التفاسير

< >
عرض

وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ
٩٣
فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلْمُمْتَرِينَ
٩٤
وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ ٱلْخَاسِرِينَ
٩٥
إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ
٩٦
وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ
٩٧
فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَىٰ حِينٍ
٩٨
وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ
٩٩
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ ٱللَّهِ وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ
١٠٠
-يونس

اللباب في علوم الكتاب

قال تعالى: { وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِيۤ إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ } الآية.
لمَّا ذكر خاتمة فرعون ذكر خاتمة بني إسرائيل، فقال: "ولقدْ بوَّأنا" أي: أسكنا بني إسرائيل "مُبَوَّأ صِدْقٍ" أي: مكاناً محموداً.
ويجُوزُ أن يكون "مُبَوَّأ صِدْقٍ" منصوباً على المصدر، أي: بَوَّأناهم مُبَوَّأ صدقٍ، وأن يكون مكاناً أي: مكان تبوُّء صدقٍ.
ويجوز أن ينتصب "مُبَوَّأ" على أنَّه مفعولٌ ثانٍ كقوله تعالى:
{ { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ ٱلْجَنَّةِ غُرَفَاً } [العنكبوت:58] أي: لنُنْزلنَّهُمْ. ووصف المُبَوَّأ بكونه صدقاً؛ لأنَّ عادة العربِ أنها إذا مدحتْ شيئاً أضافته إلى الصِّدْقِ، تقولُ: رَجُلٌ صدقٌ، وقدم صدقٍ، قال تعالى: { { رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } [الإسراء:80].
والمراد بالمبوَّأ الصدق: قيل: "مصر"، وقيل: الأردن وفلسطين وهي الأرض المقدسة { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ ٱلطَّيِّبَاتِ } الحلال "فَمَا اخْتَلَفُوا" يعنى اليهود الذين كانُوا في عَهْدِ النبي صلى الله عليه وسلم في تصديقه وأنه نبيٌّ حقٌّ "حتَّى جاءَهمُ العِلْمُ" يعنى القرآن، والبيان بأنه رسول الله صدق ودينه حق، وسمى القرآن علماً؛ لأنه سببُ العِلْمِ، وتسمية المُسَبَّبِ باسم السبب مجاز مشهور.
قال ابنُ عباس: هم قريظة والنَّضير وبنو قينقاع أنزلناهم منزل صدق: ما بين المدينة، والشام ورزقناهم من الطيبات، وهو ما في تلك البلادِ من الرطب، والتمر الذي لا يوجد مثله في البلاد وقيل: المراد بني إسرائيل الذين نجوا من فرعون أورثهم الله جميع ما كان تحت أيدي قوم فرعون من الناطق، والصامت، والحرث، والنسل، كما قال:
{ وَأَوْرَثْنَا ٱلْقَوْمَ ٱلَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ ٱلأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا } [الأعراف:137].
فصل
في كون القرآن سبباً لحدوث الاختلاف وجهان:
الأول: أنَّ اليهود كانوا يخبرون بمبعث محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ويفتخرون به على سائر النَّاس، فلمَّا بعثه الله تعالى كذَّبوهُ حسداً، وبغياً وإيثاراً لبقاء الرِّياسة، وآمن به طائفةٌ منهم، فبهذا الطريق كان سبباً لحدوث الاختلاف فيهم.
الثاني: أنَّ هذه الطائفة من بني إسرائيل كانوا قبل نزول القرآن كفاراً محضاً بالكلِّيَّة، وبقوا على هذه الحالة حتَّى جاءهم القرآنُ، فعند ذلك اختلفوا فآمن قومٌ وبقي قومٌ كفاراً. ثم قال: { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي: أنَّ هذا الاختلاف لا يمكن إزالته في دار الدنيا، وإنَّما يقضى بينهم في الآخرة، فيتميز المحق من المبطل.
قوله: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ } الآية.
