التفاسير

< >
عرض

ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ
٣
مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ
٤
-الفاتحة

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { ٱلرَّحْمـٰنِ ٱلرَّحِيمِ }
نَعْتٌ أوْ بَدَلٌ - وقرئا منصوبين، ومَرْفُوعَيْنِ، وتَوْجِيهُ ذلك ما ذكر في: { رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، وتقدم الكلام على اشْتِقاقِهما في "البَسْمَلَةِ" فَأَغْنَى عن إِعَادَتِه.
قوله تعالى: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }
يجوزُ أنْ يكونَ صِفَةً أيضاً، أوْ بَدَلاًَ، وإن كان البدلُ بالمشتقِّ قليلاً، وهو مُشْتَقٌّ من "المَلْك" - بفتح الميم - وهو: الشَّدُّ والرَّبْطُ، قال الشاعرُ في ذلك: [الطويل]

49 - مَلَكْتُ بِهَا كَفِّي فَأَنْهَرْتُ فَتْقَهَا يَرَى قَائِمٌ مِنْ دُونِهَا مَا وَرَاءَهَا

ومنه: إِمْلاَكُ العَرُوسِ؛ لأنّه عَقْدٌ، ورَبْطٌ، لِلنِّكَاحِ.
وقُرِىءَ: "مَالِك" بالألَفِ.
قال الأَخْفَش -رحمه الله تعالى - يُقال: مَلِك بَيِّنُ المُلْكِ - بضم الميم، و"مَالِك" من "الِمَلْكِ" بفتح الميم وكسرها.
ورُويَ ضمُّها - أيضاً - بهذا المعنى.
وروي عن العربِ: "لِي في هَذَا الوَادي مَلْكٌ ومُلْكٌ ومِلْكٌ" مُثَلَّثُ الفاء، ولكن المعروفَ الفرقُ بَيْنَ الأَلْفَاظِ الثَّلاثَةِ:
فالمفْتُوحُ: الشَّدُّ والرَّبْط.
والمضْمُومُ: هو القَهْرُ والتسلُّطَ على من يتأتّى منه الطاعَةُ، ويكون باسْتِحْقَاقٍ وغَيْرِه، والمقصور: هو التّسَلُّطَ عَلَى مَنْ يتأتّى منه الطاعة ومَنْ لا يتأتى منه، ولا يكونُ إلاَّ باستحقاقٍ؛ فيكونُ بَيْنَ المقصورِ والمضمُُومِ عمومٌ وخُصوصٌ من وجه.
وقال الرَّاغِبُ: المِلْكُ أي "بالكَسْرِ" كالجِنْسُ للملك، أَي "بالضَّم" فكُلُّ مِلْكٍ "بالكسر" ملك، وليس كُلُّ ملكٍ مِلْكاً، فعلى هذا يكُونُ بينهما عُمُومٌ وخُصُوصٌ مُطْلَقٌ، وبهذا يُعْرَفُ الفرقُ بين ملك ومالك، فَإِنَّ ملكاً مأْخُوذَةٌ مِنْ المُلْكِ بالضمِ ومالِكاً مأخوذ من المِلك "بالكَسْرِ" وقيل: إنَّ الفرقَ بينهما: أَنَّ المَلِكَ: اسْمُ كُلِّ مَنْ يَمْلِكُ السياسة، إِمَّا في نَفْسِه، بِالتمكُّنِ مِنْ زمامِ قواه وصرفها عَنْ هَوَاهَا.
