التفاسير

< >
عرض

صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ
٧
-الفاتحة

اللباب في علوم الكتاب

قولُه تَعَالَى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.
"صِرَاطَ الذِيْنَ" بدل منه، بدل كُلِّ مِنْ كُلّ، وهو بَدَلُ مَعْرِفَةٍ مِنْ مَعْرِفَةٍ.
والبدلُ سبعةُ أَقْسَامٍ على خلاف في بعضها:
بدلُ كُلّ من كُلّ، وبدل بَعْضٍ من كُلّ، وبدلُ اشْتِمَالٍ، وبدلُ غَلَطٍ، وبدل نِسْيَان، وبدل بَدَاء، وبدل كُلّ من بعض.
أما الأقسامُ الثلاثَةُ الأُوَلُ، فلا خلافَ فِيها.
وأما بدلُ البدَاء، فأثبته بعضُهم؛ مستدلاًّ بقوله عليه الصَّلاة والسَّلام:
"وإنَّ الرَّجُلَ لَيُصَلِّي الصلاَة، وما كتب له نِصْفُهَا ثُلُثُهَا رُبعُهَا إلى العُشُرِ" ولا يَرِدُ هذا في القرآن الكريمِ.
وأما الغَلَطُ والنسْيَانُ، فأثبتهما بعضُهم؛ مُسْتَدِلاًّ بقول ذي الرُّمَّةِ: [البسيط]

75- لَمْيَاءُ فِي شَفَتَيْهَا حُوَّةٌ لَعَسٌ وَفِي اللِّثَاتِ وَفِي أَنْيَابِهَا شَنَبُ

قال: لأنَّ "الحُوّة" السّوادُ الخالِصُ، و "اللَّعَسُ" سواد يشوبه حُمْرَة، ولا يرِدُ هذان البدلان في كَلاَمٍ فصيحٍ.
وأما بدل الكُلّ من البعض، فأثبته بعضهُم، مُسْتَدِلاًّ بظاهِر قوله: [الخفيف]

76- نَضَرَ اللهُ أَعْظُماً دَفَنُوهَا بِسِجِسْتَانَ طَلْحَةَ الطَّلَحَاتِ

في رواية مَنْ نَصَبَ "طَلْحَةَ"، قال: لأنَّ "الأَعْظُمَ" بعضُ "طَلْحَةَ"، و "طَلْحَةَ" كُلّ وقد أُبْدِلَ منها؛ واستدلّ - أيضاً - بقول امرىء القيس [الطويل]

77- كَأَنِّي غَدَاةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلُوا لَدَى سَمُرَاتِ الحَيِّ نَاقِفُ حَنْظَلِ

فـ "غَدَاةَ" بعضُ "اليوم"، وقد أُبْدِلَ "اليوم" منها.
ولا حُجَّةَ في البيتيْنِ، أما الأولُ: فإنَّ الأَصْلَ "أعظماً دفنوها أَعْظُمَ طلحة" ثم حُذِفَ المضافُ، وأقيم المُضَافُ إليهِ مُقَامه؛ ويدلُّ على ذلك الروايةُ المشهورةُ وهي جَرُّ "طَلْحَةَ" على أنَّ الأصل: "أعظم طلحة" ولم يُقَم المضاف إليه مقامَ المضاف.
وأما الثاني: فإنَّ "اليَوْمَ" يُطلقُ على القطعةِ من الزمان، كما تقدّم، وليس هذا موضعَ البَحْثِ عَن دَلائِلِ المذهبيْن.
وقيل: "الصراط" الثاني غير الأول، والمرادُ به: العلمُ بالله تعالى. قاله جَعْفَرُ بنُ محمدرحمه الله تعالى: وعلى هذا فتخريجته أن يكونَ مَعْطُوفاً حُذِفَ منه حَرْفُ العَطْفِ، وبالجملة فهو مُشْكلٌ.
والبدلُ ينقسمُ أيضاً إلى:
بدل مَعرفةٍ، ونكرةٍ منْ نكرةٍ، ومعرفةٍ منْ نكرةٍ، ونكرةٍ مِنْ معرفةٍ.
ويَنْقَسمُ أيضاً إلى:
بدل ظاهِر من ظاهرٍ: ومُضْمَرٍ مِنْ مُضْمَرٍ، وظاهرٍ مِنْ مضمر، ومضمرٍ من ظاهر.
وفائدةُ البَدلِ: الإيضاحُ بعد الإبْهَامِ؛ لأنهُ يُفِيدُ تأكيداً من حَيْثُ المعنى، إذ هو على نيّةِ تَكْرَار العامل.
و "الذين" في مَحَلِّ جرٍّ بالإضافة، وهو اسمُ موصولٍ، لافتقاره إلى صِلَةٍ وعائدٍ، وهو جمع "الذي" في المعنى، والمشهور فيه أن يكونَ بالياءِ، رفعاً، ونصباً، وجرًّا؛ وبعضُهم يرفعُه بالواوِ؛ جَرْياً له مَجْرَى جَمْعِ المذكَّر السَّالم؛ ومنه: [الرجز]

78- نَحْنُ الَّذُونَ صَبَّحُوا الصَّبَاحَا يَوْمَ الفَسَادِ غَارَةً مِلْحَاحَا

وقد تُحْذَفُ نُونُه اسْتِطَالةً بصلته؛ كقوله: [الطويل]

79- وَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دمَاؤُهُمْ هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ القَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ

ولا يقع إلاَّ على أُولي العلمِ، [ولا يقع مجرى جمع المذكر السَّالم، بخلاف مجرده فإنه يقع على أولي العلم] وغيرهم.
و "أَنْعَمْتَ": فِعْلٌ، وفاعلٌ، صِلَة المَوْصُولِ.
والتاء في "أنعمتَ" ضميرُ مرفوعٍ مُتَّصل. و"عليهم" جار ومجرور متعلّق بـ "أنعمتَ"، والضميرُ هو العائدُ، وهو ضمير جمع المذكرين العقلاء، ويستوي فيه لفظ مُتَّصِلِه ومُنْفَصِلِهِ.
والهمزةُ في "أنعمتَ"؛ لجَعْلِ الشيءِ صَاحِبَ ما صِيَغَ منه، فحقُّه أن يَتَعَدَّى بِنَفْسِه، ولكن ضُمِّنَ معنى "تَفَضَّلَ" فَتَعَدَّى تَعْدِيَتَهُ.
وقرأ عمر بنُ الخَطّابِ، وابنُ الزُّبَيْرِ رضي الله - تعالى - "صِرَاطَ مَنْ أَنْعَمْتَ".
ولـ "أَفْعَلَ" أربعةٌ وعشرُونَ مَعْنى، تقدّمَ وَاحِدٌ.
والتعدِيَةُ؛ نحو: "أَخْرَجتُه".
والكثرةُ؛ نحو: "أَظْبَى المَكَانُ" أَيْ: "كَثُرَ ظِبَاؤُه".
والصَّيرورةُ؛ نحو: "أَغَدَّ البَعِيرُ" صار ذا غُدّة.
والإعانة؛ نحو: "أَحْلَبْتُ فُلاَناً" أي: أعنتُه على الحَلْبِ.
والتَّشْكِيَةُ؛ نحو: "أَشكيتُه" أي: أزلتُ شِكَايَتَهُ.
والتَّعرِيضُ؛ نحو: "أبعتُ المبتاعَ"، أي: عرضتُه للبيع.
وإصابةُ الشيءِ بمعنى ما صيغ منه؛ نحو: "أحمدتُه" أي: وجدتُه محموداً.
وبلوغُ عَدَدٍ؛ نحو: "أعْشَرتِ الدَّرَاهِمُ"، أي: بلغتِ العَشَرَة.
أو بلوغُ زَمانٍ؛ نحو "أصبح"، أو مَكَانٍ؛ نحو "أَشْأَمَ".
وموافقَةُ الثّلاثي؛ نحو: "أحزتُ المكانَ" بمعنى: حُزْتُهُ.
أَوْ أَغْنَى عن الثلاثي؛ نحو: "أَرْقَلَ البعيرُ".
ومطاوعةُ "فَعَلَ"؛ نحو قَشَع الريح، فَأَقْشَع السّحابُ.
ومطاوعَةُ "فَعَّلَ"؛ نحو: "فَطَّرْتُه، فَأَفْطَرَ".
ونَفْيُ الغريزَةِ؛ نحو: "أسرع".
والتَّسميةُ؛ نحو: "أخطأتهُ"، أَيْ: سَمَّيْتُه مخْطِئاً.
والدعاءُ؛ نحو: "أسقيتُه"، أَي: قلتُ له: سَقَاكَ الله تعالى.
والاستحقاقُ؛ نحو "أَحْصَدَ الزرعُ"، أَيْ: استحقَّ الحصادَ.
والوصولُ؛ نحوه: "أَعْقَلْتُهُ"، أَيْ: وَصَّلْتُ عقلي إليه.
والاستقبالُ نحو: "أَفَفْتُه"، أَي: استقبلتُه بقول: أُفٍّ.
والمجيءُ بالشيء؛ نحو: "أكثرتُ" أَيْ: جئتُ بالكثير.
والفرقُ بين أَفْعَلَ وفَعَل، نحو: أَشْرَقَتِ الشَّمسُ: أضاءتْ، وشَرَقَتْ: طَلَعَتْ.
والهجومُ؛ نحو: أَطْلَعْتُ على القوم، أيْ: اطَّلعْتُ عَلَيْهِمْ.
و "على" حرف استعلاء حقيقةً أو مجازاً؛ نحو: عليه دَيْنٌ: ولها معانٍ أُخَرُ، منها: المُجَاوزة؛ كقوله: [الوافر]

80- إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ لَعَمْرُ اللهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا

