التفاسير

< >
عرض

أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ وَبَشِّرِ ٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ
٢
-يونس

اللباب في علوم الكتاب

قوله: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ } الهمزة للإنكار، و "أَنْ أَوْحَيْنَآ"أن" والفعل في تقدير المصدر وهو اسم "كان"، و "عَجَباً" خبرها، و "للنَّاس" متعلِّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من "عَجَباً" لأنه في الأصل صفة له، أو متعلِّقٌ بـ "عَجَباً"، ولا يضُرُّ كونه مصدراً؛ لأنَّه يُتَّسع في الظرف وعديله ما لا يُتَّسع في غيرهما. وقيل: لأنَّ "عَجَباً" مصدرٌ واقعٌ موقع اسم الفاعل أو اسم المفعول، ومتى كان كذلك جاز تقديمُ معموله. وقيل: هو متعلِّق بـ "كَانَ" النَّاقصة، وهذا على رأي مَنْ يُجيز فيها ذلك. وهذا مرتَّبٌ على الخلاف في دلالة "كان" النَّاقصة على الحدث، فإن قلنا: إنَّها تدلُّ على ذلك فيجُوزُ وإلاَّ فلا. وقيل: هو متعلِّقٌ بمحذوفٍ على التَّبيين، والتقدير في الآية: أكان إيحاؤنا إلى رجُلٍ منهم عجباً لهم. و "منهم" صفة لـ "رجُل".
وقرأ رُؤبة "رَجْل" بسكون الجيم، وهي لغة تميم، يُسَكِّنُون "فَعُلاً" نحو: سبع وعضد.
وقرأ عبد الله بن مسعود "عَجَبٌ". وفيه تخريجان، أظهرهما: أنَّها التَّامة، أي: أحدث للنَّاس عجب و "أنْ أوْحَيْنَا" متعلِّق بـ "عجب" على حذف لامِ العلَّة، أي: عجبٌ لـ "أنْ أوْحَيْنَا"، أو يكون على حذف "مِنْ"، أي: مِنْ أنْ أوحينا. والثاني: أن تكون الناقصة، ويكون قد جعل اسمها النَّكرة وخبرها المعرفة، على حدِّ قوله: [الوافر]

2864-...................... يكُونُ مزاجها عسلٌ ومَاءُ

وقال الزمخشري: والأجودُ أن تكون التَّامة، و "أنْ أوحَيْنَا": بدلٌ من "عَجَبٌ". يعني به بدل اشتمال أو كل من كل، لأنه جعل هذا نفس العجب مبالغة، والتخريج الثاني لابن عطيَّة.
فصل
التعجُّب: حالة تعتري الإنسان من رؤية شيء على خلاف العادة، وسبب نزول هذه الآية: أنَّ الله - تعالى - لمَّا بعث محمَّداً صلى الله عليه وسلم رسولاً، تعجَّب كفار قريش وقالوا: إنَّ الله أعظم من أن يكون رسُوله بشراً، فأنكر الله عليهم ذلك التعجُّب، أما بيان تعجُّبهم من تخصيص محمَّدٍ بالرسالة فمن وجوه:
الأول: قوله تعالى:
{ { وَعَجِبُوۤاْ أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } [ص:4] إلى قوله: { { إِنَّ هَـٰذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ص:5].
والثاني: أن أهل مكَّة كانوا يقولون: إنَّ الله تعالى ما وجد رسُولاً إلى خلقه إلا يتيم أبي طالب.
والثالث: أنهم قالوا:
{ { لَوْلاَ نُزِّلَ هَـٰذَا ٱلْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ ٱلْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ } [الزخرف:31]؛ فأنكر الله عليهم هذا التعجُّب بقوله { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ } فلفظه استفهام؛ ومعناه الإنكار لأنْ يكون ذلك عجباً، والمراد بـ "النَّاس": أهل مكة، والألف فيه للتوبيخ.
فإن قيل: لِمَ لَمْ يقل: أكان عند الناس عجباً، بل قال: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً }؟.
فالجواب: أن قوله: { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } معناه أنهم جعلوه لأنفسهم أعجوبة يتعجَّبُون منها، وعيَّبوه ونصَّبُوه للاستهزاء والتعجُّب إليه وليس في قوله:"أكان عند النَّاس عجباً" هذا المعنى.
وقوله: { أَنْ أَوْحَيْنَآ إِلَىٰ رَجُلٍ مِّنْهُمْ } يعني: محمداً صلى الله عليه وسلم.
قوله: { أَنْ أَنذِرِ ٱلنَّاسَ } يجوز أن تكون المصدريَّة، وأن تكون التفسيريَّة، ثم لك في المصدريَّة اعتباران:
أحدهما: أن تجعلها المخففة من الثقيلة، واسمها ضمير الأمر والشَّأن محذوف.
كذا قال أبو حيَّان، وفيه نظرٌ من حيث إنَّ أخبارَ هذه الحروف لا تكون جملة طلبيَّة، حتى لو ورد ما يوهمُ ذلك يُؤوَّلُ على إضمار القول؛ كقول الشاعر: [البسيط]

