعالى:
{ { كُلٌّ يَجْرِي لأَِجَلٍ مُّسَمًّـى } [الرعد: 2].
والاستعلاءُ: نحو قوله تعالى:
{ { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } [الإسراء: 109].
وقد تُزَادُ باطّرادِ في معمول الفعلِ مُقدَّماً عليه؛ كقولِه تَعَالى:
{ { إِن كُنتُمْ لِلرُّءْيَا تَعْبُرُونَ } [يوسف: 43]، [وإذا] كان العامِلُ فرعاً، نحو قوله تعالى: { { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [هود: 107].
وَبِغَيْرِ اطرادٍ؛ نحو قوله في ذلك البيت: [الوافر]

45- فَلَمَّا أَنْ تَوَاقَفْنَا قَلِيلاً أَنَخْنَا لِلْكَلاَكِلِ فَارْتَمَيْنَا

وأما قولُه تَعَالَى: { { عَسَىٰ أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } [النمل: 72]، فقِيل: على التَّضْمِينِ، وقِيلَ: هي زَائِدَةٌ.
ومن الناسِ مَنْ قال: تقديرُ الكَلام: قُولُوا: الحمد لله.
قال ابنُ الخَطِيب: -رحمه الله تعالى -: وهذا عندي ضعيفٌ؛ لأنْ الإضمارَ إنما يُصَار إليه ليصحّ الكلامُ، وهذا الإضمار يُوجِبُ فسادَ الكَلام، والدليل عليه: أن قوله - تعالى - "الحَمْدُ لِلَّهِ" إخبارٌ عن كونِ الحَمْدِ حقًّا [لله تعالى] وملَكاً له، وهذا كَلاَمٌ تام في نفسه، فلا حاجةَ إلى الإضمار.
وأيضاً فإن قولَه: "الحمد لله" يدلُّ على كونِهِ مُسْتَحقاً للحمدِ بحسب ذاته، وبحسبِ أَفْعالِه، سواءٌ حَمَدُوه أَوْ لَمْ يَحْمِدُوه.
قال ابنُ الخَطِيب: -رحمه الله تعالى -: "الحَمْدُ لِلَّه ثمانيةُ أَحْرُفٍ، وأبوابُ الجَنَّةِ ثمانية [أبواب]، فمن قال: "الحمد لله" بصفاءِ قَلْبِهِ استحقَّ أَبْوابَ الجَنَّةِ الثمانية" والله أعلم.
فَصْلٌ
تمسّكَ الجَبْرِيَّةُ والقدريَّةُ بقوله تعالى: "الحمدُ لِلَّهِ" أما الجبريةُ فقد تمسَّكوا به من وجوه:
الأولُ: أَنَّ كُلَّ مَنْ كَان فِعْلهُ أشْرَفَ وأَكْمَل، وكانت النعمةُ الصادِرَةُ عنه أَعْلَى وأفضل، كان استحقاقُه للحمدِ أكثرَ، ولا شك أنَّ أَشْرَفَ المخلُوقَاتِ هو الإيمانُ، فلو كان الإيمانُ فِعْلاً للعبد، لكان استحقاقُ العبدِ للحمدِ أَوْلَى وأجلَّ مِنِ اسْتِحْقاقِ الله له، ولما لم يكنْ كذلك، علمنا أنَّ الإيمانَ حَصَلَ بخلقِ الله - تعالى - لا بِخَلْقِ العَبْدِ.
الثاني: أجمعتِ الأمّةُ على قولِهم: "الحمدُ لِلَّهِ على نعمةِ الإيمانِ"، فلو كان العَبْدُ فاعلاً للإيمانِ لَكَان قولُهم: "الحمد للَّه على نعمة الإيمان"؛ باطلاً، فإنَّ حمد الفاعِل على ما لا يَكُون فِعْلاً له باطلٌ قَبِيحٌ؛ لقوله تعالى:
{ { وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } [آل عمران: 188].