أيْ: عَنِّي.
وبمعنى "الباءِ"
{ { حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ } [الأعراف: 105]، أي: بأَنْ، وبمعنى "فِي"؛ { { ٱلشَّيَٰطِينُ عَلَىٰ مُلْكِ سُلَيْمَٰنَ } [البقرة: 102] أيْ: فِي [مُلْكِ]، { { ٱلْمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِ ذَوِي ٱلْقُرْبَىٰ } [البقرة: 177].
والتعليلُ:
{ { وَلِتُكَبِّرُواْ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ } [البقرة: 185]؛ أي لأجلِ هِدَايَتِه إياكم.
وبمعنى "مِن":
{ { حَافِظُونَ إِلاَّ عَلَىٰ أَزْوَاجِهِمْ } [المؤمنون: 5، 6]، أيْ: إلاّ مِنْ أَزواجهم.
والزيادة كقوله: [الطويل]

81- أبَى اللهُ إلاَّ أَنَّ سَرْحَةَ مَالِكٍ عَلَى كُلِّ أَفْنَانِ العِضَاهِ تَرُوقُ

لأنَّ "تُروقُ" يتعدى بنفسِه، ولكل موضع من هذه المواضعِ مَجَالٌ للنظر.
وهي مترددةٌ بين الحَرْفِيَّةِ، والاسْمِيَّةِ؛ فتكون اسماً في موضعين:
أحدهُما: أن يدخلَ عليها حَرْفُ الجَرّ؛ كقول الشاعر: [الطويل]

82- غَدَتْ مِنْ عَلَيْهِ بَعْدَ مَا تَمَّ ظِمْؤُهَا تَصِلُّ وَعَنْ قَيْضٍ بِزَيزَاءَ مَجْهَلِ

ومعناها "فَوْق"، أيْ: من فوقه.
والثاني: أنْ يؤدي جعلُه حرفاً، إلى تعدِّي فعل المضمر المنفصل إلى ضمير المُتّصل في غيرِ المَوَاضِع الجَائِز فيها؛ ومن ذلك قوله: [المتقارب]