قال الواحديُّ "الشَّك في اللغةِ، ضمَّ بعض الشَّيءِ إلى بعضٍ، يقال: شَكَكْتُ الصَّيْدَ إذا رميْتَه فنظمْتَ يدهُ إلى أو رجلهُ إلى رجله، والشِّكائِكُ من الهوادج ما شُكَّ بعضها ببعضٍ والشِّكاكُ: البُيوتُ المُصطفَّة، والشَّكائِكُ: الأدْعياءُ؛ لأنَّهم يشكون أنفسهم إلى قوم ليسوا منهم، أي: يضُمُّون، وشكَّ الرَّجُلُ في السِّلاحِ، إذا دخل فيه وضمَّهُ إلى نفسه. فإذا قالوا: شكَّ فلانٌ في الأمور أرادوا أنَّه وقف نفسه بين شيئين، فيجوزُ هذا ويجوزُ هذا فهو يضم إلى ما يتوهمه شيئاً آخر خلافه".
ولمَّا ذكر اختلافهم عندما جاءهم العلم ذكر في هذه الآية ما يُقَوِّي قلبه في صحَّة القرآن والنبوة.
وفي "إن" هذه وجهان:
أظهرهما: أنَّها شرطيةٌ، واستشكلوا على ذلك أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكُن في شكٍّ قط قال الزمخشريُّ: "فإن قلت: كيف قال لرسوله: "فإن كُنت في شكٍّ" مع قوله للكفرة:
{ { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } [هود:110]؟ قلت: فرقٌ عظيم بين إثباته والتَّمثيل". وقال أبو حيان: فإذا كانت شرطية فقالوا: إنَّها تدخلُ على الممكن وجوده أو المحقَّقِ وجوده، المبهم زمن وقوعه، كقوله تعالى: { { أَفَإِنْ مِّتَّ فَهُمُ ٱلْخَالِدُونَ } [الأنبياء:34] قال: "والذي أقوله إنَّ "إن" الشرطية تقتضي تعليق شيءٍ على شيءٍ، ولا تستلزمُ تحقُّقَ وقوعه ولا إمكانه، بل قد يكونُ ذلك في المستحيل عقلاً كقوله تعالى { { إِن كَانَ لِلرَّحْمَـٰنِ وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ ٱلْعَابِدِينَ } [الزخرف:81]، ومستحيلٌ أن يكون له ولدٌ فكذلك مستحيلٌ أن يكون في شك، وفي المستحيل عادة كقوله تعالى: { فَإِنِ ٱسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي ٱلأَرْضِ } [الأنعام:35] لكنَّ وقوعها في تعليق المستحيل قليلٌ".
ثم قال: "ولمَّا خفي هذا الوجه على أكثر النَّاس؛ اختلفوا في تخريج هذه الآية فقال ابن عطيَّة: الصَّواب أنَّها مخاطبةٌ له، والمرادُ من سواه من أمته ممن يمكنُ أن يشُكَّ أو يعارض؛ كقوله:
{ { يۤا أَيُّهَا ٱلنَّبِيُّ ٱتَّقِ ٱللَّهَ وَلاَ تُطِعِ ٱلْكَافِرِينَ وَٱلْمُنَافِقِينَ } [الأحزاب:1] وقوله: { { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [الزمر:65] ويدلُّ على ذلك قوله في آخر السورة: { { يٰأَيُّهَا ٱلنَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي } [يونس:104] وأيضاً لو كان شاكّاً في نبوة نفسه؛ لكان شك غيره في نبوته أولى، وهذا يوجب سقوطُ الشريعة بالكلية، وأيضاً فبتقدير أن يكون شاكّاً في نبوَّةِ نفسه، فكيف يزول هذا الشك بإخبار أهل الكتاب عن نبوته مع أنهم كفار، وإن كان قَدْ حصل فيهم مؤمن إلاَّ أن قوله ليس بحجة، لا سيَّما وقد تقرَّر أنهم حرَّفُوا التوراة، والإنجيل؛ فثبت أنَّ هذا الخطابَ وإن كان في الظَّاهر مع الرسول إلاَّ أنَّ المراد هو الأمة، وعلى هذا فإنَّ الناس في زمانه كانوا فرقاً ثلاثة:
المصدقون، والمكذبون، والمتوقفون في أمره الشَّاكون فيه، فخاطبهم الله تعالى بهذا الخطاب فقال: أيُّها الإنسان: { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ } من الهدى على لسان محمد فاسأل أهل الكتاب ليدلوك على صحَّة نُبوَّته".