الثالثُ: أَن قوله تعالى: "الحمدُ للهِ" يدلُّ ظاهِرُهُ على أنَّ كُلَّ الحمدِ لله، وانه لَيْسَ لِغَيْر الله - تعالى - حَمْدٌ أَصْلاً، وإنما يكونُ كلُّ الحمدِ لله تعالى إذا كان كُلُّ النِّعمِ من اللهِ تعالى، والإيمانُ أَفْضَلُ النعم، فوجب أَنْ يكونَ الإيمانُ من الله تعالى.
الرابعُ: أَن قولَهُ: "الحَمد لله" مَدْحٌ مِنْهُ لِنَفْسِهِ، ومدحُ النَّفْسِ قَبيحٌ فيما بين الخَلْقِ، فلما بدأ كتابَهُ بمدحِ النفْسِ، دَلَّ ذلك على أَنَّ حالَهُ بخلافِ حَالِ الخلقِ، وأَنَّه يَحْسُن منه ما يقبحُ من الخَلْقِ، وذلك يدلُّ على أنه - تبارك وتعالى - مقدَّسٌ عن أن تُقَاس أفعالُه على أَفعالِ العِبَادِ.
الخامسُ: عند المعتزلةِ أفعالُه - تعالى - يجبُ أَنْ تكونَ حَسَنةً، ويجبُ أَنْ تكونَ لها صفةٌ زائِدَةٌ على الحُسْنِ، وإلا كان عبثاً، وذلك في حقه تعالى محالٌ، والزائدةُ على الحُسْنِ إمَّا [أن تَكُونَ] واجِبةً، وإما أن تكونَ من باب التَّفَضُّلِ.
أما الواجبُ فهو مثلُ إِيصالِ الثواب، والعوض إلى المُكَلَّفِين.
وأما الذي يكونُ من باب التفضل، فهو مثلُ أنَّه يزيد على قَدْرِ الواجِبِ على سبيلِ الإحْسَانِ.
فنقولُ: هذا يَقْدّحُ في كونه - تعالى - مستحقاً للحمد، ويُبْطِلُ صحَّةَ قولنا: الحمدُ لله.
وتقريرهُ أن نقولَ: أما أداء الواجِباتِ، فإنه لا يفيد استحقاقَ الحَمْدِ، ألا ترى أنَّ مَنْ كان له على غيره دَيْنُ دِينارٍ، فأدّاه، فإنه لا يَسْتَحِقُّ الحمدَ، فلو أوجبنا على الله تعالى فعلاً، لكان ذلك الفعلُ مخلصاً [له] عن الذَّمِّ، ولا يُوجِبُ استحقاقه للحمد.
وأما فِعْلُ التفضُّلِ فعند الخصم أنه يستفيد بذلكَ مزِيدَ حَمْدٍ ولو لم يصدرْ عنه ذلك الفعلُ، لما حَصَل له الحمدُ، فإذا كان كذلك كان ناقصاً لذاته مستكملاً بغيره، وذلك يمنع مِنْ كونه - تعالى - مُسْتحقاً للحمدِ والمدح.
السَّادسُ: قولُه: الحمدُ لله يدلُّ على أنه - تعالى - محمودٌ، فنقولُ: استحقاقُه للحمد والمدحِ إما أن يكونَ أَمْراً ثابتاً لذاته، فإنْ كان الأوّل، امتنَع ثُبوتُه لغيره، فامتنع - أيضاً - أنْ يكون شَيْءٌ من الأفعالِ موجباً له استحقاق الذم؛ لأن ما ثبت لِذَاتِهِ امتنع ارتفاعه، فوجب أَلاَّ يجبَ للعباد عليه شيءٌ مِنَ الأعْواضِ والثَّوَابِ، وذلك يَهْدِمُ أصولَ المعتزلة.
وأمّا القسم الثَّاني - وهو أن يكون استحقاق الحمد لله ليس ثابتاً لذاتِهِ - فنقول: فيلزم منه أن يكونَ ناقِصاً لذاته مُسْتكملاً بغيره، وذلك على الله - تعالى - محالٌ.