83- هَوِّنْ عَلَيْكَ فإنَّ الأُمُورَ بِكَفِّ الإِلهِ مَقَادِيرُهَا

ومثلُها في هذيْن الحُكْمَيْن "عَنْ"، وستأتي إنْ شاء الله تعالى.
وزعم بعضُهم أنَّ "على" مترددةٌ بين الاسم، والفِعْلِ، والحرفِ.
أما الاسمُ والحرفُ، فقد تقدما.
وأما الفعلُ: قال: فإنك تقولُ: "عَلاَ زيدٌ" أي: ارتفع. وفي هذا نَظَرٌ؛ لأن "عَلاَ" إذا كان فِعْلاً، مُشْتَقٌّ من العُلُوِّ، وإذا كان اسماً أو حرفاً، فلا اشتقاقَ له، فليس هو ذَاكَ، إلاَّ أنَّ هذا القَائِلَ يَرُدُّ هذا النظرَ، [بقولهم: إنَّ "خَلاَ"، "وَعَدا" مترددانِ بين الفعليَّةِ والحرفيَّةِ، ولم يلتفتوا إلى هذا النظر].
والأصلُ في هاء الكِناية الضَّمُّ، فإنْ تقدمها ياءٌ ساكنة، أو كسرةٌ، كَسَرَها غيرُ الحِجازَيين؛ نحو: عَلَيْهِم وفِيهِمْ وَبِهِمْ.
والمشهورُ في مِيمِهَا السكونُ قبل متحرك، والكسرُ قبلَ ساكن، هذا إذا كَسَرْتَ الهاء، أما إذا ضممتَ، فالكَسْرُ ممتنع إلاّ في ضَرُورة؛ كقوله: "وفِيهُمِ الحكام" بِكَسْرِ المِيمِ.
وفي "عَلَيْهِمْ" عشرُ لُغاتٍ:
قُرِىءَ بِبَعْضِها: "عَلَيْهُِمْ" بكسر الهاء وضمها، مع سُكُون الميم.
"عَلَيْهِمِي"، بكسر الهاء، وزيادة الياء، وبكسر الميم فقط.
"عليهُمُو" بضم الميم، وزيادة واو، أو الضم فقط.
"عليهِمُو" بِكَسْرِ الهاءِ، وضم الميمِ، بزيادة الواو.
"عليهُمِي" بِضَمِّ الهاء، وزيادة ياء بعد الميم.
أو الكسر فقط "عليهِمُ" بكسر الهاء، وضم الميم، حكى ذلك ابنُ الأَنْبَارِي.
والتفسيرُ، قال البَغَويُّ -رحمه الله تعالى -: صراط الذين أنعمت عليهم أي: مَنَنْتَ عليهم بِالهِدَايَةِ والتوفيق، وقال عِكْرَمة - رضي الله تعالى عنه -: مَنَنْتَ عليهم بالثَّبات على الإيمان والاسْتِقَامَة وعلى الأنبياء عليهم السلام.
وقِيل: على كُلِّ مَنْ ثَبَتَهُ الله - تعالى - من النَّبِيِّين والمُؤْمنين الذي ذكرهم الله - تَعَالَى - في قوله:
{ { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ وَٱلشُّهَدَآءِ وَٱلصَّٰلِحِينَ } [النساء: 69] وقال ابنُ عباس - رضي الله تعالى عنهما - هُمْ قومُ مُوسَى، وعِيسَى - عليهما الصلاة والسلام، قبل أن غيروا دينهم.
وقال أَبُو العَالِيَةَ: هم آلُ الرسولِ صلى الله عليه وسلم وأبو بكر، وعمر رضي الله عنهما.
وقال شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ - رضي الله عنه -: هم أصحابُ النبي صلى الله عليه وسلم، وأهل بَيْتِهِ.
وقرأ حَمْزَةُ "عَلَيْهُمْ"، و "إلَيْهُمْ"، و "لَدَيْهُمْ" بضم الهاء.
ويضم يَعْقُوب كُلَّ هاءٍ قبلها ياءٌ ساكنة تثنيةً وجمعاً، إلاّ قولَه تعالى:
{ { بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } [الممتحنة: 12].
والآخرُونَ: بكسرها. فَمَنْ ضَمَّها ردّها إلى الأصل؛ لأنها مضمومة عند الانفراد.
ومَنْ كسرها، فالأصل الياءُ السَّاكنة، والياءُ أختُ الكسرة.
وضم ابنُ كَثِير، وأَبُو جَعْفَر كُلَّ ميم جمع مُشْبِعاً في الوَصْلِ، إذا لم يلقها ساكن، فإنْ لقيها ساكِنٌ فلا يُشْبِع.
ونَافِعٌ يُخَيِّرُ، ويضمُّ وَرْش عند ألِفِ القطع.
وإذا تلقته ألفُ الوصلِ، وقبل الهاء كسرٌ، أو ياءٌ ساكنةٌ، ضمّ الهاءَ والمِيمَ حَمْزَةُ والكسائي - رحمهما الله - وكسرَهُما أَبُو عَمْرو، وكذلك يَعْقُوبُ إذَا انْكَسر ما قبله.
والآخرون: بضمّ الميم، وكسرِ الهاء؛ لأجل الياء أو لكسر ما قبلها، وضمّ الميم على الأصل، وقرأ عمرُ بن الخَطَّاب - رضي الله تعالى عنه -: "صرَاطَ مَنْ أنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ".
قال ابنُ الخَطِيب -رحمه الله تعالى -: اخْتُلِفَ في حَدّ النّعْمَةِ:
فقال بعضُهم: إنَّها عِبَارَةٌ عن المَنْفَعةِ المفعولة على جِهَةِ الإحسان إلَى الغيرِ.
[ومنهم مَنْ يقولُ: المنفعة الحسنة المفعولة على جهة الإحْسَان إلى الغير].
قالوا: وإنما زدْنا على هذا القَيْدِ، لأن النعمةَ يستحقّ لها الشكر والإحسان [والحقّ أن هذا القيد غير معتبر؛ لأنه لا يجوز أن يستحق الشكر بالإحسان]، وإنْ كان فعله محظوراً؛ لأن جهةَ استحقاقِ الشكر غير جهةِ استحقاق الذَّنْب والعِقاب، فأيُّ امتناعٍ في اجتماعهما؟ أَلاَ ترى أن الفاسِقَ يستحقُّ بإنعامه الشُّكْرَ، والذَّمَّ بمعصيةِ الله تعالى، فلا يجوزُ أنْ يَكُونَ الأمرُ ها هنا كذلك.
ولنرجع إلى تفسير الحَدّ: فنقول: أما قَولُنا: "المنفعة"؛ فلأن المَضَرّةَ المحضةَ لا تكون نِعْمَةً.
وقولنا: المفعولة على جهة الإحسان؛ لأنه لو كان نفعاً حقًّا وقَصَدَ الفاعلُ به نفعَ نفسه، نَفْعَ المفعولِ به، فلا يكون نِعْمَةً، كَمَنْ أحسن إلى جَاِريَتِهِ، ليربَحَ عليها.
وها هنا فوائدُ:
الفائِدَةُ الأُوْلَى: أَنَّ كلّ ما يصل إلى الخلق من النفع، ودفع الضَّرر، فهو من الله تعالى على ما قال تبارك وتعالى:
{ { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ ٱللَّهِ } [النحل: 53]، ثمَّ إنَّ النعمةَ على ثلاثةِ أَقْسَامٍ:
أحدُها: نِعمةٌ تَفَرَّدَ الله - تعالى - بإيجَادِهَا، نحو: أنْ خَلَق ورَزَقَ.
وثانيها: نعمةٌ وصلت إلينا من جهةِ غير الله - تعالى - في ظاهرِ الأَمْرِ، وفي الحقيقة فهي - أيضاً - إنّما وصلتْ من الله تبارك وتعالى؛ وذلك لأنه - تعالى - هو الخالقُ لتلك النعمةِ، والخالقُ لذلك المنعِِمِ، وخالقٌ لداعيةِ الإنْعَام بتلك النعمة في قلب ذلك المنعم، إلاّ أنه تبارك وتعالى لَمّا أَجْرَى تلك النعمة على يَدِ ذلك العَبْدِ، كان ذلك العبدُ مشكوراً، ولكن المشكور في الحقيقة هو الله - تعالى - ولهذا قال تعالى:
{ { أَنِ ٱشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ ٱلْمَصِيرُ } [لقمان: 14] فبدأ بنفسِه، تنبيهاً على أن إنعامَ الخلقِ لا يتمّ إلاّ بإنعام الله تعالى.
وثالثها: نِعمٌ وصلت من الله إلينا بسبب طاعتنا، وهي أيضاً من الله تعالى؛ لأنه لولا أنَّ الله - سبحانه وتعالى - وَفّقنا للطاعات، وأعاننا عليها، وهدانا إليها، وأَزَاحَ الأعذار عَنا، وإِلاَّ لَمَا وَصَلْنَا إلى شَيْءٍ منها، فظهر بها التقرير أنَّ جَمِيعَ النعم في الحقيقة من الله تَعَالى.
الفائدةُ الثَّانيةُ: اختلفوا [في أنه] هل لله - تعالى - نعمةً على الكافرِ أَم لاَ؟ فقال بعضُ أصحابنا: ليس لله - تعالى - على الكافر نعمة.
وقالت المعتزلةُ: لله - تعالى - على الكافر نعمة دينية، ونعمة دنيوية.
واحتجَّ الأصحابُ على صحّةِ قولهم، بالقرآن [الكريم]، والمعقول.
أما القرآنُ؛ فقوله تبارك وتعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }؛ وذلك لأنه لو كان لله على الكافر نعمةٌ، لكانوا داخِلِينَ تحت قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } فيكون طلباً لصراطِ الكُفّارِ، وذلك بَاطِلٌ، فثبت بهذه الآيةِ أنه ليس لله - تعالى - على الكافر نعمةٌ.
فإن قَالُوا: إنَّ قَوْله: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } يدفعُ ذَلكَ.
قلنا: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } بدل مِنْ قَوْلِه: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ }؛ فكان التَّقْدِير: "اهْدِنا صراطَ الذين أنعمت عليهم"، وحينئذٍ يَعُودُ المحذوفُ المذكورُ.
وقوله تبارك وتعالى:
{ { وَلاَ يَحْسَبَنَّ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَِنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوۤاْ إِثْماً } [آل عمران: 178].
وأما المَعْقُولُ: فهو أَنَّ نِعَمَ الدنيا الفانيةَ في مُقَابلةِ عَذَابِ الآخرة على الدوام، كالقَطْرة في البحر، ومثل هذا لا يكون نِعْمَةً، بدليل أنَّ مَنْ جعل السُّمَّ في الحَلْوَى لم يَعُدِ النفعُ الحاصلُ منه نعمةً؛ لأجل أن ذلك النفع حقيرٌ في مُقابلةِ ذلك الضَّرر الكبير، فكذا ههُنا.
وأما الَّذِين قالوا: إن لله على الكافر نعمةً، فقد احتجُّوا بقوله تعالى:
{ { يَاأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِي خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ٱلَّذِي جَعَلَ لَكُمُ ٱلأَرْضَ فِرَاشاً وَٱلسَّمَآءَ بِنَآءً } [البقرة: 21، 22]، على أنه يَجبُ على الكُلِّ طاعةُ الله - تعالى - لأجلِ هذه النعم، وإلاّ لما كانت هذه النعمُ العظيمةُ معتبرةً؛ وقولِه تعالى: { { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [البقرة: 28]، ذكر ذلك في معرض الامْتِنَانِ، وشرحِ النعم.
وقولِه تعالى:
{ { يَٰبَنِي إِسْرَٰءِِيلَ ٱذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ ٱلَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [البقرة: 40].
وقولِه تعالى:
{ { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ ٱلشَّكُورُ } [سبأ: 13].
وقول إبليس:
{ { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَٰكِرِينَ } [الأعراف: 17].
ولو لم تحصل النعمة، لم يلزمْ من عَدَمِ إقدامِهم على الشكر محذورٌ؛ لأنّ الشكر لا يمكن إلاَّ عند حصول النعمة.
الفائدة الثالثةُ: قال ابنُ الخَطِيب -رحمه الله -: قوله تعالى: { ٱهْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يدل على إمامةِ أبي بكر - رضي الله عنه؛ لأنا ذكرنا أن تقديرَ الآية: "اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم" والله - تعالى - قد بيّن في آية أُخْرَى أَنَّ { ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } من هم؛ بقوله تعالى:
{ { فَأُوْلَـٰئِكَ مَعَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمَ ٱللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ ٱلنَّبِيِّينَ وَٱلصِّدِّيقِينَ } [النساء: 69] ورئيسهم أبو بكر الصّديق - رضي الله تعالى عنه - فكان معنى الآية أن الله - تعالى - أمرنا أن نطلب الهداية [التي كان عليها أبو بكر الصديق، وسائر الصّديقين، ولو كان أبو بَكْرٍ - رضي الله تعالى عنه - غيرَ إمامٍ، لما جَازَ الاقتداء به]، فثبت [بما ذكرناه دلالة هذه الآية على] إمامة أبي بكر رضي الله عنه.
الفائدة الرابعة: قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يتناول كُلّ من كان لله - تعالى - عليه نعمة، وهذه النعمة إما أن يكون المراد منها نعمة الدنيا، أو نعمة الدين، والأول باطل فثبت أن المراد منه نعمة الدين.
فنقول: كل نعمة ديِنِيّة سوى الإيمان فهي مشروطة بحصول الإيمان، وأمّا نعمة الإيمان فيمكن حصولها خالياً عن سائر النعم الدينية، وهذا يدلّ على أن المراد من قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } هو نعمة الإيْمَان، فرجع حاصل القول في قوله تعالى: { 1649;هْدِنَا ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } أنه طلب لنعمة الإيمان، وإذا ثبت هذا الأصل، فيتفرع عليه أحكام:
الأول: أنه لما ثبت أن المُرادَ من هذه النعمة نِعْمَةُ الإيمان، إذ لفظ الآية الكريمة صريح في أن الله - تعالى - هو المنعم بالنعمة، ثبت أنّ الخالق للإيمان، والمعطي للإيمان هو الله تعالى، وذلك يدلّ على فساد قول المعتزلة، وكان الإيمان أعظم النعم، فلو كان الفاعل للإيمان هو العبد لكان إنعام العبد أشرف وأعلى من إنعام الله تعالى، ولو كان كذلك لما حسن من الله - تعالى - أن يذكر إنعامه في معرض التعظيم.
الحكم الثاني: يجب ألاَّ يبقى المؤمن مخلداً في النار؛ لأن قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مذكور في معرض التَّعْظيم بهذا الإنعام، ولو لم يكن له أثر في دفع العَذَاب المؤبّد لكان قليل الفائدة، فما كان يحسن من الله - تعالى - ذكره في معرض التَّعْظيم.
الحكم الثالث: دلّت الآية الكريمة على أنه لا يجب على الله - تعالى - رعاية [الصلاح والأصلح] في الدين؛ لأنه لو كان الإرْشاد على الله - تعالى - واجباً لم يكن ذلك إنعاماً، وحيث سماه الله - تعالى - إنعاماً علمنا أنه غير واجب.
الحكم الرابع: لا يجوز أن يكون المراد بالإنعام الإقدار على الإيمان؛ لأن الله - تبارك وتعالى - قدر المكلف عليه، وأرشده إليه، وأزاح أعْذَارَهُ وعِلَلَهُ عَنْهُ، لأن كل ذلك حاصل في حَقّ الكفار، فلما خص - تعالى - بعض المكلفين بهذا الإنعام، مع أن الإقدار، وإزاجة العلل حاصل في حَقّ الكل، علمنا أن المراد ليس هو الإقدار، وإزاحة الموانع.
قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }
"غير" بدل من "الذين" بدل نكرة من معرفة.
وقيل: نعت لـ "الذين"، وهو مشكل؛ لأن "غير" نكرة و "الذين" معرفة، وأجابوا عنه بجوابين:
أحدهما: أن "غير" إنما يكون نكرة إذا لم يقع بين ضدّين، فأما إذا وقع بين ضدين فقد انحصرت الغيرية، فيتعرف "غير" حينئذ بالإضافة، تقول: "مررت بالحركة غير السكون" والآية من هذا القبيل، وهذا إنما يتمشّى على مذهب ابن السّراج، وهو مرجوح.
والثاني: أن الموصول أَشْبَهَ النكرات في الإبْهَام الذي فيه، فعومل معاملة النكرات.
وقيل: إن "غير" بدل من المضمر المجرور في "عليهم"، وهذا يشكل على قول من يرى أن البدل يحل محلّ المبدل منه، وينوي بالأول الطّرح؛ إذ يلزم منه خلو الصّلة من العائد، ألا ترى أن التقدير يصير: "صراط الذين أنعمت على غير المغضوب عليهم".
و "المغضوب" خفض بالإضافة، وهو اسم مفعول، والقائم مقام الفاعل الجار والمجرور، فـ "عليهم" الأولى منصوبة المَحَلّ، والثانية مرفوعته، و "أل" فيه موصولة، والتقدير: "غير الذين غُضِب عليهم".
والصحيح في "أل" الموصولة أنها اسم لا حَرْفٌ.
واعلم أن لفظ "غير" مفرد مذكر أبداً، إلا أنه إن أريد به مؤنث جاز تأنيث فعله المسند إليه، نقول: "قامت غيرك"، وأنت تعني امرأة، وهي في الأصل صفة بمعنى اسم الفاعل، وهو مغاير، ولذلك لا تتعرف بالإضافة، وكذلك أخواتها، أعني نحو: "مِثْل وشِبْه وشَبِيه وخِدْن وتِرْب".
وقد يستثنى بها حملاً على "إلاّ" كما يوصف بـ "إلاّ" حملاً عليها، وقد يراد بها النفي كـ "لا"، فيجوز تقديم معمول معمولها عليها، كما يجوز في "لا" تقول: "أنا زيداً غَيْرُ ضارب" أي: غير ضارب زيداً؛ ومنه قول الشاعر: [البسيط]

84- إِنَّ امْرَءًا خَصَّنِي عَمْداً مَوَدَّتْهُ عَلَى التَّنَائِي لَعِنْدِي غَيْرُ مَكْفُورِ

