التفاسير

< >
عرض

وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّىٰ إِذَآ أَدْرَكَهُ ٱلْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ
٩٠
آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ
٩١
فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ
٩٢
-يونس

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَجَاوَزْنَا بِبَنِيۤ إِسْرَائِيلَ ٱلْبَحْرَ } الآية.
قد تقدَّم الكلام في نظير الآية [الأعراف:138]، وقرأ الحسن، "وجوَّزْنَا: بتشديد الواو.
قال الزمخشري: وجوَّزْنَا: من أجَازَ المكان، وجَاوَزهُ،وجوَّزَهُ، وليس من "جَوَّز" الذي في بيت الأعشى: [الكامل]

2933- وإذَا تُجَوِّزُها حِبَالُ قَبيلَةٍ أخَذَتْ مِنَ الأخْرَى إلَيْكَ حِبَالَهَا

لأنَّه لو كان منه لكان حقَّهُ أن يقال: وجَوَّزْنَا بني إسرائيل في البحر؛ كما قال: [الطويل]

2934-......................... كمَا جَوَّزَ السَّكِّيَّ في البَابِ فَيْتَقُ

يعني أنَّ فعَّل بمعنى فاعل وأفْعَل، وليس التضعيفُ للتَّعدية، إذ لو كان كذلك لتعدَّى بنفسه كما في البيت المشار إليه دون الباء.
وقرأ الحسن: "فاتَّبَعَهُمْ" بالتَّشديد، وقد تقدَّم الفرقُ.
قال القرطبيُّ: يقالُ: تَبعَ، وأتْبع بمعنى واحد إذا لحقهُ، واتَّبَع - بالتَّشديد - إذا صار خلفهُ، وقال الأصمعيُّ: يقال: أتبعه - بقطع الألف - إذا لحقه، وأدْرَكَهُ، واتَّبَعَه بوصل الألفِ - إذا اتَّبَع أثره وأدركهُ، أو لم يدركهُ، وكذلك قال أبُو زيدٍ، وقرأ قتادة: "فاتبعهم" بوصل الألف وقيل: اتبعهُ - بوصل الألف في الأمْرِ - اقتدى به، وأتبعه بقطع خيراً وشرّاً. هذا قولُ أبي عمرو. وقيل: بمعنى واحدٍ.
قوله: "بَغْياً وَعَدْواً" يجُوزُ أن يكونا مفعولين من أجلهما أي: لأجل البغيْ والعَدْوِ، وشروط النَّصب متوفرةٌ، ويجُوزُ أن يكونا مصدرين في موضع الحال أي: باغين متعدِّين.
وقرأ الحسنُ "وُعدواً" بضمِّ العين، والدَّالِ المشدَّدةِ، وقد تقدَّم ذلك في سُورة الأنعام [الأنعام:108]، وقوله: "حَتَّىٰ إِذَآ": غاية لاتباعه.
قوله: "آمَنتُ أَنَّهُ" قرأ الأخوان بكسر "إنَّ" وفيها أوجه:
أحدها: أنَّها استئنافُ إخبار؛ فلذلك كسرت لوقوعها ابتداء كلامٍ.
والثاني: أنَّه على إضمار القول أي: فقال إنَّهُ، ويكون هذا القول مفسراً لقوله: "آمنتُ".
والثالث: أن تكون هذه الجملة بدلاً من قوله: "آمنتُ"، وإبدالُ الجملة الاسميَّة من الفعليَّة جائزٌ، لأنَّها في معناها، وحينئذٍ تكون مكسورة؛ لأنَّها محكيَّة بـ "قَالَ" هذا الظاهرُ.
والرابع: أنَّ "آمنتُ" ضُمِّنَ معنى القول؛ لأنَّه قولٌ. وقال الزمخشريُّ: "كرَّر المخذولُ المعنى الواحد ثلاث مرَّاتٍ في ثلاثِ عباراتٍ حِرْصاً على القبول".
يعني أنه قال: "آمنتُ" فهذه مرَّة، وقال: { أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } فهذه مرة ثانية. وقال: { وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ } فهذه ثالثةٌ، والمعنى واحد.
وهذا جنوحٌ منه إلى الاستئناف في "إنَّه". وقرأ الباقون بفتحها وفيها أوجه:
أحدها: أنَّها في محلِّ نصب على المفعول به أي: آمنتُ توحيد الله؛ لأنَّه بمعنى صدَّقْتُ.