أما قول المعتزلة: إنَّ قَوْلَهُ: "الحَمْدُ لِلَّهِ" لا يتم إلاَّ على قولِنَا؛ لأن المستحقَّ للحمدِ على الإطْلاقِ هو الذي لا قَبِيحَ في فِعْلِهِ، ولا جَوْرَ في قَضِيَّتِهِ، ولا ظُلمَ في أحكامِهِ? وعندنا أنَّ الله - تعالى - كذلك؛ فكان مُسْتَحِقًّا لأعظمِ المَحَامِدِ والمدائح.
أمّا على مذهب الجَبْرِ لا قَبِيحَ إلا وهو فِعْلُه، ولا جَوْرَ إلا وهو حُكْمُه، ولاَ عَبَثَ إلا وهو صُنْعُه؛ لأنه يخلقُ الكُفْرَ في الكافر، ثم يعذبُه عليه، ويؤلم الحيواناتِ مِنْ غَيْرِ أن يُعَوِّضَهَا، فكيف يُعْقلُ على هذا التقدِيرِ كونُه مُسْتحقاً للحمد؟
وأيضاً ذلك الحمد الذي يستحقه الله - تعالى - بسبب الإلهيَّة؛ إِمَّا أن يستحِقَّهُ على العبدِ، أَوْ عَلَى نفسه، فإن كان الأول وجب كونُ العبدِ قادراً على الفِعْلِ؛ وذلك يُبْطِلُ القول بالجَبْرِ.
وإنْ كان الثاني كان معناه أن الله تعالى يجب عليه أن يحمد نَفْسَهُ؛ وذلكَ بَاطِلٌ، قالوا: فثبت أَنَّ القولَ بالحَمْدِ لا يصحُّ إلا على قولنا.
فَصْل هل وجوب الشكر يثبت بالعقل أو الشرع؟
اختلفوا في أَنَّ وُجُوبَ الشُّكْرِ ثابِتٌ بالعَقْلِ أَوْ بالسَّمْعِ.
مِنَ الناس مَنْ قال: إنه ثابِتٌ بالسَّمْعِ، لقوله تبارك وتعالى:
{ { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولاً } [الإسراء: 15]، ولقوله تبارك وتعالى: { { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى ٱللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ ٱلرُّسُلِ } [النساء: 165].
ومِنْهم مَنْ قال: إنه ثَابِتٌ قبلَ مَجيء الشرع، وبعد مجيئه على الإطلاقِ؛ والدليلُ عليه قولُه تبارك وتعالى: "الحَمدُ لِلَّهِ" وبيانه من وجوه:
الأولُ: أَن قولَه تعالى: "الحمدُ لله" يدلُّ على أن هذا الحمدَ حَقُّهُ، وملكُه على الإطْلاَقِ، وذلك يدل على أنّ ثبوت هذا الاستحقاقِ كان قبل مَجِيء الشرْع.
الثاني: أنه تعالى قال: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ } [الفاتحة: 2]؛ وقد ثَبَتَ في [أصُول] الفِقْهِ أَنَّ تَرْتِيبَ الحُكْمِ على الوَصْفِ المناسِبِ، يَدُلُّ على كونِ الحُكْمِ مُعَلَّلاً بذلك الوصف، فها هنا أثبتَ الحَمْدَ لنفسه، ووصف نَفْسَهُ بكونِه رَبَّ العالَمِينَ رَحْماناً رَحِيماً بِهِم، مالكاً لعاقبةِ أمْرِهم في القيامَةِ، فهذا يدلُّ على أن استحقاقَ الحمدِ ثابتٌ - لله تعالى - في كل الأوقات، سواءٌ كان قَبْلَ مَجِيء النَّبي، أو بعده.