تقديره: غير مكفور عندي، ولا يجوز ذلك فيها إذا كانت لغير النَّفي.
لو قلت: "جاء القوم زيداً غير ضارب"، تزيد: غير ضارب زيداً لم يجز؛ لأنها ليست بمعنى "لا" التي يجوز فيها ذلك على الصَّحيح من الأقوال في "لا".
وفيها قول ثانٍ يمنع ذلك مطلقاً.
وقول ثالث: يفصل بين أن تكون جَوَاب قَسَمٍ، فيمتنع فيها ذلك، وبين ألاّ يكون فيجوز.
وهي من الألفاظ اللاَّزمة للإضافة لفظاً وتقديراً، فإدْخَال الألف واللام عليها خَطَأ.
واختلفوا هل يجوز دخول "أل" على "غير وبعض وكل" والصحيح جوازه.
قال البغوي -رحمه الله تعالى -: "غير" ها هنا بمعنى "لا" و "لا" بمعنى "غير"، ولذلك جاز العَطْفُ عليها، كما يقال: "فلان غير مُحْسن ولا مجمل"، فإذا كان "غير" بمعنى "لا"، فلا يجوز العَطْفُ عليها بـ "لا"؛ لا يجوز في الكلام: "عندي سوى عبد الله ولا زيد".
وقرىء: "غَيْرَ" نصباً، فقيل: حال من "الَّذِين" وهو ضعيف؛ لمجيئه من المُضَاف إليه في غير المواضع الجائز فيها ذَلِكَ، كما ستعرفه إن شَاءَ اللهُ تعالى: وقيل: من الضمير في "عليهم".
وقيل على الاستثناء المنقطع، ومنعه الفَرَّاء؛ قال: لأن "لا" لا تُزَادُ إلاَّ إذا تقدمها نفي، كقول الشاعر: [البسيط]

85- مَا كَانَ يَرْضَى رَسُولُ اللهِ فِعْلَهُمَا وَالطَّيِّبَانِ أَبُو بَكْرٍ وَلاَ عُمَرُ

وأجابوا بأن "لا" صلة زائدة مثلها في قوله تعالى: { { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [الأعراف: 12]؛ وقول الشَّاعر: [الرجز]

86- فَمَا أَلُومُ البِيضَ ألاّ تَسْخَرَا

وقول الآخر: [الطويل]

87- وَيَلْحَيْنَني في اللَّهْوِ أَلاَّ أُحِبَّهُ ولِلَّهْوِ دَاعٍ دَائِبٌ غَيْرُ غَافِلِ

وقول الآخر: [الطويل]

88- أَبَى جُودُهُ لاَ البُخْلَ واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ مِنْ فَتًى لا يَمْنَعُ الجُودَ نَائِلُهْ

فـ "لا" في هذه المواضع كلها صلةٌ.
وفي هذا الجواب نظر؛ لن الفَرَّاء لم يقل: إنها غير زائدة، وقولهم: إن "لا" زائدة في الآية، وتنظيرهم بالمَوَاضِعِ المتقدّمة لا تفيد، وإنّما تحرير الجواب أن يقولوا: وجدت "لا" زائدةً من غير تقدّم نفي، كهذه المواضع المتقدمة.
ويحتمل أن تكون "لا" في قوله: "لا البُخْلَ" مفعولاً به لـ "أَبَى"، ويكون نصب "البُخْلَ" على أنه بدل من "لا" أي: أبى جُودُهُ قَوْلَ لا، وقول: لا هو البخل، ويؤيد هذا قوله: "واسْتَعْجَلَتْ بِهِ نَعَمْ" فجعل "نَعَمْ" فاعل "اسْتَعْجَلَتْ"، فهو من الإِسْنَادِ اللَّفْظي، أي: إلى جود هذا اللَّفظ، واستعجل به هذا اللفظ.
وقيل: إن نصب "غير" بإضمار أعني. ويحكى عن الخليل، وقدّر بعضهم بعد "غير" محذوفاً قال: التقدير: "غير صِرَاط المَغْضُوب"، وأطلق هذا التَّقدير، فلم يقيده بِجَرّ "غير"، ولا نصبه ولا يتأتى ذلك إلاَّ مع نصبها، وتكون صفةً لقوله تعالى: { ٱلصِّرَاطَ ٱلْمُسْتَقِيمَ } وهذا ضعيف؛ لأنه متى اجتمع البدل والوصف قدم الوصف، فالأولى أن تكون صفةً لـ "صراط الذين"، ويجوز أن تكون بدلاً من "الصراط المستقيم"، أو من "صراط الذين" إلا أنه يلزم منه تكرار البدل، وفي جوازه نَظَر، وليس في المَسْألة نقل، إلاّ أنهم قد ذكروا ذلك في بَدَلِ البَدَاء خَاصّة، أو حالاً من "الصراط" الأول أو الثاني.
واعلم أنّه حيث جعلنا "غير" صفةً فلا بد من القول بتعريف"غير"، أو إبهام الموصوف، وجريانه مجرى النكرة، كما تقدم تقريره ذلك في القراءة بجرّ "غير".
و "لا" في قوله تعالى: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } زائدة لتأكيد معنى النَّفي المفهوم من "غير" لئلا يتوهّم عطف "الضَّالين" على "الذين أنعمت".
وقال الكوفيون: هي بمعنى "غير" وهذا قريبٌ من كونها زائدةً، فإنه لو صرح بـ "غير" كانت للتأكيد أيضاً، وقد قرأ بذلك عمر بن الخَطَّاب وأبيٌّ رضي الله عنهما.
و "الضَّالين" مجرور عطفاً على "المغضوب"، وقرىء شاذاً "الضَّأَلِّينَ"، بهمز الألف؛ وأنشدوا: [الطويل]

89- وَلِلأَرْضِ أَمَّا سُودُهَا فَتَجَلَّلََتْ بَيَاضاً، وأَمَّا بِيضُهَا فَادْهَأَمَّتِ

قال الزَّمَخْشَرِي: "وفعلوا ذلك، لِلْجِدِّ في الهَرَبِ من التقاء السَّاكنين".
وقد فعلوا ذلك حتى لا سَاكِنَانِ؛ قال الشاعر: [الرجز]

90- وَخِنْدِفٌ هَامَةُ هَذَا العَأْلَمِ

بهمز "العألم".
وقال آخر: [البسيط]

91- وَلَّى نَعَامُ بَنِي صَفْوَانَ زَوْزَأَةً..................

بهمز ألف "زَوْرَأَة"، والظَّاهر أنها لغةٌ مطَّردةٌ؛ فإنهم قالوا في قراءة ابن ذَكْوَان: "مِنْسَأَتَهُ" بهمز ساكنة: إنّ أصلها ألف، فقلبت همزة ساكنة.
فإن قيل: لم أتى بصلة "الذين" فعلاً ماضياً؟
قيل: ليدلّ ذلك على ثبوت إنعام الله - تبارك وتعالى - عليهم وتحقيقه لهم، وأتى بصلة "أل" اسماً ليشمل سائر الأزمان، وجاء مبنيًّا للمفعول؛ تحسيناً للفظ؛ لأنّ من طلبت منه الهداية، ونسب الإنعام إليه لا يناسبه نسبة الغضب إليه، لأنه مقام تلطُّف، وترفّق لطلب الإحسان، فلا يحسن مواجهته بصفة الانتقام.
والإنعام: إيصال الإحسان إلَى الغير، ولا يقال إلا إذا كان الموصل إليه الإحْسَان من العُقَلاَء، فلا يقال: أنعم فلان على فَرَسِهِ، ولا حماره.
والغضب: ثَورَان دم القلب إرادة الانتقام، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام:
"اتَّقُوا الغَضَبَ فإنه جَمْرَةٌ تُوقَدُ في قَلْبِ ابْنِ آدَمَ، ألم تَرَ إلى انْتِفَاخِ أَوْدَاجِهِ وحُمْرَةِ عينيه" .
وإذا وصف به الباري - تبارك وتعالى - فالمراد به الانتقام لا غيره.
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى -: هنا قاعدة كليةٌ، وهي أن جميع الأعراض النَّفْسَانية - أعني الرحمة، والفرح، والسُّرور، والغضب، والحَيَاء، والعُتُوّ، والتكبر، والاستهزاء -لها أوائل ولها غايات.
ومثاله: الغضب: فإنّ أول غليان دم القلب، وغايته: إرادة إيصال الضَّرَرِ إلى [المغضوب عليه، فلفظ الغضب في حق الله لا يحمل على أوله الذي هو غليان دم القلب، بل على غايته الذي هو إرادة الإضرار، وأيضاً الحَيَاءُ] له أول وهو انكسار النفس، وهذه قاعدة شريفة في هذا الباب.
ويقال: فُلاَن غُضبَّة: إذا كان سريع الغَضَبِ.
ويقال: غضبت لفلان إذا كان حيًّا وغضبت به إذا كان ميتاً.
وقيل: الغضب تغيُّر القلب لمكروه.
وقيل: إن أريد بالغضب العُقُوبة كان صفة فعل، وإن أريد به إرادة العقوبة كان صفة ذاتٍ.
والضلال: الخَفَاء والغيبوبة.
وقيل: الهلاك، فمن الأول قولهم: ضَلَّ الماءُ في اللبن.
[وقال القائل]: [الوافر]

92- أَلَمْ تَسْأَلْ فَتُخْبِرَكَ الدِّيَارُ عَن الحَيِّ المُضَلَّلِ أَيْنَ سَارُوا؟