الثاني: أنَّها في موضع نصب بعد إسقاط الجارِّ أي: لأنَّه.
الثالث: أنَّها في محلِّ جرٍّ بذلك الجارِّ وقد تقدَّم ما فيه من الخلاف [يونس:2].
فصل
لمَّا أجاب الله دعاءهما، أمر بني إسرائيل بالخروج من مصر، وكان فرعونُ غافلاً عن ذلك؛ فلمَّا سمع بخروجهم "أتْبَعَهُمْ" أي: لحقهُم، "بَغْياً وعَدْواً" أي: ظلماً واعتداءً. وقيل: بَغْياً في القولِ، وعدواً في الفعل، وكان البَحْرُ قد انفلق لموسى وقومه فدخلوا، وخرجوا، وأبقى الله تعالى ذلك الطريق يبساً، ليطمع فرعون، وجنودهُ في العُبُور، فلمَّا دخل مع جمعه، ودخل آخرهم، وهمَّ أوَّلهم بالخروج، انطبق عليهم البحرُ فلمَّا "أدْرَكَهُ الغرقُ" أي: غمره الماء، وقرب هلاكه "قال آمَنْتُ".
فإن قيل: إنَّ الإنسان إذا وقع في الغرق لا يمكنه أن يتلفَّظ بهذا اللفظ، فكيف حكى الله عنه أنَّهُ ذكر ذلك؟.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّ الكلام الحقيقيَّ هو كلام النَّفْسِ لا كلام اللسان، فذكر هذا الكلام بالنفس.
الثاني: أن يكون المرادُ بالغرق مقدماته.
فإن قيل: إنَّه آمن ثلاث مرات على ما تقدم عن الزمخشري، فما السَّببُ في عدم القبولِ؟
فالجواب: من وجوهٍ:
أحدها: أنَّهُ إنَّمَا آمن عند نزول العذاب، والإيمان في هذا الوقت غير مقبول، قال تعالى:
{ { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [غافر:85].
الثاني: إنَّما ذكر هذه الكلمة ليتوسَّل بها إلى دفع تلك البلية الحاضرة، ولم يكن مقصودهُ بالكلمة الإقرار بوحدانية الله تعالى، فلم يَكُنْ مُخْلِصاً.
وثالثها: أنَّ ذلك الإقرار كان تقليداً، فإنهُ قال: { لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } فكأنه اعترف بأنَّه لا يعرفُ الله، وإنَّما سمع من بني إسرائيل أنَّ للعالم إلهاً، فهو أقَرّ بذلك الإله الذي سمع بني إسرائيل يُقرُّونَ بوجوده، وهذا محضُ التَّقليدِ، وفرعون قيل إنَّهُ كان من الدَّهرية المنكرين لوجود الصَّانع، ومثل هذا الاعتقاد الفاحش لا يزولُ إلاَّ بالحُجَّةِ القطعيَّة، لا بالتَّقليد المحضِ.
ورابعها: أنَّ بعض بني إسرائيل لمَّا جاوزوا البحر عبدُوا العجل، فلما قال فرعون: { آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } انصرف ذلك إلى العجلِ الذي آمنوا بعبادته، فكانت هذه الكلمةُ في حقه سبباً لزيادة كُفْره.
وخامسها: أنَّ أكثر اليهُودِ يقولون بالتَّشبيه والتَّجْسِيم، ولهذا اشتغلوا بعبادة العجل لظنِّهم أنَّهُ تعالى في جسد ذلك العجل، فلمَّا قال فرعونُ: { آمَنتُ أَنَّهُ لاۤ إِلِـٰهَ إِلاَّ ٱلَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنوۤاْ إِسْرَائِيلَ } فكأنَّهُ آمن بالله الموصوف بالجسميَّة، والحلول والنُّزول، ومن اعتقد ذلك؛ فهو كافرٌ، فلذلك ما صحَّ إيمانُهُ.
وسادسها: أنَّ الإيمان إنَّما يتمُّ بالإقرارِ بوحدانية الله، والإقرار بنُبُوَّةِ موسى - عليه الصلاة والسلام - فلمَّا أقرَّ فرعونُ بالوحدانية، ولمْ يقر بنبوَّةِ موسى لم يصحَّ إيمانه؛ كما لو قال الكافر ألف مرة: أشهد أن لا إله إلاَّ الله لم يصح إيمانه حتى يقول معه: وأشهدُ أنَّ محمداً رسول الله، فكذا ههنا.