ولمَّا ذكر الله تعالى لهم ما يزيل الشَّك عنهم، حذَّرهم من أن يلحقوا بالقسم الثاني، وهم المكذِّبون، فقال: { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } [يونس:95] الآية.
وقيل: كنى بالشَّك عن الضِّيق. وقيل: كنى به عن العجب، ووجه المجازِ فيه أنَّ كُلاًّ منهما فيه تردُّد، وقال الكسائيُّ: إن كنت في شكٍّ أنَّ هذه عادتُهُم مع الأنبياء؛ فسلهم كيف صبر موسى - عليه السلام -؟.
وقيل: إنه تعالى علم أنَّ الرسول لم يشك في ذلك، إلاَّ أنَّ المقصود منه أنَّهُ متى سمع هذا الكلام فإنَّهُ يصرخ ويقول "يا ربّ لا أشك، ولا أطلب الحجة من قول أهل الكتاب، بل يكفيني ما أنزلته عليَّ من الدلائل الظاهرة" ونظيره قوله تعالى للملائكة:
{ { أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [سبأ:40] والمقصودُ أن يُصرِّحُوا بالجواب الحق ويقولوا: { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ ٱلْجِنَّ } [سبأ:41].
وكقوله لعيسى - عليه الصلاة والسلام -
{ { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ ٱتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـٰهَيْنِ مِن دُونِ ٱللَّهِ } [المائدة:116] والمقصود منه أن يصرح عيسى بالبراءة عن ذلك. وقيل: التقدير إنَّك لسيت بشاك البتة. ولو كنت شاكاً لكان لك طرق كثيرة في إزالة الشَّك كقوله تعالى { { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ ٱللَّهُ لَفَسَدَتَا } [الأنبياء:22] أي: أنه لو فرض ذلك الممتنع واقعاً؛ لزم فيه المحال الفلاني، فكذا ههنا، ولو فرضنا وقوع الشَّك فارجع إلى التَّوراةِ، والإنجيل لتعرف بهما أنَّ هذا الشك زائل.
والوجه الثاني من وجهي إنْ أنَّها نافيةٌ. قال الزمخشري: "أي: فما كنتَ في شكٍّ فاسأل، يعنى لا نأمرك بالسُّؤال لكونكَ شاكاً، ولكن لتزداد يَقِيناً كما ازداد إبراهيم - عليه الصلاة والسلام - بمعاينة إحياء الموتى" وهذا القول سبقه إليه الحسنُ البصريُّ والحسينُ بنُ الفضل، وكأنَّهُ فرارٌ من الإشكال المتقدِّم في جعلها شرطية، وقد تقدَّم جوابه من وجوهٍ.
قال القرطبي: قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزَّاهد: سمعت الإمامين: ثَعْلباً والمبرد يقولان: معنى: "فإن كُنتَ في شكٍّ" أي: قُلْ يا محمَّدُ للكافر: فإن كُنتَ في شكٍّ { فَاسْأَلِ ٱلَّذِينَ يَقْرَءُونَ ٱلْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ }.
وقال الفراء: أعْلمَ اللهُ أنَّ رسولهُ غير شاكٍّ، لكنَّه ذكره على عادة العرب، يقول الواحدُ لعبده: إن كنت عبدي فأطِعْني، ويقول لولده افعل كذا إن كنت ولدي، ولا يكونُ ذلك شكّاً.