"والضَّلضلَة": حجر أملس يَرُده السَّيْل في الوادي.
ومن الثاني:
{ { أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي ٱلأَرْضِ } [السجدة: 10]، وقيل: الضّلال: العُدُول عن الطريق المستقيم، وقد يُعَبَّرُ به عن النِّسْيان كقوله تعالى: { { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } [البقرة: 282] بدليل قوله: { { فَتُذَكِّرَ } [البقرة: 282].
التفسير: قيل: "المغضوب عليهم" هم اليهود.
وقيل: "الضالون" هم النصارى؛ لأن الله - تعالى - حكم على اليهود بالغَضَبِ فقال تعالى:
{ { مَن لَّعَنَهُ ٱللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [المائدة: 60]، وحكم على النصارى بالضَّلال فقال تعالى: { { وَلاَ تَتَّبِعُوۤاْ أَهْوَآءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ } [المائدة: 77].
وقيل: هذا ضعيف؛ لأن منكري الصَّانع والمشركين أَخْبَثُ ديناً من اليهود والنصارى، فكان الاحتراز من دينهم أولى.
وقيل: "المغضوب عليهم": هم: الكُفّار، و "الضّالون": هم المنافقون.
وقال سهل بن عبد الله رضي الله عنهما: "غير المغضوب عليهم" بالبِدْعَةِ، "والضّالين" عن السُّنَّة.
والأَوْلَى أن يحمل "المغضوب عليهم" على كل من أَخْطَأَ في الاعتقاد؛ لأن اللفظ عام، والتقييد خلاف الأصل.
فَصْلٌ في عصمة الأنبياء والملائكة
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى -: "غير المغضوب عليهم" يدلُّ على أن أحداً من الملائكة، والأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - ما أَقْدَمَ على عملٍ مخالف قول الدين، ولا على اعتقاد مخالف اعتقاد دين الله؛ لأنه لو صدر عنه ذلك لكان قد ضَلّ عن الحق، لقوله تعالى:
{ { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس: 32]، ولو كانوا ضالين لما جاز الاقتداء بهم، ولا بطريقهم، ولكانوا خارجين عن قوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }، ولما كان ذلك باطلاً علمنا بهذه الآية عِصْمةَ الملائكة، والأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
فَصْلٌ في إضافة الغضب لله
قالت المعتزلة: غَضَبُ الله - تعالى - عليهم يدلُّ على كونهم فاعلين للقبائح باختيارهم، وإلاَّ لكان الغضب عليهم ظلماً من الله - تعالى - عليهم.
وقال أصحابنا - رحمهم الله تعالى -: لما ذكر غضب الله عليهم، وأتبعه بذكر كونهم ضالين دلّ ذلك على أن غضب الله - تعالى - عليهم علّة لكونهم ضالين، وحينئذ تكون صفة الله - تعالى - مؤثرةً في صفة العبد.
أما لو قلنا: إن كونهم ضالين يوجب غضب الله - تعالى - عليهم لزم أن تكون صفة العبد مؤثرة في صفة الله تعالى، وذلك مُحَال.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى -: دلّت هذه الآية على أن المكلّفين ثلاث فرق:
أهل الطاعة، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }.
وأهل البغي والعدوان، وهم المراد بقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ }.
وأهل الجهل في دين الله، وإليهم الإشارة بقوله تعالى: { وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }.
فإن قيل: لم قدم ذكر العُصَاة على ذكر الكَفَرَةِ؟
قلنا: لأن كل أحد يحترز عن الكفر، أما قد لا يحترز عن الفِسْق، فكان أهم فقدم لهذا السّبب ذلك.
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى -: ها هنا سؤال، وهو أن غضب الله إنما تولَّد عن علمه بصدور القبيح والجناية عنه، فهذا العلم إما أن يقال: إنه قديم، أو محدث، فإن كان قديماً فلم خلقه، ولم أخرجه من العَدَمِ إلى الوجود، مع علمه بأنه لا يستفيد من دخوله في الوجود إلا العَذَاب الدَّائم، ولأنه من كان غضبان على الشَّيء كيف [يعقل] إقدامه على إيجَادِهِ وتكوينه؟ فإن كان ذلك العلم حادثاً لكان الباري - تعالى - محلاًّ للحوادث، إلاَّ أنه يلزم أن يفتقر إحداث ذلك العلم إلى سَبْقِ علمٍ آخر، وتسلسل، وهو مُحَال.
والجواب: يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد.
سؤال آخر
وهو أن من أنعم الله - تعالى - عليه امتنع أن يكون مغضوباً عليه، وأن يكون من الضَّالين، فلما ذكر قوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }، فما الفائدة في أن ذكر عقيبه: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِم وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }؟
والجواب: الإيمان إنما يكمل بالرَّجَاء والخوف، كما قال عليه الصلاة والسلام:
"لَوْ وُزِنَ خَوْفُ المُؤْمِن وَرَجَاؤُهُ لاعتْدَلا" ، فقوله: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } يوجب الرَّجَاء الكامل، وقوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } يوجب الخوف الكامل، وحينئذٍ يقوى الإيمان بركنيه وطرفيه، وينتهي إلى حَدِّ الكمال.
سؤال آخر
ما الحكمة في أنه - تَعَالَى - جعل المقبولين طائفةً واحدةً، وهم الذين أنعم الله عليهم، والمردودين فريقين: المغضوب عليهم، والضَّالين؟
فالجواب: أنّ الذين كملت نعم الله - تَعَالَى - عليهم هم الذين جمعوا بين معرفة الحَقّ لذاته، والخير لأجل العمل به، فهؤلاء هم المُرَادون بقوله: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ }، فإن اختلّ قيد العمل فهم الفَسَقَةُ، وهم المغضوب عليهم، كما قال تعالى:
{ { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ } [النساء: 93].
وإن اختلّ قيد العلم فهم الضَّالون لقوله تعالى:
{ { فَمَاذَا بَعْدَ ٱلْحَقِّ إِلاَّ ٱلضَّلاَلُ } [يونس: 32].
فصل في حروف لم ترد في هذه السورة
قالوا: إنّ هذه السورة لم يحصل فيها سبعة من الحروف، وهو الثاء، والجيم، والخاء، والزاي، والشين، والظاء، والفاء، والسبب فيه أن هذه الحروف مُشْعرة بالعذاب، فالثناء أوّل حروف الثبور.
والجيم أوّل حروف جهنم.
والخاء: أول حروف الخِزْي.
والزاي والشين أول حروف الزفير والشّهيق، والزّقوم والشّقاوة.
والظَّاء أول حرف ظلّ ذي ثلاث شعب، ويدل أيضاً على لَظَى الظاء.
والفاء أول حروف الفراق قال تعالى:
{ { يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [الروم: 14].
قلنا: فائدته أنه - تعالى - وصف جَهَنّم بأن
{ { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } [الحجر: 44] فلما أسقط هذه الحروف السّبعة الدّالة على العَذَاب من هذه السورة نبّه بذلك على أن من قرأ هذه السورة، وآمن بها، وعرف حقائقها أمن من دَرَكَاتِ جهنم السّبعة.
القول في "آمين": ليست من القرآن إجماعاً، ومعناها: اللَّهم اسمع واستجب.
وقال ابن عباس وقتادة - رضي الله تعالى عنهما -: معناه كذلك يكون، فهي اسم فعل مَبْنِيّ على الفَتْحِ.
وقيل: ليس باسم فعل، بل هو من أسماء البَارِي تعالى، والتقدير: يا آمين، وضعف أبو البقاء هذا بوجهين:
أحدهما: أنه لو كان كذلك لَكَانَ ينبغي أن يبني على الضَّمِّ، لأنه منادى مفرد معرفة.
والثاني: أن أسماء الله - تعالى - توقيفيةٌ.
ووجه الفارسي قول من جعله اسماً لله - تعالى - على معنى: أن فيه ضميراً يعود على الله تعالى؛ لأنه اسم فعل، وهو توجيه حسن نقله صاحب "المُغْرِب".
وفي "آمين" لغتان: المَدّ، والقَصْر، فمن الأول قول القائل: [البسيط]

93- آمِينَ آمِينَ لاَ أَرْضَى بِوَاحِدةٍ حَتَّى أُبَلِّغَهَا أَلْفَيْنِ آمِينَا

وقال الآخر: [البسيط]

94- يَا رَبِّ لاَ تَسْلُبَنِّي حُبَّهَا أَبَداً وَيَرْحَمُ اللهُ عَبْداً قَالَ: آمِينَا

ومن الثاني قوله: [الطويل]

95- تَبَاعَدَ عَنِّي فُطْحُلٌ إِذْ رَأَيْتُهُ أَمِينَ فَزَادَ اللهُ ما بَيْنَنَا بُعْدَا

وقيل: الممدود: اسم أَعْجَمِيّ، لأنه بِزِنَةِ قَابِيل وهَابِيل.
وهل يجوز تشديد الميم؟
المشهور أنه خطأ، نقله الجَوْهَرِيّ -رحمه الله تعالى -، ولكنه قد رُوي عن الحسن وجعفر الصّادق - رضي الله تعالى عنهما - التشديد، وهو قول الحسين بن الفَضْلِ، من أمَّ: إذا قصد، أي: نحن قاصدون نحوك.
ومنه:
{ { وَلاۤ آمِّينَ ٱلْبَيْتَ ٱلْحَرَامَ } [المائدة: 2].
وقيل: معناه: هو طابع الدعاء.
وقيل: هو خاتم الله على عباده يدفع به الآفات عنهم كخاتم الكتاب يمنعه من الفسادِ، وظهور ما فيه. وقال النَّووي -رحمه الله تعالى - في "التهذيب": وقال عطية العوفي: ["آمين"] كلمة عبرانية، أو سُرْيانية، وليست عربية.
وقال عَبْدُ الرَّحمن بن زيد: "آمِينَ" كَنْزٌ من كنوز العَرْشِ لا يعلم أحد تأويله إلاّ الله تعالى.
وروي فيها الإِمَالَة مع المَدّ عن حَمْزَةَ والكِسَائي، والنون فيها مفتوحة أبداً مثل: أَيْنَ وَكَيْفَ.
وقيل: آمين درجة في الجَنَّة تجب لقائلها.
وقيل: معناه: اللَّهم آمنا بخير.
وقال بعضهم: بنيت لأنها ليست عربية، وأنها سم فعل [كـ "صَهٍ"ومَهٍ" أَلاَ ترى أن معناها: "اللهم استجب، وأعطنا ما سألناك".
وقالوا: إن مجيء "آمِين" دليلٌ على أنها ليست عربيةً]؛ إذ ليس في كلام العرب "فَاعِيل".
فأما "آري" فليس بـ "فَاعِيل"، بل هو عند جماعة "فَاعُول".
وعند بعضهم "فَاعِلي".
وعند بعضهم ["فَاعِي"] بالنقصان.
وقال بعضهم: إن "أمين" المقصورة لم يجىء عن العرب، والبيت الذي ينشد مقصوراً لا يصح على هذا الوجه إنما هو: [الطويل]