وإِمَّا في نَفْسِهِ وفي غَيْرِهِ، سَوَاءٌ تولى ذلك أَوْ لَمْ يتولّ.
وقد رَجَّحَ كُلُّ فَرِيقٍ إِحْدَى القِرَاءَتَيْنِ على الأُخْرَى تَرْجِيحاً يكادُ يسقط القِرَاءَاتِ الأُخْرَى، وهذا غَيْرُ مَرْضيٍّ؛ لأنَّ كِلْتَيْهِما مُتَوَاتِرةٌ، ويدلُّ على ذلك ما رُوِيَ عن ثَعْلَب -رحمه الله تعالى - أنه قال: إِذَا اخْتَلفَ الإِعْرَابُ في القرآن عن السّبعةِ، لم أُفَضِّلُ إِعْرَاباً على إعراب في القرآنِ، فإذا خرجتُ إلى كلامِ الناسِ، فضَّلْتُ الأَقْوَى. نقله أَبُو عَمْرو الزّاهد في "اليَوَاقيت".
قال أَبُو شَامَة -رحمه الله : - قَدْ أَكْثَر المُصَنِّفُونَ في القراءَات والتفاسِيرِ مِنَ التّرْجِيحِ بَيْنَ هَاتَيْنِ القِرَاءَتَيْنِ، حتى أن بعضهم يبالغ في ذلك إلى حد يكاد يسقط وجه القراءة الأخرى، وليْسَ هذا بِمَحْمُودٍ بعد ثُبُوتِ القِراءَتَيْنِ، وصحَّةِ اتصافِ الربِّ - سبحانه وتعالى - بهما حتى إني أُصَلِّي بهذه في رَكْعَةٍ، وبهذه في رَكْعة، ذكر ذلك عند قَوْلِه تعالى: مَالِك يَوْمِ الدِّين. وَروَى الحُسَيْنُ بنُ عَليٍّ الجعفي، وعبدُ الوَارِثِ بنُ سَعِيدٍ، عَنْ أَبِي عَمْرٍو: "مَلْكِ" بِجَزْمِ اللاَّمِ على النَّعْتِ أيضاً.
وقرأ الأَعْمَش، ومحمدُ بنُ السّميفع، وأَبُو عَبْد الملك قاضي الجُنْد: "مَالِكَ" بنصب الكاف على النِّداءِ. روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في بعض غزواته: يا مالك يوم الدين، وقُرىء بنصبِ الكَافِ من غير ألف النداء أيضاً، وهي قراءةُ عَطِيَّةَ بن قَيْس، وقرأ عَوْن العُقَيْلِيُّ بالأَلف وَرَفْعِ الكَاف، على مَعْنَى: "هُوَ مَالِك".
وقرأ أَبُو حَيْوَة شُرَيح بنُ يَزيد: برفع الكافِ مِنْ غَيْر أَلِف.
وقرأَ يَحْيَى بنُ يَعْمُر "مالك" بالإمالة والإضجاع البليغ. وقرأ أَيُّوبُ السَّخْتيَانِيّ: بَيْنَ الإِمَالةِ والتّفْخِيمِ، ورواها قُتَيْبَةُ عنِ الكِسَائي.
وقرأ الحَسَنُ { مَلَك يَوْمَ الدِّين } على الفِعْلِ، وهو اختيارُ أَبِي حَنِيفَة - رضي الله تعالى عنه - ورُويتْ أيضاً عَنْ أَبِي حَيْوَة، ويَحيَى بن يعمر فمما رجحت به قراءة "مَالِكِ" أَنَّها أمْدَحُ؛ لعُمُومِ إضافَتِه، إِذْ يُقالُ: "مَالِكُ الجِنِّ، والإِنْسِ، والطَّيرِ" ولا يُقالُ: "مَلِك الطّيْرِ"، وأنشدوا على ذلك: [الكامل]

