التفاسير

< >
عرض

إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ
٣
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَؤُاْ ٱلْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ بِٱلْقِسْطِ وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ
٤
-يونس

اللباب في علوم الكتاب

لمَّا حكى عن الكُفَّار تعجُّبهم من الوَحْي والبَعْثَة والرِّسالة، أزال ذلك التعجُّب بأنه لا يبعد أن يبعث خالق الخلْقِ إليْهِم رسولاً يُبشِّرهم على الأعمال الصَّالحة بالثَّواب، وعلى الأعمال الباطلة بالعقاب، وهذا الجوابُ إنَّما بإثبات أمرين آخرين:
أحدهما: إثبات أنَّ لهذا العالم إلهاً قادراً قاهراً، نافِذَ الحُكم بالأمْر والنَّهي والتَّكليف.
والثاني: إثبات الحَشْر والنَّشر والبعث والقيامة، حتى يحصل الثَّواب والعقاب اللذان أخبر الأنبياءُ - عليهم الصلاة والسلام - عن حصولهما، فلذلك ذكر ما يدلُّ على تحقيق هذين الأمرين.
فإمَّا إثبات الإله، فبقوله تعالى: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ }، وأمَّا إثبات المعاد، فبقوله تعالى: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ ٱللَّهِ حَقّاً } [يونس:4] فهذا ترتيبٌ في غاية الحسن، فإن قيل: كلمة "الَّذي" وضعت للإشارة إلى شيء معروف عند السَّامع، كما إذا قيل لك: مَنْ زَيْدٌ؟ فتقول: الذي أبوه مُنْطلق، فهذا التعريف إنَّما يحسنُ لو كان أبوهُ منطلقاً أمراً معلوماً عند السَّامع، فهاهنا لما قال: { إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِي خَلَقَ ٱلسَّمَاوَاتِ وَٱلأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } يوجب أن يكون ذلك أمراً معلوماً عند السَّامع، والعرب ما كانوا عالمين بذلك، فكيف يحسن هذا التعريف؟.
فالجواب: أنَّ هذا كان مشهُوراً عند اليهود والنصارى؛ لأنَّه مذكور عندهم في التَّوراة والإنجيل، والعرب كانوا يُخالطُونَهُم، فالظَّاهر أنَّهم كانوا سمعُوه منهُم، فلهذا حَسُنَ هذا التعريف. فإن قيل: ما الفائدةُ في بيان الأيَّام التي خلق الله فيها السموات والأرض، مع أنَّه تعالى قادر على خلق جميع العالم في أقلِّ من لمْح البصرِ؟
فالجواب على قول أهل السُّنَّة: أنَّه تعالى يحْسُن منه كلّ ما أراد، ولا يُعَلَّلُ شيء من أفعاله بشيء من الحِكْمَة والمصالح، وأمَّا على قول المعتزلة: وهو أنَّ أفعالهُ تعالى مشتملةٌ على المصالحِ والحكمة، فقال القاضي: "لايبْعُد أنْ يكون خلق الله السموات والأرض في هذه المُدَّة المخصوصة، أدخل في الاعتبار في حقِّ بعض المُكَلِّفين" ثم قال: فإن قيل: فمن المُعْتَبر؟ ثم أجاب فقال: أما المعتبر فهو أنَّه لا بد من مُكلَّفٍ أو غير مكلَّف خلقه الله تعالى قبل خلقه السموات والأرض وإلاَّ لكان خلقُهُمَا عبثاً.
فإن قيل: فَهَلاَّ جَازَ أن يَخْلقهمَا لأجل حيوان يَخْلقُهُ من بعد؟.
قلنا: إنَّه تعالى لا يخاف الفوْت، فلا يجُوزُ أن يقدم على خلق لأجل حيوان سيحدُث بعد ذلك، وإنَّما يصحُّ ذلك منَّا في مُقدِّمَات الأمُور، لأنَّا نخشى الفَوْت، ونخافُ العَجْز.
قال: وإذا ثَبَتَ هذا، فقد صحَّ ما روي في الخبر أنَّ خلق الملائكة والجنِّ، كان سابقاً على خلقِ السموات والأرض.
فإن قيل: أولئك الملائكةَ لا بدَّ لهم من مكانٍ، وقبل خلق السموات والأرض لا مكان، فكيف يمكن وُجُودهُم بلا مكان؟
قلنا: الذي يقدر على تَسْكِين العَرْش والسموات والأرض في أمكنتها، كيف يعجزُ عن تسكين أولئك الملائكة في أحيازها بقدرته وحكمته؟ وأمَّا وجه الاعتبار في ذلك فهُو أنَّه لمَّا حصل هناك مُعْتَبر، لم يمتنع أن يكون اعتباره بما شاهده حالاً بعد حال أقوى. لأنَّ ما يحدث على هذا الوجه، فإنه يدلُّ على أنه صادر من فاعل حكيمٍ. وأمَّا المخلُوق دفعةً واحدةً فإنَّه لا يدلُّ على ذلك.