وقال الفقيه: وقال بعضهم: هذا الخطاب لمنْ كان لا يقطعُ بتكذيب محمدٍ - عليه الصلاة والسلام - ولا بتصديقه بل كان في شكٍّ.
وقيل: المراد بالخطاب النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى: لو كنت ممَّن يلحقك شكٌّ فيما أخبرناك به، فسألت أهل الكتاب لأزالوا عنك الشَّكَّ.
والمراد بالشَّك هنا: ضيق الصدر، أي: إن ضاق صدرك بكفر هؤلاء فاصبر واسأل الذين يقرَؤونَ الكتابَ من قَبْلكَ، يُخْبِرُوكَ صَبْرَ الأنبياء من قبلك على أذى قومهم وكيف كان عاقبة أمرهم. والشَّكُّ في اللغةِ: أصله الضِّيق، يقال: شكَّ الثَّوب، أي: ضمَّهُ بخلال حتى يصير كالوعاء، فالشكُّ يقبض الصدر، ويضمه حتَّى يضيق.
فصل
قال المُحَقِّقُون: المراد بالذين يقرءون الكتاب: المؤمنون من أهْلِ الكتابِ، كعبد الله بن سلام، وعبد الله بن صوريا، وتميم الداري، وكعب الأحبار، لأنَّهُم هم الذين يوثق بأخبارهم.
وقال بعضهم: المراد الكل سواء كانوا من المسلمين أم من الكُفَّار؛ لأنَّهم إذا بلغُوا عدد التواتر، وقرؤوا آية من التَّوراة، والإنجيل، وتلك الآية دالة على البشارة بمقدمِ النبي صلى الله عليه وسلم فقد حصل الغرضُ.
وقرا يحيى، وإبراهيم: الكتب بالجمع، وهي مبنيةٌ أنَّ المراد بالكتاب الجنسُ لا كتابٌ واحد. فإن قيل: إن كتبهم قد دخلها التَّحريفُ والتَّغييرُ، فكيف يمكنُ التعويلُ عليها؟.
فالجواب: أنهم إنما حرَّفُوها لإخفاء الآيات الدَّالة على نبوَّةِ محمدٍ - عليه الصلاة والسلام -، فإن بقيت فيها آيات دالة على نبوته؛ كان ذلك من أقوى الدَّلائل على صحَّة نبوَّة محمد - عليه الصلاة والسلام - لأنَّها لمَّا بقيت مع توفر دواعيهم على إزالتها دلَّ ذلك على أنَّها كانت في غاية الظهور.
فصل
قيل: السؤالُ كان عن القرآن، ومعرفة نُبوَّةِ الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام -. وقيل: السؤال راجعٌ إلى قوله { فَمَا ٱخْتَلَفُواْ حَتَّىٰ جَآءَهُمُ ٱلْعِلْمُ } والأول أولى؛ لأنَّه الأهمُّ. ولمَّا بين هذا الطريق قال: { لَقَدْ جَآءَكَ ٱلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ } أي: ثبت عنده بالآيات والبراهين القاطعة أنَّ ما أتاك هو الحق: "فلا تكُوننَّ من المُمترينَ" أي: لا مدخل للمرية فيه { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ ٱلَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ ٱللَّهِ } أي: اثبت، ودم على ما أنت عليه من انتفاء المرية، وانتفاء التكذيب بآيات الله؟ وروي أنَّه عليه الصلاة والسلام قال عند نزوله:
"لا أشُكُّ ولا أسْألُ بلْ أشهدُ أنَّهُ الحقُّ" .
ثم لمَّا فصَّل تعالى هذا التفصيل، بيَّن أنَّ له عباداً، قضى عليهم بالشَّقاءِ، فلا تتغيَّر، وعباداً قضى لهم بالكرامة، فلا تتغير، فقال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ }.
قرأ نافعٌ وابن عامر كلمات على الجمع، والباقون: بالإفراد. فكلمات بحسب الكثرة النوعية أو الصنفية وكلمة بحسب الجنسية.