50 - سُبْحَانَ مَنْ عَنَتِ [الوُجُوهُ] لِوَجْهِهِ مَلِكِ المُلُوكِ وَمَالِكِ العَفْوِ

وقالُوا: فُلاَنُ مَالِك كَذَا، لِمَنْ يَمْلِكُه، بخلافِ مَلِك فَإِنَّهُ يُضَافُ إلى غَيرِ المُلُوكِ نحو: "مَلِكِ العَرَب، والعَجَمِ"، ولأَنَّ الزيادةَ في البناءِ تَدُلُّ على الزيادَةِ في المعنى، كما تقدم في "الرحمن" ولأَنَّ ثواب تَالِيها أَكثرُ من ثَوابِ تَالِي "مَلِك".
ومما رُجِّحَتْ به قراءَةُ "مَلِكِ" ما حكاه الفَارسِيّ، عن ابن السّرَّاجِ، عَنْ بَعْضِهم: أنه وصف [نَفْسَه] بِأنه مَالِكُ كُلِّ شَيْءٍ، بقوله: "رَبِّ العَالَمِينَ"، فلا فَائِدَةَ في قراءَةِ مَنْ قَرَأَ "مَالِكِ"؛ لأنها تَكْرَارٌ.
قال أَبُو عَليٍّ: ولا حُجَّةَ فِيه؛ لأنَّ في التَّنْزِيلِ مِثْلهُ كَثِيرٌ، يَذْكُرُ العَامَُّ، ثُمَّ الخَاصُّ؛ نحو:
{ { هُوَ ٱللَّهُ ٱلْخَالِقُ ٱلْبَارِىءُ ٱلْمُصَوِّرُ } [الحشر: 24].
وقال أَبُو حَاتم: "مَالِكِ" أَبْلَغُ في مَدْحِ الخَالِقِ، و "مَلِكِ" أَبْلَغ في مَدْحِ المَخْلُوقِ، والفرق بَيْنَهُمَا: أَنَّ المَالِكَ مِنَ المخلوقين قد يَكُونُ غيرَ مَلِكٍ، وإذا كَانَ اللهُ - تعالى - مَلِكاً كان مالكاً [أيضاً] واختاره ابنُ العَرَبيِّ.
ومِنْهَا: أَنَّها أَعَمُّ إذ تُضَافُ للمملوكِ وغَيْرِ المَمْلُوكِ، بخلاف "مَالِكِ" فإنه لا يُضَاف إلاَّ لِلْمملوكِ كما تقدم، ولإشْعَارِه بالكثرةِ، ولأنه تَمدَّحَ تعالى - بقوله تعالى - "مَالِكِ المُلْكِ"، وبقوله تعالى:
{ { قُلِ ٱللَّهُمَّ مَٰلِكَ ٱلْمُلْكِ } [آل عمران: 26]، ومَلِكٌ مأخوذٌ منه [كما تقدّم، ولم يتمدح بـ "مالك المِلْك" بكسر الميم الذي "مالك" مأخوذ منه].
وقال قَوْمٌ: "مَعْنَاهُمَا: واحِدٌ؛ مثلُ: فَرِهِين وفَارِهِين، وحَذِرِين وحَاذِرِين".
ويُقالُ: المَلِكِ والمالِكِ: هو القَادِرُ على اختراع الأعيان من العَدَمِ إلى الوجود، ولا يَقْدِرُ عليه أحد غير الله تعالى. وجمع "مَالِكِ": مُلاَّك ومُلَّك، وجَمْعُ "مَلِك": أَمْلاَك ومُلُوك.
وقُرِىء: "مَلْك" بسكون اللاّم، ومنه قول الشاعر: [الوافر]

51 - وَأَيَّامٍ لَنَا غُرٍّ طوَالٍ عَصَيْنَا المَلْكَ فِيهَا أَنْ نَدِينَا

كما يُقالُ: فَخِذٌ وفَخْذٌ، وجَمْعُه على هذا: أَمْلُك ومُلُوك، قاله مَكِّيٌّرحمه الله .
و" مَلِيك"، ومنه: الكامل

52 - فَاقْنَعْ بِمَا قَسَمَ المَلِيكُ فَإِنَّمَا قَسَمَ الخَلاَئِقَ بَيْنَنَا عَلاَّمُهَا

و"مَلَكي" بالإشْبَاعِ، وتُرْوَى عن نَافِع -رحمه الله -.
إذا عُرِفَ هذا فيكونُ "مَلِك" نعتاً لله - تعالى - ظاهراً، فإنه معرفة بالإضافة.
وأما "مَالِك" فإِنْ أُرِيدَ به مَعْنَى المُضِيّ، فجعلُه نَعْتاً واضِحٌ أيضاً؛ لأن إضافَتَه مَحْضَة فيتعرَّفُ بها، ويُؤيّد كونَهُ ماضِيَ المَعْنَى قِراءةُ من قرأ: { مَلَكَ يَوْمَ الدِّينِ } فجعل "مَلَك" فِعْلاً مَاضِياً، وإن أُرِيد به الحالُ، أو الاستقبالُ [فَيُشْكِلُ؛ لأنه: إِمَّا أنْ يُجْعَلَ نعتاً لله، ولا يجوزُ؛ لأنَّ إضافَةَ اسمِ الفَاعِلِ بمعنى الحالِ، أو الاستقبال] غَيْرُ محضةٍ، فلا يُعرف، وإذا لم يتعرّفْ، فلا يكون نعتاً لمعرفةٍ؛ لما عرفت فيما تقدم من اشتراط الموافقة تَعْرِيفاً وتنكيراً.
وإِمَّا أنْ يُجعَلَ بَدَلاً، وهو ضَعيفٌ، لأن البدل بالمشتقاتِ نادِرٌ كما تقدم.
والذي يَنْبَغِي أَنْ يُقالَ: إنه نعتٌ على مَعْنَى أنَّ تَقْييدَهُ بالزمانِ غَيْرُ مُعْتَبرٍ؛ لأَنّ الموصوفَ إِذَا عُرِّفَ بِوَصْفٍ كان تقْييدُه بزمانٍ غير معتبرٍ، فكان المعنى - والله أعلم - أنه متَّصِفٌ بمالك يوم الدِّين مطلقاً من غير نظر إِلَى مُضِيٍّ وَلاَ حَالٍ، ولاَ اسْتِقبالٍ، وهذا مَالَ إلَيهِ الزمخشريُّرحمه الله تعالى.
وإضافَةُ "مَالِكِ" و "مَلِكِ" إلى "يَوْمِ الدِّينِ" مِنْ بابِ الاتِّساعِ؛ إذْ متعلّقُهما غيرُ اليومِ، والتقديرُ: مَالِكِ الأَمْرِ كُلِّهِ يَوْم الدِّينِ.
ونظيرُ إِضَافَةِ "مَالِكٍ" إلى الظَّرْفِ - هُنَا - نَظِيرُ إِضَافَةِ "طَبّاخٍ" إلى "ساعات" في قول الشاعر: [الرجز]