2865- ولوْ أصَابَتْ لقالتْ وهيَ صَادِقَةٌ إِنَّ الرِّياضَةَ لا تُنْصِبْكَ للشَّيبِ

وقول الآخر: [البسيط]

2866- إنَّ الذينَ قَتَلْتُمْ أمسِ سيِّدهُمْ لا تَحْسَبُوا ليْلَهُمْ عنْ ليْلِكُمْ نَامَا

وأيضاً فإنَّ الخبر في هذا الباب إذا وقع جملة فعلية، فلا بد من الفصل بأشياء تقدَّمت في المائدة. ولكن ذلك الفاصل هنا متعذِّرٌ.
والثاني: أنَّها التي بصدد أن تنصب الفعل المضارع، وهي توصل بالفعل المتصرِّف مطلقاً، نحو: "كَتبتُ إليْه بأنْ قُمْ". وقد تقدم البحث في [النساء66]، ولم يذكر المنذرُ به وذكر المُبَشَّرَ به؛ لأنَّ المقام يقتضي ذلك، وقدَّم الإنذار على التَّبشير، لأنَّ إزالة ما لا ينبغي مقدَّم في الرتبة على ما لا ينبغي، والإنذار للكفَّار والفساق ليرتدعوا عن فعل ما لا ينبغي، والتَّبشير لأهلِ الطَّاعةِ؛ لتقوى رغبتهم فيها.
قوله: { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ } "أنَّ" وما في حيَّزها هي المُبشَّرُ بها، أي: بشِّرهُم باستقرارِ قدمِ صدْق، فحذفت الباءُ، فجرى في محلِّها المذهبان، والمرادُ بـ "قدم صِدْقٍ": السابقةُ والفضلُ والمنزلةُ الرَّفيعة، وإليه ذهب الزجاج والزمخشريُّ؛ ومنه قولُ ذِي الرُّمَّة: [الطويل]

2867- لَكُم قدمٌ لا يُنْكِرُ النَّاسُ أنَّهَا مَعَ الحسَبِ العَاديِّ طمَّتْ على البَحْرِ

لمَّا كان السعي والسبقُ بالقدم سُمِّي السَّعي المحمود قدماً، كما سُمِّيت اليدُ نعمةً لمَّا كانت صادرةً عنها، وأضيف إلى الصدق دلالةً على فضله، وهو من باب "رجُلُ صدقٍ، ورجلُ سوءٍ".
وقيل: هو سابقةُ الخير التي قدَّمُوها؛ ومنه قول وضَّاح اليمن: [المنسرح].