وسابعها: روى الزمخشري أنَّ جبريل - عليه السلام - أتى فرعون مُستفتياً: ما قولُ الأمير في عبدٍ نشأ من مالِ مولاهُ ونعمته، فكفر بنعمته وجحد حقَّه، وادَّعَى السِّيادة دونهُ؟ فكتب فرعون يقول: أبو العباس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيده، الكافر بنعمته أن يغرق في البحر، ثمَّ إنَّ فرعون لما غرق؛ رفع جبريل عليه السلام فتياه إليه.
قوله: "الآن" منصوبٌ بمحذوفٍ أي: آمَنْتَ الآن، أو اتُؤمن الآن.
وقوله: "وقَدْ عَصَيْتَ" جملةٌ حالية، تقدَّم نظيرها.
واختلفوا في قائل هذا الكلام، فقيل: هو جبريلُ، وإنَّما قال: { وَكُنتَ مِنَ ٱلْمُفْسِدِينَ } في مقابلة قوله { وَأَنَاْ مِنَ ٱلْمُسْلِمِينَ }. وقيل: القائلُ هو الله تعالى؛ لأنَّه قال بعدهُ: { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } إلى أن قال: { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ }، وهذا ليس إلاَّ كلام الله تعالى.
فإن قيل: ظاهرُ اللفظ يدلُّ على أنَّه إنَّما لم تقبل التوبة للمعصية المتقدمة، والفساد السَّابق، وهذا التعليلُ لا يمنعُ من قبول التوبةِ.
فالجوابُ من وجهين:
الأول: أنَّ قبول التَّوبةِ غير واجب عقلاً، ويدُلُّ عليه هذه الآيةُ.
الثاني: أنَّ التعليل ما وقع لمجرَّد المعصية السَّابقة، بل بتلك مع كونه من المفسدين.
فصل
روي أن جبريل - عليه السلام - أخذ يملأ فمه بالطِّين لئلاَّ يتوب غضباً عليه والأقربُ أنَّ هذا لا يصحُّ؛ لأنَّه في تلك الحالِ إمَّا أن يقال التكليف كان ثابتاً، أو ما كان ثابتاً، فإن كان ثابتاً لم يجز لجبريل أن يمنعه من التوبة، بل يجبُ عليه أن يعينه على التوبةِ، وعلى كُلِّ الطَّاعات، لقوله تعالى:
{ { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلْبرِّ وَٱلتَّقْوَىٰ وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلإِثْمِ وَٱلْعُدْوَانِ } [المائدة:2] وأيضاً، فلو منعه بما ذكر لكانت التَّوبة ممكنةً؛ لأنَّ الأخرس قد يتوبُ بأن يندمَ بقلبه ويعزم على ترك معاودة القبيح، فلا يبقى لما فعله جبريل فائدة، وأيضاً لو منعه من التوبة لكان قد رضي ببقائه على الكفر، والرِّضا بالكفر كفر وأيضاً كيف يليق بالله تعالى أن يقول لموسى وهارون - عليهما الصلاة والسلام - { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَىٰ } [طه:44] ثُمَّ يأمُرُ جبريل أن يمنعهُ من الإيمان.
فإن قيل: إنَّ جبريل إنَّما فعل ذلك من قبل نفسه لا بأمر الله، فهذا يبطله قول جبريل:
{ { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [مريم:64] وقوله تعالى في صفة الملائكة: { { لاَ يَسْبِقُونَهُ بِٱلْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [الأنبياء:27].
وإن قيل إنَّ التكليف كان زائلاً عن فرعون في ذلك الوقت، فلا يبقى للفعل المنسوب لجبريل فائدة أصلاً.
قوله: { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ } في "بِبدنِكَ" وجهان:
أحدهما: أنَّها باء المصاحبةِ بمعنى مصاحباً لبدنك، وهي الدَّرْع، فيكونُ "بِبدنِكَ" في موضع الحالِ.
قال المفسِّرُون: لمْ يُصدِّقُوا بغرقه، وكانت لهُ دِرْعٌ تعرفُ فألقي بنجوة من الأرض، وعليه درعهُ ليعرفوهُ، والعربُ تطلقُ البدنَ على الدِّرع، قال عمرو بن معد يكرب: [الوافر]