فصل
قال ابنُ الخَطيب -رحمه الله تعالى -: تَحميدُ اللهِ - تعالى - ليس عبارةً عن قَوْلِنا: الحمدُ لِلَّهِ؛ لأن قوْلنا: "الحمد للَّه" إخبارٌ عن حُصُولِ الحَمْد، والإخبارُ عَن الشيءِ مغايرٌ للخَبَرِ عنه، فنقولُ: حَمْدُ المنعم عبارةٌ عن كُلِّ فِعْلٍ يُشْعِرُ بتعظيم المنعم بسبب كَوْنِهِ مُنْعماً، وذلك الفعل: إما أن يكونَ فِعْلَ القلبِ، أو فعل اللّسَانِ، أوْ فِعل الجوارح.
أمَّا فعلُ القلبِ: فهو أنْ يَعْتَقِدَ فيه كونَهُ مَوْصُوفاً بصفات الكمال والإجْلاَل.
وأما فعل اللِّسان فهو أنْ يذكر ألفاظاً دالَّةً على كونه مَوْصُوفاً بصفات الكمال [والإجلال].
[وأما فعل الجوارح؛ فهو أنْ يأتي بأفعالٍ دالّةٍ على كَوْنِ المنعمِ مَوصُوفاً بصفات الكمال والإجلال].
واعلم أن أهل العلم - رحمهم الله - افترقوا في هذا المقام فِرقاً كثيرةً:
فمنهم مَنْ قال: إنه لا يجوزُ عقلاً أنُ يأمرَ الله عَبِيدَه بأن يَحْمَدُوه، واحتجوا عليه بوجوه:
الأولُ: أن ذلك التحميدَ، إما أن يكونَ بناءً على إنْعَام وَصَل إليهم، أَوْ لا بِنَاءَ عليه، فالأول باطِلٌ؛ لأن هذا يقتضي أنه - تعالى - طلبَ منهم على إنعامِهِ جَزَاء ومُكافَأةً، وذلك يقدحُ في كَمَال الكرم، فإنّ الكريم إذا أنعم لم يُطالِبْ بالمُكَافأة.
وأما الثاني: فهو إِتْعَابٌ لِلْغَيْرِ ابتِداءً، وذلك يُوجِبُ الظُّلْمَ.
الثاني: قالُوا: إِنَّ الاشتغالَ بهذا الحمدِ مُتْعِبٌ للحامدِ، وغيرُ نَافِعٍ للمحمُودِ، لأنه كامِلٌ لذاتِهِ، والكامل [لذاته] يستحيل أن يستكملَ بِغَيْره، فثبت أنَّ الاشتغال بهذا التحميدِ عَبَثٌ وضَرَرٌ، فوجب ألا يكونَ مَشروعاً.
الثالثُ: أنَّ مَعْنَى الإِيجَابِ: أنه لَوْ لم يفعلْ لاسْتَحَقَّ العذابَ، فإيجابُ حَمْدِ الله تعالى معناه: أنه لو لم تشتغلْ بهذا الحمدِ، لَعَاقَبْتُكَ، وهذا الحمدُ لا نفعَ لَهُ في حَقِّ اللهِ تبارك وتعالى، فكان معناه أن هذا الفعلَ لا فَائِدَة فِيه لأحدٍ، ولو تركته [لعاقبتك] أَبَدَ الآبادِ، وهذا لا يَلِيقُ بالحَلِيم الكريم.
والفريقُ الثاني: قَالُوا: الاشتغالُ بِحَمْدِ الله - تعالى - سُوءُ أَدَبٍ من وجوه:
الأولُ: أنه يَجْرِي مَجْرَى مقابلَةِ إحْسَانِ اللهِ بذلك الشُّكر القَلِيلِ.
والثاني: أنَّ الاشتغالَ بالشُّكْرِ لا يتأتى إلاَّ مع استحضارِ تلك النِّعَمِ في القلْبِ، واشتغالُ القلبِ بالنعم يمنعه من الاسْتِغْرَاق في مَعْرِفَة المُنْعِمِ.