فإن قيل: هذه الأيام كأيَّام الدُّنيا، أو كما قال ابن عباس: إنَّها ستَّة أيَّام من أيَّام الآخرة كل يوم منها ألف سنة مِمَّا تعُدُّون
فالجواب: قال القاضي: الظَّاهرُ في ذلك أنَّهُ تعريف لعباده مدَّة خلقه لهما، ولا يجوز أن يكون ذلك تعريفاً إلاَّ والمدَّة هذه الأيَّام المعلومة، ويمكن أن يقال: لمَّا وقع التعريف في الأيَّام المذكورة في التوراة والإنجيل، وكان المذكُورُ هناك أيَّام الآخرة لا أيَّام الدنيا، لم يكن ذلك قادحاً في صحَّة التعريف بها.
فإن قيل: هذه الأيام إنما تعد بطُلوع الشمس وغروبها، وهذا المعنى مفقودٌ قبل خلقها، فكيف يعقل هذا التعريف؟
فالجواب: التعريف يحصل بما أنَّه لَوْ وقع حدوثُ السموات والأرض في مدَّة، لو حصل هناك أفلاك دائرة وشمسٌ وقمر، لكانت تلك المُدَّة مساوية لستَّة أيَّام.
فإن قيل: هذا يقتضي حصول مدَّة قبل خلقِ العالم، يحصل فيها حدوث العالم، وذلك يوجبُ قدم المُدَّة.
فالجواب: أن تلك المُدَّة غير موجودة، بل هي مفروضة موهُومة، لأنَّ تلك المُدَّة المعينة حادثةٌ، وحدوثها لا يحتاج إلى مدَّة أخرى، وإلا لزم إثبات أزمنة لا نهاية لها وذلك محالٌ، فكلُّ ما يقولونه في حدوث المدَّة، فنحن نقوله في حدوث العالم.
فإن قيل: اليومُ قد يُراد به اليوم مع ليلتِهِ، وقد يُرَاد به النَّهَار وحده، فما المرادُ بهذه الآية؟ فالجواب: أنَّ الغالبَ في اللُّغة هو اليوم بليلته.
قوله: { ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ عَلَى ٱلْعَرْشِ } قال ابنُ الخطيب: لا يمكن حمل الآية على ظاهرها، لأنَّ الاستواء على العرش معناه كونه مستقرًّا عليه، بحيث إنَّه لولا العرش لسقط ونزل، وإثبات هذا المعنى يقتضي كونه تعالى محتاجاً إلى العرش، وإنه لولا العرش لسقط ونزل، وذلك محالٌ، لإجماع المسلمين على أنَّه تعالى هو المُمْسِكُ له والحافظُ له، وأيضاً فإن قوله: "ثُمَّ ٱسْتَوَىٰ" يدل على أنه قبل ذلك ما كان مُسْتَوياً عليه، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى يتغيَّر من حالٍ إلى حالٍ، وكل متغير محدث، وذلك باطلٌ بالاتِّفاق. وأيضاً: لمَّا حدث الاستواء في هذا الوقت دلَّ على أنَّه تعالى كان قبل هذا الوقت مُضْطَرباً متحرِّكاً، وذلك من صفاتِ المُحدثات. وأيضاً ظاهرُ الآية يدلُّ على أنه تعالى إنَّما استوى على العرش بعد خلق السموات والأرض؛ لأنَّ كلمة "ثُمَّ" للتَّراخي، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى كان قبل العرش غنيّاً عن العرش، فلمَّا خلق العرش امتنع أن تنقلب حقيقتُه وذاته من الاستغناء إلى الحاجة، فوجب أن يبقى بعد خلق العرش غنيّاً عن العرش، ومن كان كذلك امتنع أن يكون مستقرّاً على العرش، فثبت بهذه الوجوه أنَّهُ لا يمكن حمل هذه الآية على ظاهرها، وإذا كان كذلك امتنع بالاستدلال بها في إثبات المكان والجهة، وإذا تقرَّر هذا، فقال جمهور المفسِّرين: المراد بالعرش هنا: هو الجسم العظيم الذي في السَّماء، وهو مخلوق قبل خَلْق السموات والأرض، بدليل قوله:
{ { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } [هود:7].
وقيل: المراد من العرش: الملك، يقال: فلان على عرشه أي: ملكه. وقال أبُو مسلم الأصفهاني. "المراد بالعَرْش: أنَّه تعالى لمَّا خلق السموات والأرض سطحها ورفع سمكها، فإنَّ كلَّ بناء يسمَّى عَرْشاً، وبانيه يسمَّى عارشاً، قال تعالى