53 - رُبَّ ابْنِ عَمِّ لِسُلَيْمَى مُشْمَعِلْ طَبَّاخِ سَاعَاتِ الكَرَى زَادَ الكَسِلْ

إِلاَّ أَنَّ المَفْعُولَ في البيت مَذْكُورٌ - وهو "زادَ الكَسِلْ"، وفي الآية الكريمةِ غيرُ مذكورٍ؛ للدلاَلةِ علَيه.
ويجوزُ أَنْ يكونَ الكَلاَمُ [على ظاهِرِه] من غيرَ تَقْديرِ حَذْفٍ.
ونسْبَةُ "المِلْك" و"المُلْك" إلى الزمان في حَقِّ اللهِ - تعالى - غَيْرُ مُشْكِلَةٍ، ويُؤيِّدُه ظاهرُ قِرَاءَةِ مَنْ قَرأ: { مَلَكَ يَوْمَ الدّين } فِعْلاً ماضياً، فإن ظاهِرَهَا كونُ "يَوْمَ" مَفْعُولاً به والإضافةُ على مَعْنَى "اللامِ"، لأَنَّها الأصل.
ومِنْهم مَنْ جعلها في هذا النحو على معنى "في" مُسْتَنِداً إلَى ظاهِرِ قَولِه تبارك وتعالى:
{ { بَلْ مَكْرُ ٱلْلَّيْلِ وَٱلنَّهَارِ } [سبأ: 33] قال: المعنى "مَكْرٌ في اللَّيْلِ" إذ اللَّيلُ لاَ يُوصَفُ بالمكرِ، إنما يُوصَفُ بِه العُقَلاَءُ، فالمَكْرُ واقِعٌ فيه.
والمشهورُ أَنَّ الإضافَةَ: إِمَّا على معنى "اللامِ" وإما على مَعْنى [مِنْ]، وكونُها بمعنى "في" غَيْرُ صَحِيحٍ.
وأَمَّا قولُه تعالى: "مَكْرُ اللَّيْلِ" فلا دَلاَلَةَ فِيه؛ لأنَّ هذا من بَابِ البَلاَغَةِ، وهو التَّجوزُ في أَنْ جَعَلَ ليلهم ونهارهم ماكِرَيْنِ مبالغةً في كَثْرة وقوعه منهم فيهما؛ فهو نَظيرُ قَوْلِهِمْ: نَهَارُهُ صَائِم، ولَيْلُهُ قَائِم؛ وقول الشاعر في ذلك البيت: [البسيط]

54 - أَمَّا النَّهَارُ فَفِي قَيْدٍ وَسِلْسِلَةٍ وَاللَّيْلُ فِي بَطْنِ مَنْحُوتٍ مِنَ السَّاجِ