96-.......................... فآمِينَ زَادَ اللهُ مَا بَيْنَنَا بُعْدَا

روي عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِذَا قَالَ الإمَامُ: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ }، فقولوا: آمِين، فإنّ المَلائِكَةَ تقول: آمين، فمن وافق تَأْمِينُهُ تأمينَ الملائكة غُفِرَ له ما تقدم من ذَنْبِهِ" .
فصل في وجوب القراءة في الصلاة
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى -: أجمع الأكثرون على أن القراءة واجبةٌ في الصلاة.
وعن الأَصَمّ والحسن بن صالح - رضي الله تعالى عنهما - أنهما قالا: لا تجب لنا [أن كلّ دليل نذكره في بيان أن] قراءة الفاتحة واجبة، فهو يدلّ على أن أصل القراءة واجب، ونزيد - ها هنا - وجوهاً:
الأول: فهو قوله تبارك وتعالى:
{ { أَقِمِ ٱلصَّلَٰوةَ لِدُلُوكِ ٱلشَّمْسِ إِلَىٰ غَسَقِ ٱلْلَّيْلِ وَقُرْءَانَ ٱلْفَجْرِ } [الإسراء: 78].
والمراد بالقرآن القراءة، والتقدير: أقم قراءة الفجر، وظاهر الأمر الوجوب.
الثاني: عن أبي الدَّرْدَاء - رضي الله تعالى عنه -
"أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: أفي الصَّلاَةِ قِراءةٌ فقال: نَعَمْ فقال السَّائل: وجبت، فأقر النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل على قوله: وَجَبَتْ" .
الثالث: عن ابن مَسْعُودٍ - رضي الله تعالى عنه - "أن النبي صلى الله عليه وسلم سُئِلَ: أيقرأ في الصلاة؟ فقال عليه الصلاة والسلام: أتَكُونُ صَلاَةٌ بِغَيْرِ قِرَاءَةٍ" ، هذان الخبران نقلهما من تعليق الشيخ أبي أحمد الإسفرايني.
وحجّة الأصم -رحمه الله تعالى - قوله عليه الصلاة والسلام:
"صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُوني أُصَلّي" جعل الصلاة من الأشياء المرئية، والقراءة ليست مرئية، فوجب كونها خارجةً عن الصلاة، والجواب: أنّ الرؤية إذا كانت متعديةً إلى مفعولين كانت بمعنى العلم.
فصْلٌ
قال الشافعي -رحمه الله تعالى -: قراءة الفاتحة واجبةٌ في الصلاة، فإن ترك منها حرفاً واحداً وهو يحسنها لم تصحّ صلاته، وبه قال الأكثرون.
وقال أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه -: لا تجب قراءة الفَاتِحَةِ.
لنا وجوه:
الأول: أنه - عليه الصّلاة والسلام - وَاظَبَ طول عمره على قراءة الفاتحة في الصَّلاة، فوجب علينا ذلك، لقوله تعالى:
{ { وَٱتَّبِعُوهُ } [الأعراف: 158]، ولقوله: { { فَلْيَحْذَرِ ٱلَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } [النور: 63]، ولقوله تعالى: { { فَٱتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ ٱللَّهُ } [آل عمران: 31].
ويا للعجب من أبي حنيفة - رضي الله تعالى عنه - أنه تمسّك في وجوب مسح النّاصية بخبر واحدٍ، في أنه - عليه الصلاة والسلام - مسح على النّاصية، فجعل ذلك القَدْرَ من المسح شرطاً لصحة الصلاة، وها هنا نقل أهل العلم نقلاً متواتراً أنه - عليه الصلاة والسلام - واظب على قراءة الفاتحة، ثم قال: إن صحّة الصَّلاة غير موقوفةٍ عليها، وهذا من العَجَائب.
الثاني: قوله تعالى:
{ { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [البقرة: 43]، والصلاة لفظ مُحَلّى بالألف واللام، فيكون المراد منها المعهود السَّابق، وليس عند المسلمين معهودٌ سابق من لفظ الصَّلاة إلى الأعمال التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي بها.
وإذا كان كذلك كان قوله تعالى:
{ { وَأَقِيمُواْ ٱلصَّلَٰوةَ } [البقرة:43] جارياً مجرى أمره بقراءة الفاتحة، وظاهر الأمر [الوجوب]، ثم إنّ هذه اللَّفظة تكررت في القرآن الكريم أكثر من مائة مرة، فكان ذلك دليلاً قاطعاً على وجوب قراءة الفَاتحَةِ في الصَّلاةِ.
الثالث: أنّ الخلفاء الراشدين - رضي الله تعالى عنهم - واظبوا على قراءتها طول عمرهم، ويدلُّ عليه ما روي في "الصّحيحين"
"أن النَّبي - عليه الصلاة والسلام - وأبا بكر وعمر - رضي الله تعالى عنهما - كانوا يستفتحون القراءة بـ { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ }، وإذا ثبت هذا وجَبَ علينا ذلك، لقوله عليه الصلاة والسلام: عَلَيْكُمْ بِسُنَّتِي وسُنَّةِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ من بَعْدِي" .
ولقوله عليه الصلاة والسلام: "اقْتَدُوا باللَّذينِ مِنْ بَعْدِي: أَبي بَكْرٍ وَعُمَرَ" رضي الله عنهما.
والعجب من أبي حنيفة -رحمه الله - أنه تمسَّك بطلاق الفَارّ بأثر عثمان - رضي الله عنه - مع أن عبد الرحمن، وعبد الله بن الزبير - رضي الله عنهما - كانا يخالفانه - ونص القرآن أيضا يوجب عدم الإرْث، فلم يتمسّك بعمل [كل] الصحابة - رضي الله عنهم - على سبيل الإطباق، والاتفاق على وجوب قراءة الفاتحة، مع أن هذا القول على وَفْقِ القرآن، والإخبار، والمعقول!
الرابع: أن الأمّة [وإن] اختلفت في أنه هل تجب قراءة الفاتحة أم لا؟ لكنهم اتفقوا عليه في العَمَلِ فإنك لا ترى أحداً من المسلمين في العرف إلا ويقرأ الفاتحة في الصَّلاة، وإذا ثَبَتَ هذا فنقول: إنَّ من صَلَّى ولم يقرأ الفاتحة كان تاركاً سبيل المؤمنين، فيدخل تحت قوله تعالى:
{ { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ ٱلْمُؤْمِنِينَ } [النساء: 115] فإن قالوا: إنَّ الذين اعتقدوا أنَّهُ لا يَجِب قراءتها قَرَءُوهَا لا عن اعتقاد الوجوب، بل على اعتقاد النّدبية، فلم يحصل الإجماع على وجوب قرَاءتها.
فنقول: أعمال الجوارح غير أعمال القلوب، ونحن قد بَيَّنَّا إطباق الكُلّ على الإتيان بالقراءة، فمن لم يَأْتِ بالقراءة كان تاركاً طريقة المؤمنين في هذا العَمَلِ فدخل تَحْتَ الوَعِيدِ، وهذا القدر يكفينا في الدَّلِيلِ، ولا حاجة في تقرير هذا الدَّليل إلى ادِّعَاء الإجماع في اعتقاد الوجوب.
الخامس: قوله عَزَّ وجَلَّ:
"قسمتُ الصَّلاَةَ بَيْنِي وبَيْنَ عَبْدِي نِصْفَيْن، فإذا قَالَ العَبْدُ: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } يقول الله تَعَالى: حَمِدَنِي عَبْدِي..." ، إلى آخر الحديث.
وجه الاستدلال: أنه - تَعَالَى - حكم على كلّ صلاة بكونها بينه وبين العبد نصفين، ثم بين أنّ هذا التصنيف لم يحصل إلاّ بسبب هذه السورة، ولازم اللازم لازم، فوجب كون هذه السورة من لوازم الصلاة، وهذا اللزوم لا يحصل إلا إذا قلنا: قراءة الفاتحة شرط في صِحّة الصلاة.
السَّادس: قوله عليه الصلاة والسلام:
"لا صَلاَةَ إلاَّ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ" .
قالوا: حرف النفي دخل على الصَّلاة، ودخل على غير مُمْكِنٍ، فلا بُدّ من صرفه إلى حكم من أحكام الصَّلاة، وليس صرفه إلى الصِّحة أولى من صرفه إلى الكمال.
والجواب من وجوه:
الأول: أنه جاء في بعض الرِّوَايات:
"لا صَلاَةَ لِمَنْ لَمْ يَقْرَأ بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ" ، وعلى هذه الرواية فالنَّفي ما دخل على الصَّلاة، وإنما دخل على حصولها للرَّجل، وحصولها للرجل عبارة عن انتفاعه بها، وخروجه عن عُهْدَةِ التَّكْليف بسببها، وعلى هذا التَّقدير فإنه يمكن إجراء حرف النَّفي على ظاهره.
الثاني: من اعتقدوا أن قراءة الفاتحة جزء من أجزاء ماهية الصلاة، فعند عدم القراءة لا توجد ماهية الصلاة؛ لأنّ الماهية تمنع حصولها حال عدم بعض أجزائها، وإذا ثبت هذا فقولهم: إنه لا يمكن إدخال حرف النَّفي على مُسَمَّى الصلاة إنما يصح لو ثبت أن الفَاتحَةَ ليست جزءاً من الصّلاة، وهذا [هو] أول المسألة، فثبت أن قولنا: يمكن إجراء هذه اللفظة على أنه متى تعذّر العمل بالحقيقة، وحصل للحقيقة مجازان أحدهما: أقرب إلى الحقيقة، والثاني: أبعد؛ فإنه يجب حمل اللَّفظ على المَجَاز الأقرب.
إذا ثبت هذا فنقول: المُشَابهة بين المعدوم، وبين الموجود الذي يكون صحيحاً [أتم من المُشابَهة بين المعدوم وبين الموجود الذي لا يكون صحيحاً]، لكنه لا يكون كاملاً، فكان حمل هذا اللَّفظ على نفي الصِّحة أولى.
الحُجَّة السَّابعة: عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