{ { وَمِنَ ٱلشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ } [النحل:68] أي: يبنون، وقال: { وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَىٰ عُرُوشِهَا } [البقرة:259]، والمراد: أنَّ القرية خلت منهم مع سلامة بنائها وقيام سقفها، وقال: { { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى ٱلْمَآءِ } [هود:7] أي: بناؤه على الماءِ، وإنَّما ذكر الله تعالى ذلك، لأنه أعجب في القدرة، لأنَّ الباني يتباعد عن الماء إلى الأرض الصلبة، لئلاَّ ينهَدِم بناؤُه، والله تعالى بنى السموات والأرض على الماء، ليعرف العُقلاء كمال قُدْرتِهِ، فالمُرَاد بالاستواء على العرش: هو الاستعلاء عليه بالقَهْر، لقوله { { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ ٱلْفُلْكِ وَٱلأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُواْ عَلَىٰ ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا ٱسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ } [الزخرف:12، 13]، فوجب حَمْلُ اللفظ على ذلك، ولا يجوزُ حمله على العرش الذي في السَّماء، لأنَّ الاستدلال على وجود الصَّانع، يجب أن يكون بشيء معلُوم ومشاهد، والعرش الذي في السماء ليس كذلك، وأمَّا أجرام السموات والأرض فهي مشاهدة مَحْسُوسة، فكان الاستدلال بأحوالها على وجود الصَّانع صواباً حسناً".
وبهذا الوجه تصير هذه الآية موافقةٌ لقوله:
{ { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ ٱلسَّمَآءُ بَنَاهَا } [النازعات:27] الآية.
قوله: { يُدَبِّرُ ٱلأَمْرَ } فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنه في محلِّ رفعٍ خبراً ثانياً لـ "إنَّ".
الثاني: أنَّه حالٌ.
الثالث: أنه مستأنفٌ لا محلَّ له من الإعراب. ومعنى "يدبِّر الأمر": يقضيه وحده على حسب مقتضى الحكمة، أي: يُدبِّر أحْوَال الخَلْقِ، وأحوال ملكوت السموات والأرض. قوله { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أي: يدبر الأشياء، لا بشفاعة شفيعٍ، ولا تدبير مدبر، فمعناه: أن الشفعاء لا يشفعون إلا من بعد إذنِهِ.
فإن قيل: كيف يليق ذكر الشَّفيع مع ذكر مَبْدَأ الخَلْقِ، وإنَّما يليق ذكره بأحْوال القيامة؟ فالجواب: قال الزَّجَّاج: إنَّ الكفَّار الذين كانوا مخاطبينَ بهذه الآية كانوا يقولون: إنَّ الأصنام شفعاؤنا عند الله. وهذا ردٌّ على النضر بن الحارث، كان يقول: إذا كان يوم القيامة تشفعني اللاَّت والعُزَّى.
وقال أبو مسلم: "الشَّفيعُ هاهنا هو الثاني، مأخوذ من الشفع الذي يخالف الوتر، كما يقال: الزوْج والفرد". فمعنى الآية: خلق الله السموات والأرض وحدهُ لا شريكَ يعينه، ثم خلق الملائكة والجنَّ والبشر، وهو المراد من قوله { إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } أي: لم يحدُث أحدٌ ولم يدخل في الوجود، إلاَّ من بعد أن قال له: كُنْ حتَّى كان. ثم قال { ذٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبُّكُمْ فَٱعْبُدُوهُ } مُبَيِّناً بذلك أنَّ العبادة لا تصلح إلا له، وأنه هو المستحقُّ لجميع العبادات، لأنه هو المنعمُ بجميع النِّعم التي ذكرها.
ثم قال: { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } دالاًّ بذلك على وُجُوب التَّفكُّر في تلك الدَّلائل القاهرة الباهرة.
قوله تعالى: { إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } الآية.
لمَّا ذكر الدَّلائل الدَّالة على إثبات المبدأ، أردفه بما يدلُّ على صحَّة القول بالمعاد فقوله "إليه مرجعكم" الرجع بمعنى الرجوع و "جميعها" نصب على الحال أي ذلك الرجوع يحصل حال الاجتماع وهذا يدل على أن المراد بالرجوع القيامة لا الموت.
وقوله: "وعْدَ اللهِ" منصوبٌ على المصدر المؤكَّدِ؛ لأنَّ معنى "إلَيْهِ مرْجِعكُمْ": وعدكم بذلك.
وقوله: "حَقّاً" مصدرٌ آخرُ مؤكِّدٌ لمعنى هذا الوعد، وناصبه مضمر، أي: أحَق ذلك حقّاً.
وقيل: انتصب "حَقّاً" بـ "وَعْدَ" على تقدير "في"، أي: وَعْدَ الله في حق، يعني على التَّشْبيه بالظرف. وقال الأخفش الصغير: التقدير: وقت حق؛ وأنشد: [الطويل]