لما كانت هذه الأشياءُ يكْثُر وقُوعها في هذه الظروفِ، وَصَفُوهَا بها مُبَالغةً في ذلك، وهو مَذْهَبٌ حَسَنٌ مَشْهُورٌ في كَلاَمِهِمْ.
و "اليَوْمُ" لُغَةً: القِطْعَةُ مِنَ الزَّمَانِ، أيَِّ زَمَنٍ كَان مِنْ لَيْلٍ وَنَهار؛ قال اللهُ تبارك وتعالى:
{ { وَٱلْتَفَّتِ ٱلسَّاقُ بِٱلسَّاقِ إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ } [القيامة:29 و30] وذلك كنايةٌ عن احتضار الموتى، وهو لا يختَصُّ بِلَيْلٍ ولا نَهَار. وأما في العُرْف: فهو من طُلُوعِ الفَجْرِ إلى غُرُوبِ الشمس.
وقال الرَّاغِبُ: "اليوم" يُعَبَّرُ به عن وَقْتِ طُلُوعِ الشمسِ إلى [غُرُوبِها].
وهذا إنَّما ذكرُوهُ في النَّهارِ لا في اليَومِ، وجعلوا الفرقَ بينهما ما ذكرتُ، وقد يُطْلَقُ اليوم على السَّاعَةِ، قال تبارك وتعالى:
{ { ٱلْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } [المائدة: 3]، وربما عُبِّرَ عَنِ الشِّدَّةِ باليوم، يُقالُ يَوْمٌ أَيَوْمُ؛ كما يُقالُ: لَيْلَةٌ لَيْلاَءُ. ذكره القُرْطُبِيُّرحمه الله تعالى. و "الدِّينِ" مضافٌ إِلَيه أَيْضاً، والمرادُ به - هنا - الجَزَاءُ؛ ومنه قولُ الشاعر: [الهزج]

55 - وَلَمْ يَبْقَ سِوَى العُدْوَا نِ دِنَّاهُمْ كَمَا دَانُوا

أي: جَازيْنَاهُمْ كما جَازَوْنَا.
وقال آخَرُ في ذلك: [الكامل]

56 - وَاعْلَمْ يَقِيناً أَنَّ مُلْكَكَ زَائلٌ وَاعْلَمْ بَأَنَّ كَمَا تَدِينُ تُدَانُ

ومثله: [المتقارب]

57 - إِذَا مَا رَمَوْنَا رَمَيْناهُمُ وَدِنَّاهُمْ مِثْلَ مَا يَقْرِضُونا

ومثله [الطويل]

58 - حَصَادَكَ يَوْمَاً مَا زَرَعْتَ وإِنَّما يُدانُ [الفَتَى] يَوْماً كَمَا هُوَ دَائِنُ

وقال ابنُ عباسٍ - رضي الله تَعَالَى عنهما - ومُقاتِلٌ والسُُّدِّيُّ: { مَـٰلِكِ يَوْمِ ٱلدِّينِ }: قَاضِي يَوْمِ الحِسَابِ؛ قال تعالى: { { ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ } [التوبة: 36]. أي: الحسابُ المستقيمُ.
وقال قَتَادَةُ: "الدِّين: الجَزَاءُ ويقعُ على الجزاءِ في الخَيْرِ والشَّرِّ جمِيعاً".
وقال مُحَمَّدُ بنُ كَعْبٍ القُرَظِي: "مَالِكِ يَوْمِ الدِّين، يوم لا ينفعُ فيه إلاّ الدِّين".
وقيل: الدين القَهْرُ: يُقالُ: دِنْتُهُ فَدَانَ أي: قَهَرْتُهُ فذلّ.
وقيل: الدينُ الطاعَةُ؛ ومنه: "وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً"، أَيْ: طَاعَةً، وله مَعَانٍ أُخَرُ: العادَةُ؛ كقولِه هذا البيت: [الطويل]

59 - كَدِينِكَ مِنْ أُمِّ الحُوَيْرثِ قَبْلَهَا وَجَارَتِهَا أُمِّ الرِّبابِ بمَأْسَلِ

أَيْ: كَعَادَتِكِ. ومثله: [الوافر]

60 - تَقُولُ وَقَدْ دَرَأْتُ لَهَا وَضِينِي أَهَذَا دِينُهُ أَبَداً وَدِينِي

ودَانَ: عَصَى وأطاعَ: وذَلَّ وعَزَّ، فهو من الأضدَادِ [قاله ثعلب].
والقضاءُ؛ ومنه قولُه تبارك وتعالى:
{ { وَلاَ تَأْخُذْكُم بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ ٱللَّهِ } [النور: 2]، أَيْ: في قَضَائِهِ وحُكْمِه.
والحَالُ؛ سُئِلَ بعضُ الأعرابِ فقال: "لو كنتُ على دِينٍ غيرِ هذه، لأَجَبْتُكَ"، أَيْ: على حَالَةٍ.
والدَّاءُ؛ ومنه قولُ الشاعرِ في ذلك: [البسيط]