والمراد بهذه الكلمة: حكمُ الله بذلك، وإخباره عنه، وخلقه في العبد مجموع القدرة، والدَّاعية الموجبة لحصول ذلك الأثر.
واحتجُّوا بهذه الآية على صحَّة القول بالقضاءِ والقدرِ. ثم قال: { وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ } أي: أنهم لا يؤمنون ألبتَّة، ولو جاءتهم الدَّلائل التي لا حدَّ لها ولا حَصْرَ؛ لأنَّ الدَّليل لا يهدي إلاَّ بإعانة الله، فإذا لم تحصيل الإعانة ضاعت تلك الدَّلائل.
القصة الثالثة
قوله تعالى: { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ } الآية.
لمَّا بيَّن بقوله: { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ } أتبعه بهذه الآية؛ لأنَّها دالةٌ على أنَّ قوم يونس آمنوا بعد كفرهم، وانتفعوا بذلك الإيمان، فدلَّ ذلك على أنَّ الكُفَّار فريقان:
فريق ختم له بالإيمان.
وفريق ختم له بالكفر، وكلُّ ما قضى الله به فهو واقعٌ.
قوله: "فلولا" لولا هنا تحضيضيةٌ، وفيها معنى التَّوبيخ؛ كقول الفرزدق: [الطويل]

2938- تَعُدُّونَ عَقْرَ النَّيبِ أفْضَلَ مَجْدِكُمْ بَنِي ضَوْطَرَى لولاَ الكَمِيَّ المقنَّعا

وفي مصحف أبيِّ، وعبد الله - وقرأ كذلك - فَهَلاَّ، وهي نصٌّ في التحضيض وزعم عليُّ بنُ عيسى، والنَّحَّاس أنَّ لولا تأتي بمعنى ما النَّافية، وحملا على ذلك هذه الآية أي: ما كانت قرية نقله ابنُ قاسم، وهو منقولٌ أيضاً عن الهرويِّ، وكانت هنا تامة و "آمنت" صفة لـ "قرية"، وفنفعها نسق على الصِّفة.
قوله: "إلاَّ قَوْمَ يُونُسَ" فيه وجهان:
أحدهما: أنَّهُ استثناء منقطع، وإليه ذهب سيبويه، والكسائي، والأخفش، والفراء، ولذلك أدخلهُ سيبويه في باب "ما لا يكون فيه إلاَّ النصب لانقطاعه" وإنما كان منقطعاً؛ لأنَّ ما بعد "إلاَّ" لا يندرجُ تحت لفظ "قرية".
والثاني: أنَّه متصلٌ. قال الزمخشري: "استثناءٌ من القرى، لأنَّ المراد أهاليها وهو استثناء منقطع بمعنى: ولكن قوم يونس، ويجُوزُ أن يكون مُتَّصِلاً، والجملةُ في معنى النَّفي كأنَّه قيل: ما آمنت قريةٌ من القرى الهالكة إلاَّ قوم يونس".
وقال ابنُ عطيَّة: هو بحسب اللفظ استثناءٌ منقطعٌ، وكذلك رسمه النَّحويون، وهو بحسب المعنى متصلٌ لأنَّ تقديره: ما آمن أهل قريةٍ إلاَّ قوم يونس.
قال شهاب الدين: "وتقدير هذا المضاف هو الذي صحَّح كونه استثناء مُتَّصلاً"، وكذلك قال أبو البقاء ومكي وابن عطية وغيرهم. وأمَّا الزَّمخشري فإنَّ ظاهر عبارته أنَّ المُصَحِّحَ لكونه متصلاً كونُ الكلام في معنى النَّفي، وليس كذلك بل المسوِّغ كون القرى يُرادُ بها أهاليها من باب إطلاق المحلِّ على الحال، وهو أحدُ الأوجه المذكورة في قوله
{ { وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف:82]. وقرأ فرقة: "إلاَّ قومُ" بالرَّفع. قال الزمخشريُّ: وقُرىء بالرفع على البدل، روي ذلك عن الجرمي، والكسائي.