2871- أحَقّاً عِبَادَ الله أنْ لَسْتُ ذَاهِباً وَلاَ وَالِجاً إِلاَّ عليَّ رَقيبُ

"إنَّهُ يَبْدَؤا" الجمهور على كسر الهمزة للاستئناف، وقرأ عبد الله، وابن القعقاع، والأعمش، وسهيل بن شعيب بفتحها، وفيها تأويلاتٌ:
أحدها: أن تكون فاعلاً بما نصب "حَقّاً" أي: حقَّ حقًّا بدءُ الخَلْقِ، ثُمَّ إعادته؛ كقوله: [الطويل]

2872- أَحَقّاً عبادَ اللهِ أنْ لَسْتُ جَائِياً .........................

البيت.
وهو مذهبُ الفرَّاء، فإنَّه قال "والتقدير: يحقُّ أنَّه يبدأ الخَلْق".
والثاني: أنه منصوبٌ بالفعل الذي نصب "وَعْدَ اللهِ"، أي: وعد الله تعالى بدء الخلق ثم إعادته، والمعنى: إعادةُ الخلْقِ بعد بدئه.
الثالث: أنه على حذفِ لام الجرِّ، أي: لأنَّهُ ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشري وغيره.
الرابع: أنَّهُ بدلٌ من "وَعْدَ اللهِ" قالهُ ابن عطية.
الخامس: أنه مرفوعٌ بنفس "حَقّاً" أي: بالمصدر المنون، وهذا إنَّما يتأتَّى على جَعْل "حَقّاً" غير مؤكدٍ، لأنَّ المؤكَّدَ لا عمل له إلاَّ إذا نَابَ عن فعله، وفيه بحث.
السادس: أن يكون "حَقّاً" مشبهاً بالظَّرف خبراً مقدماً، و "إنَّه" في محلِّ رفع مبتدأ مؤخراً، كقولهم: أحقاً أنَّك ذاهبُ، قالوا: تقديره: أفي حقٍّ ذهابك.
وقرأ ابن أبي عبلة "حَقٌّ أنَّه" برفع حق وفتح "أنّ" على الابتداء والخبر، قال أبو حيَّان: وكون "حق" خبر مبتدأ، و "أنه" هو المبتدأ هو الوجه في الإعراب، كما تقول: صحيحٌ أنك مخرج؛ لأنَّ اسم "أن" معرفة، والذي تقدَّمها في هذا المثال نكرة، فظاهرُ هذه العبارة يُشْعر بجواز العكس، وهذا قد ورد في باب "إنَّ"؛ كقوله: [الطويل]

2873- وإنَّ حراماً أنْ أسُبَّ مُجَاشِعاً بآبَائِيَ الشُّمِّ الكِرَامِ الخَضَارِمِ