61 - يَا دِينَ قَلْبِكَ مِنْ سَلْمَى وَقَدْ دِينَا

ويُقالُ: دِنْتُهُ بفعله أَدِينُه دَيْناً أَدِينُه دَيْناً وَدِيناً - بفتح الدَّال وكَسْرِها في المصدر - أيْ: جَازَيْتُه.
ويُسْتعارُ للملّة والشريعَةِ أيضاً؛ قال اللهُ تعالى:
{ { أَفَغَيْرَ دِينِ اللهِ يَبْغُونَ } [آل عمران:83]، يَعْنِي: الاسلامَ؛ بدليلِ قَوْلِه تَعَالَى: { { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ ٱلإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } [آل عمران: 85].
ويُقَالُ: دِينَ فُلاَنٌ يُدَانُ إذا حُمِلَ على مَكْروهٍ، ومنه قِيل للعبدِ: مَدِين، ولِلأَمَةِ: مَدِينَة.
وقِيل: هو من دِنْتُهُ: إذا جازيته بطاعته، وجعل بعضُهم "المَدِينَة" مِنْ هذا البابِ قاله الرَّاغِبُ، وسيأتي تحقيقُ هذه اللفظةِ عند ذكرها إِنْ شاء اللهُ تعالى.
وإنما خُصَّ "يوم الدين" بالذكر مع كونِه مالِكاً للأيّام كُلِّها؛ لأنَّ الأَمْلاَكَ يومئذَ زائِلة، فلا مُلْكَ ولاَ أَمْرَ إِلاَّ لَه؛ قال الله تعالى:
{ { ٱلْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ ٱلْحَقُّ لِلرَّحْمَـٰنِ } [الفرقان: 26]، وقال: { { لِمَنِ ٱلْمُلْكُ ٱلْيَوْمَ لِلَّهِ ٱلْوَاحِدِ ٱلْقَهَّارِ } [غافر: 16]، وقال تعالى: { { وَٱلأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ } [الانفطار: 19].
فصل فيمن قرأ بالإدغام هنا
قرأ أَبُو عَمْرو -رحمه الله تعالى: - "الرَّحِيم ملك" بإدغام المِيمِ في الميم، وكذلك يُدْغِمُ كُلَّ حَرْفَينِ مِنْ جِنْسٍ وَاحِدٍ، أَوْ مَخْرج واحد، أو [كانا] قرِيبَي المَخْرج، سواءٌ كانَ الحرفُ سَاكِناً أَوْ مُتَحَرِّكاً، إِلاّ أَنْ يَكُونَ الحرفُ الأوَّلُ مُشَدَّداً، أَوْ مُنَوَّناً، أَوْ مَنْقُوصاً أَوْ مَفْتُوحاً، أَوْ تَاءَ الخِطَابِ قبلَه ساكِن في غَيْرِ المِثْلَين، فإنه لا يدغمها وإدغامُ المتحرك يَكُونُ في الإِدغَامِ الكَبيرِ، وافَقه حَمْزَة من إدغام المتحركِ في قوله تعالى:
{ { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ } [النساء: 81] { وَٱلصَّافَّاتِ صَفَّا فَٱلزَّاجِرَاتِ زَجْراً فَٱلتَّالِيَاتِ ذِكْراً } [الصافات: 1 و 2 و 3]، { { وَٱلذَّارِيَاتِ ذَرْواً } [الذاريات: 1].
وأَدْغَمَ التاءَ فيما بعدَها من الحُرُوف وافَقَهُ حَمْزَةُ بروايةَ رَجَاء، وخَلَف، والكِسَائِي [في إدغام الساكن وهو إدغام الساكن في المتحرك] إِلاَّ في الراءِ عند اللام، والدال عند الجيم، وكذلك لا يُدْغِمُ حَمْزَةُ الدَّالَ عند السين والصاد والزاي، ولا إدغام لسائر القراء إلاّ في أحرف معدودة.
فصل في كلام القدرية والجبرية
قال ابنُ الخَطِيب: قالتِ القدريَّةُ: إن كان خَالِقُ أَفْعالِ العبادِ، هو الله - تعالى - امتنع القول بالثواب، والعقاب، والجزاءِ، لأن الثوابَ للرّجل على ما لم يعملْ عَبَث، وعقابه على ما لم يعمل ظُلْمٌ وعلى هَذا التقديرِ، فيبطل كونه مَالِكاً ليوم الدين.
وقالت الجبريةُ: لو لم تَكُنْ أعمالُ العبادِ بتقدير الله وترجيحه، لم يكن مالكاً لها، ولما أَجْمَعَ المسلِمُون على كونه مَالِكاً للعباد، ولأعمالِهم، عَلِمْنَا أَنَّهُ خالقٌ لها مقدرٌ لَهَا.