2868- مَالكَ وضَّاحُ دَائِمَ العَزَلِ ألَسْتَ تَخْشَى تقارُبَ الأجَلِ
صلِّ لذي العَرْشِ واتَّخِذْ قَدَماً يُنْجِيكَ يَوْمَ العَثَارِ والذَّلَلِ

وقيل: هو التقدُّم في الشرف؛ ومنه قول العجَّاج: [الرجز]

2869- ذَلَّ بنُو العوَّامِ عنْ آلِ الحَكَمْ وتَرَكُوا المُلْكَ لملكٍ ذي قَدَمْ

أي: ذي تقدُّم وشرف.
قال ابن عبَّاس: أجراً حسناً بما قدَّمُوا من أعمالهم، وروى عليُّ بن أبي طلحة، عن ابن عباس: هو السعادة في الذكر الأول. وقال زيد بن أسلم: هو شفاعة الرَّسُول - عليه الصلاة والسلام -.
وقال عطاء: مقام صدق، لا زوال له، ولا بؤس فيه. وأضيف القدمُ إلى الصِّدق وهو نعته، كقولهم: مَسْجِد الجَامِع،
{ { وَحَبَّ ٱلْحَصِيدِ } [ق:9].
وقال أبُو عبيد: كل سابق في خير أو شرٍّ فهو عند العرب قدم، يقال لفُلان قدم في الإسلام، وله عندي قدم صدق وقدم سوءٍ، وهو يؤنثُ. وقد يذكر، فيقال: قدم حسن، وقدم صالحة. و "لَهُمْ" خبر مقدَّم، و "قَدَمَ" اسمها، و "عِندَ ربِّهِمْ" صفة لـ "قَدَمَ"، ومنْ جوَّز أن يتقدَّم معمُولُ خبر "أنَّ" على اسمها إذا كان حرف جرٍّ؛ كقوله: [الطويل]

2870- فَلاَ تَلْحَنِي فيهَا فإنَّ بحُبِّهَا أخاكَ مُصَابُ القَلْبُ جَمٌّ بلابِلُهْ

قال: فـ "بِحُبِّهَا" متعلقٌ بـ "مُصَاب"، وقد تقدَّم على الاسم، فكذلك "لَهُمْ" يجوز أن يكون متعلقاً بـ "عِنْدَ ربِّهِمْ" لمَا تضمَّن من الاستقرار، ويكونُ "عندَ ربِّهِمْ" هو الخبر.
قوله: { قَالَ ٱلْكَافِرُونَ إِنَّ هَـٰذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } لمَّا جاءهم رسول منهم فأنذرهم وبشَّرهُم قالوا مُتعجِّبين: "إنَّ هذا لسَاحِرٌ مُبِينٌ"، وقرأ نافع، وأبو عمرو، وابن عامر "لسِحْرٌ" والباقون "لَسَاحر"، فـ "هَذَا" يجوزُ أن يكون إشارةً للقرآن، وأن يكون إشارةً للرسُول على القراءة الأولى، ولكن لا بد من تأويل على قولنا: هو إشارة للرسول، أي: ذو سحر أو جعلوه إيَّاه مبالغةً، وعلى القراءة الثانية فالإشارةُ للرَّسول - عليه الصلاة والسلام - فقط.
واعلم أنَّ إقدامهم على وصف القرآن بأنَّه سحرٌ، يحتمل أنَّهم ذكروه في معرض الذَّمِّ، ويحتمل أنهم ذكروه في معرض المدح، فلهذا قال بعضُ المُفَسِّرين: أرَادُوا به أنَّه كلام مزخرف حسن الظَّاهر، لكنه باطِل في الحقيقة، ولا حاصل له، وقال آخرون: أرادُوا به أنَّه لكمال فصاحته، وتعذر مثله، جارٍ مجرى السِّحْر. وهذا كلام فَاسِد، فلهذا لم يذكر جوابه، وبيان فساده: أنَّه - عليه الصلاة والسلام - كان منهم، ونشأ بينهم، وما غَابَ عنهم، ولم يُخالط أحداً سواهم، ولم تكن مكَّة بلدة العُلماء، حتى يقال: إنَّه تعلَّم السحر منهم، أو تعلم العلوم الكثيرة منهم، فقدر على الإتيان بمثل هذا القرآن. وإذا كان الأمر كذلك، كان حمل القرآن على السِّحْر كلاماً في غايةِ الفسادِ، فلهذا السَّبب ترك جوابه.