والثالثُ: أنَّ الثناءَ على الله - تعالى - عند وُجْدَانِ النِّعمةِ يدلُّ على أنه إنَّما أَثْنَى عليه؛ لأجْلِ الفوز بتلك النعم، وهذا الرَّجُلُ في الحَقِيقَةِ مَعْبُوده، ومَطْلُوبُه إنما هو تلك النِّعَمِ، وحظُّ النَّفسِ، وذلك مقامٌ نَازِلٌ.
وهذانِ مَرْدُودانِ بما تَقَدَّم وبأنَّ أفعالَهُ وأقوالَه وأسماءَهُ لا مدخل للعَقْلِ فيها، فقد سَمَّى رُوحَه مَاكِراً بقوله تعالى:
{ { وَمَكَرَ ٱللَّهُ وَٱللَّهُ خَيْرُ ٱلْمَٰكِرِينَ } [آل عمران: 54]، ومتكبراً وغيرَ ذلك ممَّا تقدّم في أسمائه من قوله تعالى: { { ٱللَّهُ يَستَهزِئُ بِهِمْ } [البقرة: 15] وغَيْرِه.
فإن قِيل: إنما ورد ذلك مِنْ حيثُ المُقَابلة، قُلْنَا: نُسلِّمُ، ولكنه قد سمى نفسه به، ونحن لا يجوزُ لنا تسميتُهُ به.
وأما مِنْ حَيْثُ ورودُه في الشرع، فقال اللهُ تعالى:
{ { فَٱذْكُرُونِيۤ أَذْكُرْكُمْ وَٱشْكُرُواْ لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [البقرة: 152].
قولُه تَعَالَى: { رَبِّ ٱلْعَٰلَمِينَ }.
الرَّبُّ: لُغَةً: السيدُ، والمَالِكُ، والثَّابِتُ والمَعْبُودُ؛ ومنه قولُه: [الطويل]

46- أرَبٌّ يَبُولُ الثُّعْلُبَانُ بِرَأْسِهِ لَقَدْ هَانَ مَنْ بَالَتْ عَلَيْهِ الثَّعَالِبُ

والمُصْلِحُ، وزاد بعضُهم أنه بمعنى: الصّاحبِ؛ وأنشد القائل: [الكامل]

47- قَدْ نَالَهُ رَبُّ الكِلاَبِ بِكَفِّهِ بِيضٌ رِهَابٌ ريشُهُنَّ مُقزَّعُ

والظاهِرُ أَنَّهُ - هنا - بمعنى المَالِك، فليس هو معنى زائداً.
وقيل: يكون بمعنى الخَالِقِ.
واختُلِفَ فيه: هل هو في الأصلِ وَصْفٌ أو مصدر؟
فمنهم من قال: [هو وَصْفٌ أي صِفَة مشبهة بمعنى "مُرَبٍّ"]، ثم اختلف هَؤلاءِ في وزنه.
[فمنهم من قال]: هو على "فَعِل" كقولك: "نَمَّ - يَنُمَّ - فهو نَمٌّ" من النّمام، بمعنى غَمّاز.
وقيل: وزنه "فَاعِل"، وأصلُه: "رَابٌّ"، ثم حُذِفت الألفُ؛ لكثرةِ الاستعمالِ؛ لقولِهم: رَجَلٌ بَارٌّ وَبَرٌّ.
ولقائلٍ أنْ يقولَ: لا نسلم أن "بَرّ" مأخوذ من "بَارّ" بل هما صِفتان مُسْتقلتَانِ، فَلاَ يَنْبَغِي أنْ يُدّعَى أنّ "ربًّا" أصله "رابٌّ".
ومنهم مَنْ: قال إنه مَصْدرٌ "رَبَّهُ - يَرُبُّهُ - رَبًّا" أي: مَلَكَهُ.
قال: "لأنْ يَرُبَّنِي رَجَلٌ مِنْ قُرَيْشٍ أَحَبُّ إِلَيَّ من أن يَرُبَّنِي رَجَلٌ من هَوَازِنَ".
فهو مصدر في معنى الفاعل نحو: "رجل عَدْل وصَوْم".