وقوله: [الطويل]

2874- وإنَّ شفَاءً عبْرَةٌ أنْ سَفَحْتُهَا وهَلْ عندَ رسْمٍ دارسٍ مِنْ مُعَوَّلِ

على جَعْلِ "أنْ سَفَحْتُهَا" بدلاً من "عَبْرَة"، وقد أخبر في "كان" عن نكرةٍ بمعرفةٍ، كقوله: [الوافر]

2875-.............................. ولا يَكُ موقِفٌ مِنْكِ الوَدَاعَا

وقوله: [الوافر]

2876-.............................. يكُونُ مِزاجَهَا عَسَلٌ ومَاءُ

قال مكِّي: "وأجاز الفرَّاء رفع "وَعْد"، بجعله خبراً لـ "مَرْجِعُكُمْ". وأجاز رفعَ "وَعْد" و "حَقّ" على الابتداء والخبر، وهو حسنٌ، ولم يقرأ به أحد".
قال شهابُ الدِّين: نعم لم يرفع "وَعْد"، و "حَقّ" معاً أحد، وأمَّا رفعُ "حَقٌّ" وحده فقط تقدَّم أن ابن أبي عبلة قرأه، وتقدَّم توجيهه، ولا يجوز أن يكون "وعْد الله" عاملاً في "أنَّه" لأنه قد وُصِفَ بقوله "حَقّاً" قاله أبو الفتح، وقرىء "وعَدَ اللهُ" بلفظ الفعل الماضي ورفع الجلالة فاعلةً، وعلى هذه يكون "إنَّه يَبْدأ" معمولاً له إنْ كان هذا القَارِىءُ يفتح "أنه"، والجمهُور على يَبْدَأ بفتح الياء من بَدَأ، وابنُ أبي طلحة "يُبْدِىء" مِنْ أبْدَأ، وبَدَأ وأبْدَأ بمعنى واحد.
فصل
في هذه الآية إضمار، تقديره: إنَّه يبدأ الخلق؛ ليأمرهم بالعبادة، ثم يُميتُهُم ثم يعيدهم، كقوله في البقرة:
{ { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِٱللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [البقرة:28].
إلاَّ أنَّه - تعالى - حذف ذكر الأمر بالعبادة ههنا؛ لأنَّه - تعالى - قال من قبله { ذلكم الله ربكم لا إله إلا هو فاعبدوه } وحذف ذكر الإماتة، لأنَّ ذكر الإعادة يدلُّ عليها. وهذه الآية تدلُّ على أنَّه تعالى يعيد جميع المخلوقات، وإعادتها لا يمكن إلاَّ بعد إعدامها، وإلا لزم إيجاد الموجود وهو محالٌ، ونظيره قوله تعالى:
{ يَوْمَ نَطْوِي ٱلسَّمَآءَ كَطَيِّ ٱلسِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [الأنبياء:104] فحكم بأنَّ الإعادة تكون مثل الابتداء.
قوله: "ليَجْزِي" متعلِّق بقوله "ثُمَّ يُعِيدُهُ"، و "بالقِسْطِ" متعلقٌ بـ "يَجْزِيَ" ويجوز أن يكون حالاً: إمَّا من الفاعل أو المفعول، أي: يَجْزيهُم مُلْتَبِساً بالقِسْطِ أو ملتبسين به، والقِسْطُ: العدل.
فصل
قال الكعبيُّ: "اللاَّم في قوله "ليَجْزِيَ الذينَ آمَنُوا" تدل على أنَّه تعالى خلق العباد للثواب والرحمة، وأيضاً فإنَّه أدخل "لام" التعليل على الثواب، ولم يدخلها على العقاب، بل قال: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ } فدل على أنَّه خلق الخلق للرَّحمةِ لا للعقاب، وذلك يدلُّ على أنَّه - تعالى - ما أراد منهم الكفر، ولم يخلق الكفر فيهم".
والجواب: أنَّ لامَ التعليل في أفعال الله - تعالى - محالٌ؛ لأنه - تعالى - لو فعل فعلاً لعلَّةٍ لكانت تلك العِلَّة، إن كانت قديمة لزم قدم الفعل، وإن كانت حادثة فيلزم التسلسل، وهو محال.
فصل
في تفسير "القِسْط" وجهان:
الأول: أنَّه العدل، كما تقدم؛ والعدلُ هو الذي يكون لا زائداً ولا ناقصاً، وذلك يدلُّ على أنَّه تعالى لا يزيدهُم على ما يستحقونه بأعمالهم، ولا يتفضَّل عليهم بشيء.