2935- أعَاذِل شِكَّتِي بَدَنِي وسَيْفِي وكُلُّ مُقلَّصٍ سَلِسِ القِيَادِ

وقال آخرُ: [الوافر]

2936- تَرَى الأبْدانَ فِيهَا مُسْبَغَاتٍ عَلى الأبْطَالِ واليَلَبَ الحَصِينَا

أراد بالأبدان: الدُّرُوع، واليَلَبُ: الدروع اليمانية كانت تتخذ من الجلود يُخْرَزُ بعضها إلى بعض، وهو اسم جنس، الواحد: يَلَبَةٌ.
وقيل: بِبدنِكَ أيك عُرْيَان لا شيء عليه، وقيل: بَدَناً بلا رُوحٍ.
والثاني: أن تكون سببيَّة على سبيل المجاز؛ لأنَّ بدنهُ سببٌ في تنجيته، وذلك على قراءةِ ابن مسعود وابن السَّمَيْفَع "بِندَائِكَ" من النِّداءِ، وهو الدُّعاء: أي: بما نادى به في قومه من كفرانه في قوله:
{ { وَنَادَىٰ فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ } [الزخرف:51] { { فَحَشَرَ فَنَادَىٰ فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات:23، 24] { { يٰأَيُّهَا ٱلْملأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرِي } [القصص:38]. وقرأ يعقوب "نُنْجِيكَ" مخففاً من أنجاه. وقرأ أبو حنيفة: "بأبْدانِكَ" جمعاً: إمَّا على إرادةِ الأدْرَاع، لأنَّهُ كان يلبسُ كثيراً منها خوفاً على نفسه، أو جعل كُلَّ جُزءٍ من بدنه بدناً كقوله: "شَابَتْ مَفارِقُهُ"؛ قال: [الكامل]

2937-........................ شَابَ المَفارِقُ واكتَسَيْْنَ قتيرَا

وقرأ ابن مسعود، وابن السَّميْفَع، ويزيد البربريّ نُنَحِّيكَ بالحاء المهملةِ من التَّنْحِيةِ أي: نُلْقيكَ فيما يلي البحر، قال المفسرون: رماه إلى ساحل البحرِ كالثَّور. وهل تُنَجِّيك من النجاة بمعنى نُبْعِدك عمَّا وقع فيه قومُكَ من قَعْرِ البحر، وهو تهكُّم بهم، أو مِنْ ألقاه على نجوة أي: رَبْوة مرتفعة، أو من النَّجاة، وهو التَّرْكُ أو من النَّجاءِ، وهو العلامة، وكلُّ هذه معانٍ لائقة بالقصَّة، والظَّاهرُ أنَّ قولهُ: { فَٱلْيَوْمَ نُنَجِّيكَ } خبرٌ محض. وزعمَ بعضُهُم أنَّه على نيَّة همزةِ الاستفهامِ، وفيه بعدٌ لحذفها من غير دليلٍ، ولأنَّ التعليل بقوله "لِتكُون" لا يُناسِبُ الاستفهام. و "لِتَكُونَ" متعلقٌ بـ "نُنَجِّيكَ" و "آيَةً" أي: علامة وقيل: عِبْرةً وعِظَةً، و "لِمَنْ خَلْفكَ" في محلِّ نصبٍ على الحالِ من "آيَةً" لأنَّه في الأصل صفةٌ لها.
وقرأ بعضهم "لِمَنْ خلقك" آية كسائر الآيات. وقرئ "لِمَن خلَفكَ" بفتح اللاَّم جعله فعلاً ماضياً، أي: لِمَنْ خلفكَ من الجبابرة ليتَّعِظُوا بذلك. وقرىء "لِمَنْ خلقَكَ" بالقاف فعْلاً ماضياً، وهو الله تعالى أي: ليجعلك الله آية له في عباده.
فصل
في كونه "لِمَنْ خلفه آيةً" وجوه:
أحدها: أنَّ الذين اعتقدُوا إلاهيته لمَّا لم يُشَاهدُوا غرقه كذَّبُوا بذلك، وزعموا أنَّ مثله لا يموت، فأخرجه الله تعالى بصورته حتى أبصروه وزالت الشُّبْهةُ عن قلوبهم.
الثاني: أنَّه تعالى أراد أن يشاهده الخلق على ذلك الذل والمهانة بعد ما سمعوا منه قوله:
{ أَنَاْ رَبُّكُمُ ٱلأَعْلَىٰ } [النازعات:24] ليكون ذلك زَجْراً للخَلْقِ عن مثل طريقته.
الثالث: أنه تعالى لمَّا أغرقه مع جميع قومه، ثُمَّ إنَّه تعالى ما أخرج أحداً منهم من قَعْر البَحْرِ، بل خصَّهُ بالإخراج كان تخصيصه بهذه الحالة عجيبة دالة على قدرة الله تعالى، وعلى صدق موسى - عليه الصلاة والسلام - في دعوة النبوَّةِ.
الرابع: تقدم في قراءة من قرأ لمن خالقك بالقاف أي لتكون لخالقك آية كسائر آياته.
ثم قال تعالى { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ ٱلنَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } والظَّاهرُ أنَّ هذا الخطاب لأمة محمد - عليه الصلاة والسلام - زجراً لهم عن الإعراض عن الدَّلائل، وباعثاً لهم على التأمُّلِ فيها والاعتبار بها، كما قال تعالى:
{ { لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِي ٱلأَلْبَابِ } [يوسف:111].