ولا يُطْلقُ على غَيْر الباري - تعالى - إلاّ بقيد إضافةٍ، نحو قوله تعالى:
{ { ٱرْجِعْ إِلَىٰ رَبِّكَ } [يوسف: 50]، ويقولون: "هو رَبُّ الدَّارِ، ورَبُّ البَعِير"، وقد قالته الجاهليةُ لِلْمَلِكِ من الناس مِنْ غَيْرِ قَيْدٍ؛ قال الحَارِثُ بْنُ حِلِّزَةَ: [الخفيف]

48- وَهُوَ الرَّبُّ وَالشَّهِيدُ عَلَى يَوْ مِ الحِيَارَيْنِ وَالبَلاءُ بَلاَءُ

وهذا مِنْ كُفْرِهِمْ.
وقرأ الجمهورُ: "رَبِّ" مجروراً على النعتِ "لله"، أو البَدَلِ منه.
وقرِىءَ مَنْصُوباً، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ:
إِمَّا بِمَا دَلَّ عليه الحمدُ، تقدِيرُه: "أحمد ربَّ العالمين".
أو على القطع من التبعية، أو على النِّدَاءِ وهذا أضعفُهَا، لأنه يُؤَدِّي إلى الفَصْلِ بين الصفة والموصوف.
وقُرِىءَ مَرْفُوعاً على القَطْعِ من التبعية، فيكونُ خبراً لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ، أيْ: "هُوَ رَبُّ" وإذْ قد عرض ذِكْرُ القَطْعِ في التَبعيَّةِ، فلنستطردْ ذِكْرَهُ، لِعُمومِ فَائِدَتِه فنقول:
اعلمْ أنَّ الموصوفَ إذا كان معلوماً بدون صفته، وكان الوصفُ مَدْحاً، أو ذماً، أو ترحُّماً - جاز في الوَصْفِ الإتباعُ والقطعُ.
والقطعُ: إما على النصْبِ بإضمار فعل لائقٍ، وإمَّا على الرّفعِ على خَبَرٍ لمبتدإٍ مَحْذُوفٍ، ولا يجوزُ إظهارُ هذا الناصِبِ، ولا هذا المبتدإِ، نحو قولِهم: "الحَمْدُ لله أَهْلَ الحَمْدِ" رُوِيَ بنصبِ "أَهْل" ورفعِه، أيْ: أعني أَهْلَ، أو هو أَهلُ الحمدِ.
وإِذا تكررتِ النُّعُوتُ، والحالةُ هذه، كُنْتَ مُخَيَّراً بين ثلاثة أوجه:
إما إتباعُ الجَميعِ، أو قَطْعُ الجَمِيع، أوْ قَطْعُ البَعْضِ، وإتباعُ البَعْضِ.
إلاّ أنك إذا أَتْبَعْتَ البعضَ، وقطعتَ البعضَ وجب أَنْ تَبْدَأ بالإتباعِ، ثُمَّ تأتي بالقَطْعِ من غير عَكْسٍ، نحو: "مررتُ بزيدٍ الفَاضِلِ الكَرِيمُ"؛ لِئَلاَّ يلزمَ الفصلُ بين الصفَةِ والموصُوفِ بالجملةِ المَقْطُوعَةِ.
و"العَالَمِينَ" خَفْضٌ بالإضافَةِ، عَلاَمةُ خفضِه الياءُ؛ لجريانه مَجْرى جمع المذكرِ السَّالِمِ، وهم اسْمُ جَمْعٍ؛ لأنَّ واحِدَهُ مِنْ غَيْرِ لفظه، ولا يَجوزُ أن يكونَ جمعاً لـ "عَالَمٍ"؛ لأن الصحيح في "عَالَمِ" أن يُطْلَق على كل موجودٍ سوى الباري تَعَالى، لاشتقاقه من العَلاَمةِ، بمعنى أنه دالّ على صانِعهِ.
و "عَالَمُون" بصيغة الجمع لا يُطْلق إلا على العُقلاءِ دون غيرهم، فاستحال أن يكون "عالمون" جمع "عَالَم"؛ لأنَّ الجمعَ لا يكونُ أخَصَّ مِنَ المُفْرَدِ.