وقال المهدويُّ: "والرَّفْعُ على البدل من قَرْية". فظاهر هاتين العبارتين أنَّها قراءةٌ منقولةٌ، وظاهرُ قول مكِّي، وأبي البقاء أنَّها ليست قراءة، وإنَّما ذلك من الجائز، وجعلا الرَّفع على وجهٍ آخر غير البدلِ، وهو كون "إلاَّ" بمعنى "غير" في وقوعها صفةً.
قال مكي "ويجوزُ الرَّفعُ على أن تجعل إلا بمعنى "غير" صفة للأهْلِ المحذوفين في المعنى، ثم يُعْرَب ما بعد إلاَّ بإعراب "غير" لو ظهرت في موضع "إلاَّ". وقال أبو البقاء - وأظنه أخذه منه -: ولو كان قد قُرىء بالرَّفع لكانت إلاَّ فيه بمنزلة غير فيكون صفة، وقد تقدم أن في نون يونس ثلاث لغات وقرئ بها.
فصل
قال البغويُّ: المعنى فلم تكن قرية؛ لأن في الاستفهام ضرباً من الجَحْدِ؛ أي: أهل قرية آمنت عند معاينة العذاب، "فنفعها إيمانها" في حال اليَأسِ "إلاَّ قوم يونس"، فإنَّهم نفعهم إيمانهم في ذلك الوقت، و "قوم" نصب على الاستثناء المنقطع، أي: ولكن قوم يونس "لما آمنوا كشفْنَا عنهم عذاب الخزي في الحياة الدُّنْيَا، ومتعناهم إلى حين"، وهي وقت انقضاء آجالهم، واختلفوا في أنَّهُمْ هل رأوا العذاب عياناً فقال بعضهم: رأوا دليل العذاب. والأكثرون على أنَّهُم رأوا العذاب عياناً لقوله: { كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ ٱلخِزْيِ }، والكَشْفُ يكون بعد الوقوع، أو إذا قرب قوله: "ولو شاء ربُّك" يا مُحمَّدُ "لآمن من في الأرض كلهم جميعاً".
واعلم أنَّ هذه السُّورة من أوَّلها إلى هنا في بيان شبهات الكفار في إنكار النبوة، والجواب عنها، وكانت إحدى شبهاتهم؛ أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم كان يُهَدِّدهُم بنزول العذاب على الكُفَّار، وبعد أتباعه أن الله ينصرهم، ويعلي شأنهم، ويقوي جانبهم، ثمَّ إنَّ الكُفَّارَ ما رأوا ذلك؛ فجعلوا ذلك شبهة في الطَّعْنِ في نبوته، وكانوا يبالغون في استعجال العذاب على سبيل السخرية، ثم إن الله تعالى بيَّن أنَّ تأخير الموعود به لا يقدحُ في صحَّة الوعد، ومن ثم ضرب لهذا أمثلة، وهي قصَّة نوح - عليه السلام - وموسى - عليه السلام - إلى هاهنا، ثم في هذه الآية بيَّن أنَّ جدَّ الرسول في دخولهم في الإيمان لا ينفعُ، ومبالغته في تقريرِ الدلائل في الجواب عن الشبهات لا يفيدُ؛ لأن الإيمان لا يحصلُ إلا بخلق الله، ومشيئته وإرشاده، وهدايته، إذا لم يحصل هذا المعنى لم يحصل الإيمانُ.