"كُلّ صَلاَةٍ لم يقرأ فيها بِأُمِّ القُرْآنِ فهي خِدَاج، فهي خداج" أي غير تمام، قالوا: الخِدَاجُ هو النقصان، وذلك لا يدل على عدم الجواز.
قلنا: بل هذا يدلّ على عدم الجواز؛ لأن التكليف بالصَّلاة دائم، والأصل في الثابت، البقاء، خالفنا هذا الأصل عند الإتيان بالصَّلاة على صفة الكَمَالِ، فعند الإتيان بها على سبيل النُّقصان يوجب ألاّ يخرج عن العُهْدَةِ، والذي يقوي هذا أنَّ عند أبي حنيفة - رضي الله عنه - يصح الصوم في يوم العيد إلا أنه قال: لو صام يوم العِيدِ قضاء عن رَمَضَان لم يصح؛ لأن الواجب عليه هو الصَّوم الكامل، والصوم في هذا اليوم ناقص، فوجب ألا يفيد هذا القضاء الخروج عن العُهْدَةِ.
وإذا ثبت هذا فنقول: فلم لم يقل بمثل هذا الكلام ها هنا؟
الحُجّة الثامنة: نقل الشيخ أبو حامد في "تعليقه" عن ابن المُنْذِرِ أنه روى بإسناده عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
"لا تُجْزِىء صَلاَةٌ لا يُقْرأ فيها بِفَاتِحَةِ الكِتَابِ" .
الحُجّة التاسعة: روى رفاعة بن مالك - رضي الله عنه - أن رَجُلاً دخل المَسْجِد فصلّى، فلما فرغ من صلاته، ذكر في الخبر أن الرجل قال: علّمني الصَّلاة يا رسول الله، فقال عليه الصلاة والسلام: "إذا تَوَجَّهْتُم إلى القِبْلَةِ فَكَبِّرُوا، واقْرَءُوا بفاتحة الكِتَابِ" ، وهذا أمر، والأمر للوجوب.
الحُجّة العاشرة:
"روي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ألا أخبركم بِسُورَةٍ ليس في التَّوْرَاة ولا في الإِنْجِيل ولا في الزَّبُور مثلها، قالوا: نعم، قال: فما تقرءونه في صَلاَتكم؟ فقالوا: الحمد لله ربّ العالمين، قال: هِيَ هِيَ" .
وجه الدليل: "أنه - عليه الصلاة والسلام - لما قال: ما تَقْرَءُونَهُ في صلاتكم؟ قالوا: الحمد لله رب العالمين" ، وهذا يدل على أنه كان مشهوراً عند الصحابة - رضي الله عنهم - أنه لا يصلي أحد إلاّ بهذه السورة، فكان هذا إجماعاً معلوماً عندهم.
الحُجّة الحادية عشرة: التمسُّك بقوله تعالى:
{ { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل: 20] فهذا أمر، والأمر للوجوب، فهذا يقتضي أن قراءة ما تَيَسَّرَ من القرآن واجبةٌ.
فنقول: المراد بما تيسّر من القرآن، إما أن يكون هو الفاتحة بعينها واجبة، وهو المطلوب وإمّا يقتضي أن قراءة غير الفاتحة واجبة، وذلك باطل بالإجماع، أو يقتضي التخيير بين قراءة الفاتحة، وبين قراءة غيرها وذلك باطل بالإجماع، لأن الأمّة مجمعةٌ على أن قراءة الفاتحة أولى من قراءة غيرها.
وسلم أبو حنيفة أن الصلاة بدون قراءة الفاتحة خِدَاجٌ ناقصة، والتخيير بين النقائص والكامل لا يجوز.
واعلم أنه إنما سمى قراءة الفاتحة لما تيسّر من القرآن؛ لأن هذه السّورة محفوظة لجميع المكلّفين من المسلمين، فهي متيسّرة للكل، أما سائر السُّور فقد تكون محفوظة، وقد لا تكون، وحينئذٍ لا تكون متيسّرة للكلّ.
الحُجّة الثَّانية عشرة: الأصل بقاءُ التكليف، فالقولُ بأنَّ الصَّلاةَ بدون قراءة الفاتحة يقتضي الخروج عن العهدة، إما أنْ يعرف بالنَّص أو بالقياس.
أما الأول فباطل.
[لأن النص الذي تمسكوا به قوله تعالى:
{ فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل:20] وقد بينا أنه دليلنا.
وأما القياس] فباطل؛ لأن التعبدّات غالبة على الصَّلاة، وفي مثل هذه الصورة يجب ترك القياس.
الحُجّة الثالثة عشرة: أن النبي - عليه الصلاة والسلام - وَاظَبَ على الصَّلاة بها طول عمره، فيكون قراءة غير الفاتحة ابتداعاً وتركاً للاتباع، وذلك حرام لقوله صلى الله عليه وسلم:
"اتَّبِعُوا وَلاَ تَبْتَدِعُوا" ، و "أَحْسَن الهَدْي هَدْيُ مُحَمّدٍ، وَشَرّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا" .
واحتج أبو حنيفة - رضي الله تعالى عنه - بالقرآن والخبر.
أما القرآن الكريم فقوله تبارك وتعالى:
{ { فَٱقْرَءُواْ مَا تَيَسَّرَ مِنَ ٱلْقُرْآنِ } [المزمل:20].
وأما الخبر فما روى أبو عثمان النهدي عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنهما - قال "أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أخرج وأنادي: لا صَلاَةَ إلا بِقَرَاءَةٍ، ولو بفاتحة الكِتَاب".
والجواب عن الأول: أنا بَيّنا أنّ هذه الآية من أقوى الدلائل على قولنا.
وعن الثاني: أنه معارض بما نقل عن أبي هريرة، وأيضاً لا يجوز أن يقال: المراد من قوله:
"لا صَلاَةَ إلا بقراءة، ولو بفاتحة الكتاب" وهو أنه لو اقتصر على الفاتحة لكفى.
فصل في بيان هل التسمية آية من الفاتحة أم لا؟
قال الشافعي - رضي الله عنه -: التّسمية آية من الفاتحة، ويجب قراءتها مع الفاتحة، وقال مالك والأوزاعي، - رضي الله تعالى عنهما -: إنها ليست من القرآن إلاّ في سورة النَّمل، ولا يجب قراءتها سرّا ولا جهراً، إلاّ في قيام شهر رمضان، فإنه يقرؤها.
وأما أبو حنيفة -رحمه الله - فلم ينص عليها، وإنما قال: يقول: بسم الله الرحمن الرحيم ويُسِرّ بها، ولم يقل: إنها آية من أول السورة أم لا.
قال: سُئل محمد بن الحسن -رحمه الله - عن "بسم الله الرحمن الرحيم" فقال: ما بين الدّفَّتَيْنِ كلام الله - عز وجل - القرآن.
قلت: فَلِمَ يُسَرّ بها؟ فلم يجبني.
وقال الكَرْخي -رحمه الله تعالى -: لا أعرف هذه المسألة بعينها لمتقدّمي أصحابنا، إلا أن أمرهم بإخفائها يدل على أنها ليست من السورة.
وقال بعض الحنفية - رحمهم الله -: تورّع أبو حنيفة وأصحابه - رحمهم الله - عن الوقوع في هذه المسألة؛ لأن الخوض في أن التسمية من القرآن، أو ليست من القرآن أمر عظيم، فالأولى السّكوت عنه.
حُجّة من قال: إن التسمية من الفاتحة:
روى الشافعي عن مسلم عن ابن جريج عن ابن أبي مُلَيْكة عن أم سلمة - رضي الله عنها - أنها قالت:
"قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فاتحة الكتاب، فعد بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيم آية منها والحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ آية، الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ آية، مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ آية، إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ آية، اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ آية، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلا الضَّالِّينَ آية" ، وهذا نَصّ صريح.
وروى الثعلبي في تفسيره بإسناده عن أبي بريدة عن أبيه قال:
"قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ألا أُخْبِرُكَ بآية لم تنزل على أَحَدٍ بعد سُلَيْمَانَ بن داود - عليهما السلام - غيري؟ فقلت: بلى قال:
بأي شيء يُفْتَتَحُ القرآن إذا افتتحت الصَّلاَة؟ قلت: ببسم الله الرحمن الرحيم قال: هِيَ هِي"
. وهذا يدل على أنَّ التسمية من القرآن.
وروى الثَّعْلبي بإسناده عن جعفر بن مُحَمَّدٍ عن أبيه عن جابر بن عبد الله - رضي الله عنهما -
"أنّ النبي - عليه الصّلاة والسلام - قال له: كيف تَقُول إذا قُمْتَ إلى الصَّلاة؟ قال: أقول: الحمد لله رب العالمين، قال: قل: بسم الله الرحمن الرحيم" .
وروى أيضاً بإسناده عن سعيد بن جُبَيْرٍ عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله تبارك وتعالى: { { آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي وَٱلْقُرْآنَ ٱلْعَظِيمَ } [الحجر: 87] قال: فاتحة الكتاب، فقيل للنابغة، أين السَّابعة؟ فقال: { بسم الله الرحمن الرحيم }.
وبإسناده عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال:
"كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد، والنبي يحدث أصحابه، إذ دخل رجل يصلّي، فافتتح الصَّلاة وتعوّذ، ثم قال: الحمد لله رب العالمين، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا رجل، قَطَعْتَ عَلى نَفْسِكَ الصَّلاة، أما علمت أن بسم الله الرَّحمن الرحيم من الحَمْد؟ من تركها فقد تركها فقد تَرَكَ آيةً منها، ومن ترك أيةً منها فقد قطع عليه صلاته، فإنه لا صَلاَةَ إلا بِهَا" .