وهذا نظيرُ ما فعله سِيْبَويَه -رحمه الله تعالى - في أنَّ "أعراباً" لَيْسَ جَمْعاً لـ "عَرَب"؛ لأنَّ "عرباً" يُطْلَقُ على البَدَوِيِّ دُونَ القروِيّ.
فإن قِيلَ: لِمَ لاَ يَجُوزُ أَنِ يكونَ "عَالَمُونَ" جَمْعاً لـ "عَالَم" مُرَاداً به العاقل دُونَ غَيْره، فيزولَ المحذُورُ المذكور؟
وأُجِيبَ عنه: بأنه لَوْ جاز ذلك، لَجَازَ أَنْ يُقالَ: "شَيْئُون" جَمْعُ "شَيْءٍ" مُرَاداً به العاقل دون غيره، فدل عَدَمُ جَوَازِه على عدم ادّعاءِ ذلك.
وفي الجواب نَظَرٌ، إذْ لِقائل أنْ يقول: "شيئون" منع منه مانِعٌ آخرُ، وهو كونهُ لَيْسَ صِفَةً ولا علماً، فلا يلزَمُ مِنْ مَنْعِ ذلك منعُ "عَالَمِين" مراداً به العاقل.
ويُؤَيِّدُ هذا ما نَقَلَ الراغِبُ عَنِ ابنِ عَبَّاسٍ - رضى الله تعالى عنهما - أنَّ "عَالَمِين" إنما جمع هذا الجمع؛ لأن المراد به الملائكةُ والجنُّ والإنْسُ.
وقال الراغِبُ أيضاً: "إنَّ العَالَم في الأصل اسم لما يُعْلَمُ به كالطَّابَعِ اسم لما يُطْبَعُ" وجُعِلَ بناؤُه على هذه الصيغَةِ، لكونه كالآلةِ، فالعالَمُ آلة في الدلالةِ على صَانعه.
وقال الرَّاغِبُ: "وأما جمعُه جَمْعَ السَّلامَةِ، فلكون الناس في جُمْلَتِهم، والإنسانُ إذا شَارَك غيرَهُ في اللّفظِ غَلَبَ حُكْمُه"، فظاهر هذا أَنَّ "العَالَمِين" يطلق على العُقَلاء وغَيْرِهم، وهو مُخالِفٌ لما تقدّم من اختصاصِهِ بالعقلاء، كما زعم بعضُهم، وكلام الراغِبِ هو الأصَحُّ الظّاهرُ.
فصل في وجوه تربية الله لعبده
قال ابنُ الخَطِيبِ -رحمه الله تعالى -: "وجوه تَرْبِيَةِ الله لِلْعَبْدِ كثيرةٌ غيرُ مُتَنَاهِيَةٍ، ونحن نذكر منها أمثله:
الأولُ: لما وَقَعَتِ النّطفةُ مِنْ صُلْبِ الأَبِ إلى رَحِمِ الأُمِّ، فَرَبَّاهَا حتى صارت عَلَقَةً أَولاً، ثم مُضْغَةً ثانيةً، ثم تولّدت منه أعضاء مُختلفةٌ، مثلُ العِظَامِ، والغَضَارِيفِ، والرّبَاطَاتِ، والأَوْتَارِ، والأوردَةِ، والشرايِين، ثم اتصل البعضُ بالبعضِ، ثُمَّ حَصَلَ في كُلِّ واحِدٍ منها نَوْعٌ خَاصٌّ من أنواع القُوَى، فحصلت القوّةُ الباصرة في العَيْنِ? والسَّامِعَةُ في الأُذُنِ، والنَّاطِقَةُ في اللِّسانِ، فسُبْحَانَ مَنْ بَصَّرَ بِشَحْمٍ، وأَسْمَعَ بِعَظْمٍ، وأَنْطَقَ بِلَحْمٍ"!.