فالجواب: أنَّ الثواب أيضاً محضُ التَّفضُّل، وأيضاً فبتقدير أن يساعد على حصول الاستحقاق إلا أنَّ لفظ "القِسْطِ" يدلُّ على توفية الأجْرِ، فأمَّا المنع من الزِّيادة فلفظ "القِسْط" لا يدلُّ عليه، فإن قيل: لِمَ خصَّ المؤمنين بالقسطِ مع أنَّه - تعالى - يجازي الكافرين أيضاً بالقسطِ؟
فالجواب: أنَّ تخصيصَ المؤمنين يدلُّ على مزيد العناية في حقِّهم، وعلى كونهم مخصوصين بمزيد الإحسان.
الوجه الثاني - في تفسير القِسْطِ -: أن المعنى: ليجزي الذين آمنُوا بقسطهم، وبما أقسطوا وعدلوا ولم يظلموا أنفسهم حين آمنُوا وعملو الصَّالحات، لأنَّ الشِّركَ ظلمٌ، قال تعالى
{ إِنَّ ٱلشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [لقمان:13]، والعصاة أيضاً قد ظلموا أنفسهم، قال تعالى: { { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } [فاطر:32] وهذا أقوى؛ لأنه في مقابلة قوله: { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ }.
قوله: { وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ } يحتمل وجهين:
أحدهما: أن يكون مرفوعاً بالابتداءِ، والجملة بعده خبره.
والثاني: أن يكون منصوباً عطفاً على الموصول قبله، وتكونُ الجملةُ بعده مُبَيِّنَة لجزائهم. و "شَرابٌ" يجُوزُ أن يكون فاعلاً، وأن يكون مبتدأ، والأولُ أولَى.
قوله: "بِمَا كَانُوا" الظَّاهرُ تعلُّقه بالاستقرار المضمر في الجارِّ الواقع خبراً، والتقدير: استقرَّ لهم شرابٌ من حميم وعذاب أليمٌ بما كانُوا. وجوَّز أبو البقاء فيه وجهين ولم يذكر غيرهما:
الأول: أن يكون صفة أخرى لـ "عَذاب".
والثاني: أن يكون خبر مبتدأ محذوف، وهذا لا معنى له، ولا حاجة إلى العدول عن الأوَّل. قال الواحدي: الحَميمُ: الذي أسخنَ بالنَّار حتى انتهى حرُّه، يقال: حَمَمْتُ الماءَ، أي: أسْخَنْتُهُ، أحْمِيهِ، فهو حميمٌ، ومنه الحَمَّام.
فصل
دلَّت الآية على أنَّه لا واسطة بين أن يكون المكلَّف مُؤمناً، وبين أن يكون كافراً، لأنَّه اقتصر في الآية على ذكر هذين القسمين.
وأجاب القاضي: بأنَّ ذكر هذين القسمين لا ينفي القسم الثالث؛ لأنَّ قوله تعالى:
{ { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ مِّن مَّآءٍ فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ بَطْنِهِ وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي عَلَىٰ أَرْبَعٍ } [النور:45] ولم يدلَّ على نفي القسم الرابع، بل ربما ذكر المقصود أو الأكثر، وترك ما عداه، إذا كان قد بيِّن في موضع آخر، وقد بيَّن الله حال القسم الثالث في سائر الآيات.
وجوابه: إنَّما يترك القسمُ الذي يجري مجرى النَّادر، ومعلوم أنَّ الفسَّاق أكثر من أهل الطَّاعةِ، فكيف يجُوز ترك ذكرهم في هذا الباب؟ وأما قوله تعالى
{ { وَٱللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَآبَّةٍ } [النور:45] فإنَّما ترك ذكر القسم الرابع، لأنَّ أقسام دواب الأرض كثيرة، فكان ذكرها بأسرها يوجبُ الإطناب، بخلاف مسألتنا، فإنه ليس هنا إلاَّ القسم الثَّالث، وهو الفاسقُ الذي يزعم الخصمُ أنَّه لا مؤمنٌ ولا كافرٌ، فظهر الفرق.