فصل
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ جميع الكائنات لا تحصلُ إلا بمشيئة الله تعالى؛ لأنَّ كلمة "لَوْ" تفيد انتفاء الشَّيء لانتفاء غيره، فقوله: { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } يقتضي أنَّه ما حصلت تلك المشيئة، وما حصل إيمانُ أهل الأرض بالكليَّة، فدلَّ هذا على أنَّه تعالى ما أراد الكل، وأجاب الجبائيُّ، والقاضي وغيرهما أنَّ المراد مشيئة الإلجاء، أي: لو شاء الله أن يُلْجِئهُم إلى الإيمان لقدر عليه، ولكنَّهُ ما فعل ذلك؛ لأنَّ الإيمان الصَّادر من العبد على سبيل الإلجاء لا ينفعه، ولا يفيده فائدة، ثم قال الجبائيُّ: ومعنى إلجاء الله تعالى إيَّاهُم إلى ذلك، أن يُعَرِّفهم أنَّهُمْ لو حاولوا تركه حال الله بينهم وبين ذلك، وعند هذا لا بُدَّ وأن يفعلوا ما ألجئوا إليه.
والجواب من وجوه:
أحدها: أنَّ الكافر لو كان قادراً على الكفر، ولم يقدر على الإيمان، فحينئذٍ تكونُ القدرة على الكفر مستلزمة للكفر، فإذا كان خالق تلك القدرة هو الله تعالى لزم أنْ يقال: إنَّه تعالى خلق فيه قدرة مستلزمة للكفر؛ فوجب أن يقال: أراد منه الكفر، وإن كانت القدرة صالحة للضِّدين، فرجحان أحد الطَّرفين على الآخر - إن لم يتوقف على المرجح - فقد حصل الرجحانُ لا لمرجحٍ، وهو باطلٌ، وإن توقف على مرجح، فذلك المرجحُ إمَّا أن يكون من العبد، أو من الله، فإن كان من العبد عاد التَّقْسِيمُ ولزم التسلسل، وهو محالٌ، وإن كان من الله، كان مجموع تلك القدرة مع تلك الدَّاعية موجباً لذلك الكفر، فإذا كان خالق القدرة والدَّاعية هو الله تعالى عاد الإلزام.
ثانيها: أن قوله: "ولو شاءَ ربُّكَ" لا يجوز حمله على مشيئة الإلجاء؛ لأنَّ النبي - عليه الصلاة والسلام - ما كان يطلب منهم إلاَّ إيماناً ينتفعون به في الآخرة، فبيَّن تعالى؛ أنَّه لا قدرة للرَّسُولِ على تحصيل هذا الإيمان، ثم قال: { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي ٱلأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً } فوجب أن يكون المرادُ منه هذا الإيمان النَّافع حتى ينتظم الكلام، وحمل اللفظ على مشيئة القهر والإلجاء لا يليقُ بهذا الموضع.
وثالثها: أنَّ الإلجاء إمَّا أن يكون بأن يظهر له آيات هائلة يعظم خوفه عند رؤيتها، فيأتي بالإيمان عندها، وإمَّا أن يكون بخلق الإيمان فيهم، والأولُ باطلٌ؛ لأنه تعالى قال: { إِنَّ ٱلَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّىٰ يَرَوُاْ ٱلْعَذَابَ ٱلأَلِيمَ }[يونس:96-97] وقال:
{ { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ ٱلْمَلاۤئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ ٱلْمَوْتَىٰ وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُوۤاْ إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } [الأنعام:111] فبيَّن أنَّ إنزال الإيمان لا يفيدُ، وإن كان المراد هو الثاني لم يكن هذا الإلجاء إلى الإيمان، بل كان عبارة عن خلق الإيمان فيهم، فيصير المعنى: ولو شاء ربك حصول الإيمان لهم لخلق الإيمان فيهم، ثم يقال: لكنه ما خلق الإيمان فيهم، فدلَّ على أنَّه ما أراد حصول الإيمان لهم، وهو المطلوب. ثم قال: { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ ٱلنَّاسَ حَتَّىٰ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } أي: أنه: لا قدرة لك على التَّصرف في أحد.