وروى بإسنادة عن طَلْحَةَ بن عبيد الله - رضي الله تعالى عنهما - قال: قال رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "مَنْ تَرَكَ بسم الله الرَّحْمَن الرَّحيم، فقد تَرَكَ آية من كِتاب الله تَعَالَى" .
وروي أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال لأبيّ بن كَعب - رضي الله عنهما -: " مَا أعظم آيَةٍ في كِتَابِ الله تَعَالى؟ فقال: بسم الله الرحمن الرحيم، فصدقة النبي صلى الله عليه وسلم" .
ومعلوم أنها ليست آيةً تامّة في النمل، فتعيّن أن تكون آية تامةً في أوّل الفاتحة.
وروي أن معاوية - رضي الله عنه - لما قدم "المدينة" فصلّى بالناس صَلاَةً يجهر فيها، فقرأ أمّ القرآن، ولم يقرأ "بسم الله الرحمن الرحيم"، فلما قضى صلاته نَادَاهُ المُهَاجرون والأنصار من كل ناحية أنسيت؟ أين بسم الله الرحمن الرحيم حين اسْتَفْتَحْتَ القرآن؟
فأعاد معاوية الصَّلاة؟ وقرأ بسم الله الرحمن الرحيم.
وهذا يدلّ على إجماع الصَّحَابة على أنها من القُرْآن ومن الفاتحة، وعلى أن الأولى الجَهْرُ بقراءتها.
فصل في بيان عدد آيات الفاتحة
حكي عن الزَّمخشري: الاتفاق على كَوْن الفاتحة سَبْعَ آيات.
وحكى ابن عطية قولين آخرين:
أحدهما: هي ستّ آيات، فأسقط البَسْمَلَة، وأسقط "أنعمت عليهم".
والثاني: أنها ثماني آيات فأثبتهما.
قال ابن الخطيب -رحمه الله تعالى -: رأيت في بعض الروايات الشَّاذة أن الحسن البَصْري - رضي الله تعالى عنه - كان يقول: إنّ هذه السورة ثماني آيات، فأما الرواية المشهورة التي عليها الأكثرون أنها سبع آيات، وبه فسّروا قوله تعالى:
{ { وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ ٱلْمَثَانِي } [الحجر: 87].
إذا ثبت هذا، فنقول: إنَّ الذين قالوا: إن البَسْمَلَة آية من الفاتحة قالوا: قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } [الفاتحة: 7] إلى آخرها آية تامة منها.
وأما أبو حنيفة - رضي الله عنه - فإنه لما أسقط البَسْمَلَة قال: قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } آية، وقوله: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ ٱلضَّآلِّينَ } آية أخرى.
ودليل الشَّافعي - رضي الله تعالى عنه - أن مقطع قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } لا يشابه مقطع الآيات المتقدمّة، ورعاية التَّشابه في المَقَاطع لازم، لأنَّا وجدنا مقاطع القرآن على ضربين: مُتَقَاربة، ومُتَشَاكلة. فالمتقاربة كَسُورَةِ "ق".
والمُتشَاكلَة في سورة "القمر"، وقوله تعالى: { أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } ليس من القسمين، فامتنع جعله من المَقَاطع.
وأيضاً إذا جعلنا قوله تعالى: { غَيْرِ ٱلْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ } ابتداء آية، فقد جعلنا أول الآية لفظ "غير"، وهذا اللفظ إمّا أن يكون صفةً لما قبله، أو استثناء مما قبله، والصّفة مع الموصوف كالشَّيءِ الواحد، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كالشيء الواحد، وإيقاع الفَصْل [بينهما] على خلاف الدليل، أما إذا جعلنا قوله تعالى: { صِرَاطَ ٱلَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } إلى آخر السورة آية واحدة [كُنّا قَدْ جعلنا الموصوف مع الصّفة، وكذلك المستثنى مع المستثنى منه كلاماً واحداً، وآية واحدة]، وذلك أقرب إلى الدّليل.
فَصْلٌ هل البَسْمَلَةُ آية من أوائل السور أم لا؟
وللشافعي قولان:
قال ابن الخطيب: "والمُحَقّقون من أصحابنا اتفقوا على أن بسم الله قرآن من سائر السّور، وجعلوا القولين في أنها هل هي آية تامة وحدها من كل سورة، أو هي مع ما بعدها آية".
وقال بعض الحنفية: إنّ الشّافعي خالف الإجماع في هذه المسألة؛ لأن أحداً ممن قبله لم يقل: إن بسم الله آية من أوائل سائر السُّور.
ودليلنا أن بسم الله مكتوب في أوائل السور بخطّ القرآن، فوجب كونه قرآناً، واحتج المخالف بما روى أبو هريرة - رضي الله تعالى عنه - أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم- قال في سورة "الملك" إنها ثلاثون آية، وفي سورة "الكوثر" إنها ثلاث آيات، ثم أجمعوا على أنَّ هذا العدد حاصل بدون التسمية، فوجب ألاّ تكون التسمية آية من هذه السّور.
والجَوَاب أنا إذا قلنا: بسم الله الرحمن الرحيم مع ما بعدها آية واحدة، فالإشْكَال زائل.
فإن قالوا: لما اعترفتم بأنها آية تامةٌ من أول الفاتحة، فكيف يمكنكم أن تقولوا: إنها بعض آية من سائر السور؟
قلنا: هذا غير بعيدٍ، ألا ترى أن قوله تعالى: { ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } آية تامة؟ ثم صار مجموع قوله تعالى:
{ { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ ٱلْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلْعَالَمِينَ } [يونس: 10] آية واحدة، فكذا ها هنا.
وأيضاً فقوله: سورة "الكوثر" ثلاث آيات يعني ما هو خاصية هذه السورة ثلاث آيات، وأما التسمية فهي كالشّيء المشترك فيه بين جميع السُّور، فسقط هذا السُّؤال، والله أعلم.
فصل في الجهر بالتسمية والإسرار بها
يروى عن أحمد بن حَنْبَل - رضي الله عنه - أن التسمية آية من الفاتحة إلاّ أنه يُسرّ بها في كل ركعة.
وأما الشافعي - رضي الله تعالى عنه - فإنه قال: ليست آية من الفاتحة ويجهر بها.
وقال أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه: ليست آية من الفاتحة، ولا يجهر بها.
والاستقراء دلّ على أن السورة الواحدة، إما أن تكون بتمامها سريةً أو جهريةً، وإما أن يكون بعضها سرياً، وبعضها جهرياً، فهذا مفقودٌ في جميع السور، وإذا ثبت هذا كان الجَهْرُ بالتسمية شروعاً في القراءة الجهرية.
وقالت الشِّيعة: السُّنة هي الجَهْر بالتسمية، سواء كانت الصلاة [جهرية أو سرية].
والذين قالوا: إن التسمية ليست من أوائل السور اختلفوا في سبب إثباتها في المُصْحَف في أول كل سورة، وفيه قولان:
الأول: أن التسمية ليست من القرآن، وهؤلاء فريقان:
منهم من قال: كُتِبَتْ لِلْفَصْلِ بين السُّور، وهذا الفصل قد صار الآن معلوماً، فلا حاجة إلى إثبات التسمية، فعلى هذا لو لم تكتب لَجَازَ.
ومنهم من قال: إنه يجب إثباتها في المُصْحف، ولا يجوز تركها أبداً.
والقول الثاني: أنها من لقرآن، وقد أنزلها الله تعالى، ولكنها آية مستقلة بنفسها، وليست بآية من السورة، وهؤلاء أيضاً فريقان:
منهم من قال: إن الله - تعالى - كان ينزلها في أول كل سورة على حِدَةٍ.
ومنهم من قال: لا، أنزلها مرة واحدة، وأمَرَ بإثباتها في [أول] كل سورة.
والذي يدلّ على أن الله - تعالى - أنزلها، وعلى أنها من القرآن ما روي عن أم سلمة - رضي الله تعالى عنها - أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يعد "بسم الله الرحمن الرحيم" آية فاصلةً.
وعن إبراهيم بن يزيد قال: قلت لعمرو بن دينار: إنّ الفضل الرقاشي يزعم أن "بسم الله الرحمن الرحيم" ليست من القرآن، فقال: سبحان الله ما أَجْرَأَ هذا الرجل! سمعت سعيد بن جُبَيْرٍ يقول: سمعت ابن عباس - رضي الله عنهما - يقول: كان النبي - عليه الصلاة والسلام - إذا أنزل عليه "بسم الله الرحمن الرحيم" على أن تلك السُّورة ختِمَتْ وفُتِحَ غيرها.
وعن عبد الله بن المُبارك أنه قال: من ترك "بسم الله الرحمن الرحيم" فقد ترك مائةً وثلاث عشرة آيةً.
فَصْلٌ
قال ابن الخطيب -رحمه الله -: نقل في بعض الكتب القديمة أن ابن مسعود - رضي الله عنه - كان ينكر كَوْنَ سورة الفاتحة من القرآن الكريم، وكان ينكر كون المُعَوّذتين من القرآن.
واعلم أن هذا في غاية الصعوبة؛ لأنا إن قلنا: إن النقل المتواتر كان حاصلاً في عصر الصحابة بِكَوْنِ سورة الفاتحة من القرآن، فحينئذٍ كان ابن مسعود - رضي الله عنه - عالماً بذلك فإنكاره يوجب الكُفْر أو نقصان العقل.
وإن قلنا: النقل المتواتر ما كان حاصلاً في ذلك الزمان فهذا يقتضي أن يقال: إن نقل القرآن ليس بمتواترٍ في الأصل، وذلك يخرج القرآن عن كونه حُجَّةً يقينية.
والأغلب على الظن أن يقال: هذا المذهب عن ابن مسعود نَقْلٌ كاذِبٌ باطل، وبه يحصل الخلاص عن هذه العُقْدَةِ، والله الهادي إلى الصواب، إليه يرجع الأمر كله في الأول والمآب.