والثَّاني: أن الحَبَّةَ الواحِدَةَ إذا وقعت في الأرض، فإذا وصلت نَدَاوةُ الأرضِ إليها، انتفَخَتْ ولا تنشق من شيء من الجوانِبِ إلاّ مِنْ أَعْلاَها وأسفلها، مَعَ أنَّ الانتفاخَ حاصلٌ من جميع الجوانب.
أما الشق الأعلى، فيخرجُ منه الجزءُ الصاعِدُ، فبعد صعودِهِ يحصُلُ له سَاقٌ، ثم ينفصِلُ من ذلك الساقِ أَغْصَانٌ كثيرةٌ، ثم يظهر على تلك الأغصانِ الأَنْوَارُ أوَّلاً، ثُمَّ الثِّمَار ثانياً، ويحصل لتلك الثمار أجزاء مختلفة بالكَثَافَةِ، واللطافة، وهي القُشُور، واللّبوبُ، ثم الأدهان.
وأما الجُزْءُ الغائِصُ من الشجرة، فإن تلك العروق تنتهي إلى أطرافها، وتلك الأطراف تكون في اللطافة كأنها مياه منعقدة، ومع غايةِ لُطْفِها، فإنها تغوص في الأرض الصّلبة اليابسة، وأودع فيها قُوًى جاذبةً تجذِبُ اللّطيفةَ من الطين إلى نفسها، والحكمةُ في كُلّ هذه التدبِيرَاتِ تحصيلُ ما يحتاج العبد إليه من الغِذَاءِ، والإدام، والفواكه، والأشربةِ، والأدْوِيَةِ؛ كما قال تعالى:
{ { أَنَّا صَبَبْنَا ٱلْمَآءَ صَبّاً ثُمَّ شَقَقْنَا ٱلأَرْضَ شَقّاً } [عبس: 25 - 26].
فَصْلٌ
اختلفوا في { ٱلْعَالَمِينَ }.
قال ابن عباس رضي الله عنهما: "هُمُ الجنُّ والإِنْسُ؛ لأنهم المكلّفون بالخِطَابِ"؛ قال الله تعالى:
{ { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [الفرقان: 1].
وقال قتادةُ: والحَسَنُ، ومُجَاهِدٌ - رضي الله تعالى عنهم -: "جميعُ المخلوقِينَ"؛ قال تبارك وتعالى:
{ { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ ٱلْعَٰلَمِينَ قَالَ رَبُّ ٱلسَّمَٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَآ } [الشعراء: 23 - 24].
واشْتِقَاقُه من العَلمِ والعَلاَمَةِ، سُمُّوا بذلك؛ لِظُهورِ أَثَرِ الصنعة فيهم.
قال أَبُو عُبَيد -رحمه الله تعالى -: هم أرْبَعُ أُمَمٍ: الملائكةُ، والإنسُ، والجِنُّ، والشَّيَاطِينُ، مُشْتَقٌّ من العلم، ولا يُقَال للبهائِمِ؛ لأنها لا تَعْقِلُ.
واخْتَلَفُوا في مبلغِهِم.
قال سَعِيدُ بنُ المُسَيَّب - رضي الله عنه -: "لِلَّه ألْفُ عَالَمٍ: سِتُّمائةٍ في البَحْرِ، وأربعمائة في البرِ".
وقال مُقَاتِلُ بْنُ حَيَّان - رضي الله عنه -: "ثَمانُونَ أَلْفاً، أَرْبَعُون ألفا في البَحْرِ، وأربعونَ ألفاً في البَرِّ".
وقال وَهْبٌ - رضي الله عنه -: "لله ثَمَانِيَةَ عَشرَ ألفَ عَالَمٍ، الدّنيا عَالَمٌ منها، وما العمران في الخَرَابِ إلا كفُسْطاطٍ في صَحْرَاء".
وقال كَعْبُ الأحبارِ - رضي الله عنه -: "لا يُحْصي عَدَدَ العَالَمِين إلاّ اللهُ - عز وجل -"؛ قال تعالى:
{ { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } } [المدثر: 31].