التفاسير

< >
عرض

وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ
٩
وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ
١٠
إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ ٱلصَّالِحَاتِ أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ
١١
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ وَٱللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ
١٢
أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَٰتٍ وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ
١٣
فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلَ بِعِلْمِ ٱللَّهِ وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ
١٤
-هود

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } الآية.
لما ذكر أنَّ عذاب الكُفَّار وإن تأخَّر لا بد أن يحيق بهم، ذكر بعدهُ ما يدلُّ على كفرهم، وعلى كونهم مستحقين لهذا العذاب، فقال: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ }. وقيل: المراد منه مطلق الإنسان؛ لأنَّه استثنى { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ }؛ ولأنه موافق لقوله تعالى:
{ إِنَّ ٱلإِنسَانَ لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ ٱلَّذِينَ آمَنُواْ } [العصر:2، 3] { إِنَّ ٱلإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً } [المعارج:19] ولأنَّ مزاج الإنسان مجبولٌ على الضَّعف والعجز.
قال ابنُ جريج في تفسير هذه الآية: يا ابنَ آدم إذا نزلت بك نعمةٌ من الله، فأنت كفورٌ، وإذا نزعت منك فيئوسٌ قنوط.
وقيل: المرادُ به الكافر؛ لأنَّ الأصل في المفرد المعرف بالألف واللاَّم أن يعود على المعهود السَّابق إلاَّ أن يمنع مانع منه، وههنا لا مانع؛ فوجب حمله على المعهود السابق، وهو الكافر المذكور في الآية المتقدمة.
وأيضاً فالصِّفاتُ المذكورة في الإنسان هنا لا تليقُ إلاَّ بالكافر؛ لأنَّهُ وصفهُ بكونه كفوراً، وهو تصريح بالكفر، ووصفه عند وجدان الراحة بقوله: { ذَهَبَ ٱلسَّيِّئَاتُ عَنِّيۤ } وذلك جراءة على الله تعالى، ووصفه بكونه فرحاً
{ إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يُحِبُّ ٱلْفَرِحِينَ } [القصص:76] وصفه بكونه فخوراً، وذلك ليس من صفات أهل الدِّين. وإذا كان كذلك؛ وجب حمل الاستثناء المذكور في هذه الآية على الاستثناء المنقطع. واعلم أنَّ لفظ "الإذَاقة والذَّوق" يفيدُ أقل ما يوجدُ من الطَّعم، فكان المراد أنَّ الإنسان بوجدان أقل القليل من الخير في العاجلة يقعُ في الكفر والطُّغيان وبإدراك أقل القليل من البلاءِ يقع في اليأس والقنوط، قال تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً } نعمة وسعة { ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ } سلبناها منه { إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } في الشِّدة كفور بالنعمة.
{ وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ } قال الوَاحديُّ: النَّعْمَاء إنعام يظهر أثرهُ على صاحبه، والضَّرَّاءُ مضرَّةٌ يظهر أثرها على صاحبها؛ لأنَّها أخرجت مخرج الأحوال الظاهرة نحو: حمراء وسوداء، وهذا هو الفرق بين النِّعمةِ والنَّعماء، والمضرة والضَّراء.
والمعنى: إذا أذقناه نعمة بعد بلاء أصابه: "ليقُولنَّ ذهبَ السيِّئاتَ عنِّي" زالت الشَّدائدُ عنِّي، إنَّهُ لفرحٌ فخورٌ أشر بطر، والفرح: لذَّة في القلب بنيل المشتهى. والفخرُ: هو التطاول على الناس بتعديد المناقب، وذلك منهيٌّ عنه.
فصل