قوله: "أفأنت" يجوز في "أنت" وجهان، أحدهما: أن يرتفع بفعل مقدَّر مفسَّر بالظَّاهر بعده، وهو الأرجحُ؛ لأنَّ الاسم قد ولي أدَاة هي بالفعل أولى.
والثاني: أنَّه مبتدأ والجملةُ بعده خبره، وقد تقدَّم ما في ذلك من كون الهمزة مقدمة على العاطف أو ثمَّ جملةٌ محذوفةٌ كما هو رأي الزمخشري. وفائدة إيلاء الاسم للاستفهام إعلامٌ بأنَّ الإكراه ممكنٌ مقدورٌ عليه، وإنَّما الشَّأنُ في المكره من هو؟ وما هو إلا هو وحده لا مشاركة فيه لغيره. و "حتَّى" غايةٌ للإكراه.
قوله: { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ } كقوله:
{ أَنْ تَمُوتَ } [آل عمران:145] وقد تقدم في آل عمران [145]. والمعنى: ما ينبغي لنفس. وقيل: ما كانت لتؤمن إلاَّ بإذنِ الله. قال ابن عبَّاسٍ: بأمر الله. وقال عطاءٌ: بمشيئة الله. وقيل: بعلم الله. "ويَجْعَلُ" قرأ أبو بكر عن عاصم بنون العظمة. والباقون: بياء الغيبةِ وهو الله تعالى. وقرأ الأعمش "ويجعلُ الرجز" بالزاي دون السين، وقد تقدَّم هل هما بمعنى، أو بينهما فرقٌ؟ [الأعراف:134] ثم قال: { عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } أي: من الله أمره ونهيه.
فصل
احتجُّوا بقوله: { وَيَجْعَلُ ٱلرِّجْسَ عَلَى ٱلَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } على أنَّ خالق الكفر والإيمان هو الله تعالى، وتقريره: أنَّ الرِّجْسَ قد يراد به: العملُ القبيحُ، قال تعالى:
{ { إِنَّمَا يُرِيدُ ٱللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُـمُ ٱلرِّجْسَ أَهْلَ ٱلْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِـيراً } [الأحزاب:33] والمراد من الرِّجْسِ هنا: العملُ القبيحُ سواء كان كفراً أو معصية، وبالتَّطهير: نقل العبد من رجس الكفر، والمعصية إلى طهارة الإيمان، والطَّاعة، فلما ذكر الله تعالى فيما قبل هذه الآية أنَّ الإيمان إنَّما يحصلُ بمشيئة الله وتخليقه، ذكر بعد أنَّ الرِّجْسَ لا يحصلُ إلاَّ بتخليقه. والرِّجْسُ الذي يقابلُ الإيمان ليس إلاَّ الكفر.
وأجاب أبو علي الفارسي النحوي عنه فقال: الرِّجْسُ، يحتمل وجهين آخرين.
أحدهما: أن يكون المراد منه العذاب، فيكون المعنى: يلحق العذاب بالذين لا يعقلون، كقوله
{ { وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَافِقِينَ وَٱلْمُنَافِقَاتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَاتِ } [الفتح:6]. الثاني: أنَّه تعالى حكم عليهم بأنَّهم نجس، كما قال: { { إِنَّمَا ٱلْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ } [التوبة:28] أي: أنَّ الطَّهارة الثابتة للمسلمين لم تحصل لهم.
وأجابُوا: أنَّ حمل الرجس على العذاب باطلٌ؛ لأنَّ الرِّجْسَ عبارة عن الفاسد المستقذر المستكره فحمل هذا اللفظ على كفرهم وجهلهم أولى من حمله على عذاب الله مع كونه حقّاً صِدْقاً صواباً. وأمَّا حمل الرِّجْسِ على حكم الله برجاستهم، فهو في غاية البعد؛ لأنَّ حكم الله تعالى بذلك صفته، فكيف يجوز أن يقال: إنَّ صفة الله رجسٌ، فثبت أنَّ دلالة الآية على الكفر ظاهرةٌ.