اعلم أنَّ أحوال الدنيا أبداً في التَّغير والزَّوال، والتحوُّل والانتقال، فإمَّا أن يتحوَّل الإنسانُ من النِّعمة إلى المِحْنةِ أو العكس.
فأمَّا الأوَّلُ: فهو المراد بقوله عز وجل: { وَلَئِنْ أَذَقْنَا ٱلإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ } [هود:9] أي أنه حال زوال تلك النعمة يصير يَئُوساً؛ لأنَّ الكافر يعتقدُ أنَّ السبب في حصول تلك النِّعمة سببٌ اتفاقي، ثُمَّ إنه يستبعد حدوث ذلك الاتفاق مرة أخرى، فلا جرم يستبعد تلك النعمة فيقع في اليأسِ. وأمَّا المسلمُ، فيعتقد أنَّ تلك النِّعمة إنَّما حصلت من فضل الله وإحسانه، فلا ييأس، بل يقول لعلَّه يؤخِّرها إلى ما هو أحسن، وأكمل ممَّا كانت، وأمَّا الإنسان يكونُ كفوراً حال تلك النعمة، فإنَّ الكافر لمَّا اعتقد أنَّ حصولها كان على سبيل الاتفاق، أو أنَّهُ حصلها بجدِّه واجتهاده، فحينئذٍ لا يشتغل بشكرِ الله على تلك النِّعمة والمسلم يشكر الله تعالى.
والحاصلُ أنَّ الكافر يكون عند زوال النِّعمة يئوساً وعند حصولها كفوراً.
وأمَّا انتقال الإنسان من المحنة إلى النِّعمة، فالكافرُ يكون فرحاً فخوراً؛ لأنَّ منتهى طبع الكافر هو الفوزُ بهذه السَّعادات الدُّنيوية، وهو منكرٌ للسعادات الأخرويَّة.
قوله: "لفرحٌ" قرأ الجمهو بكسر الرَّاءِ، وهو قياسُ اسم الفاعل من "فَعِلَ" اللاَّزم بكسر العين نحو: أشِرَ فهو أشِرٌ، وبَطِرَ فهو بَطِرٌ، وقرئ شاذاً "لَفَرُحٌ" بضمِّ الرَّاء نحو: يَقِظٌ ويَقُظٌ، وندِس وندُس.
قوله: { إِلاَّ ٱلَّذِينَ صَبَرُواْ } فيه ثلاثة أوجه:
أحدها: أنَّهُ منصوبٌ على الاستثناء المتَّصل، إذا المرادُ به جنس الإنسان لا واحدٌ بعينه.
والثاني: أنَّهُ منقطعٌ، إذ المراد بالإنسان شخصٌ معينٌ، وهو على هذين الوجهين منصوبُ المحلِّ.
والثالث: أنه مبتدأ، والخبر الجملة من قوله: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } وهو منقطعٌ أيضاً. والمعنى: أنَّ هؤلاء لا يكُونُون عند البلاء من الصَّابرين وعند الرَّاحةِ والخير من الشَّاكرين.
قال الفراء: هو استثناءٌ منقطع معناه: لكن الذين صبروا وعملوا الصَّالحات؛ فإنَّهم إن يأتهم شدة صبروا، وإن نالوا نعمة شكروا.
ثم قال: { أُوْلَـٰئِكَ لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } يجوزُ أن يكون "مَغْفِرةٌ" مبتدأ، و"لهُم" الخبرُ، والجملة خبر "أولئكَ"، ويجوز أن يكون "لَهُم" خبر "أولئكَ" و "مَغْفِرَةٌ" فاعلٌ بالاستقرار. فجمع لهم بين شيئين:
أحدهما: زوال العقاب بقوله: "لَهُم مَغْفرةٌ" والثاني: الفوز بالثَّواب بقوله "وأجْرٌ كبيرٌ".
قوله: "فَلَعَلَّكَ" الأحسنُ أن تكون على بابها من التَّرجِّي بالنسبة إلى المخاطب.
وقيل: هي للاستفهام كقوله - صلوات الله وسلامه عليه -
"لعلَّنا أعْجلنَاكَ" .
فإن قيل: "فَلعَلَّك" كلمة شك فما فائدتها؟.
فالجوابُ: أنَّ المراد منها الزَّجرُ، والعرب تقول للرجلُ إذا أرادوا إبعاده عن أمر: لعلك تقدر أن تفعل كذا مع أنَّهُ لا شك فيه، ويقول لولده: لعلك تقصر فيما أمرتك، ويريد توكيد الأمر فمعناه لا تترك.
وقوله: "وضَائِقٌ" نسقٌ على "تَاركٌ"، وعدل عن "ضيِّق" وإن كان أكثر من "ضائق".
قال الزمخشريُّ: ليدُلَّ على أنَّهُ ضيِّق عارضٌ غيرُ ثابتٍ، ومثله سيدِّ وجواد - تريد السِّيادة والجود الثَّابتين المستقرين - فإذا أردت الحدوث قلت: سائِدٌ وجائدٌ.
قال أبُو حيَّان: وليس هذا الحكمُ مختصّاً بهذه الألفاظ؛ بل كلُّ ما بني من الثلاثي للثبوتِ والاستقرارِ على غير فاعل رُدَّ إليه إذا أريد به معنى الحدوث تقول: حَاسِن وثَاقِل وسامِن في: "حَسُن وثقُلَ وسمُن"؛ وأنشد قول الشاعر: [الطويل]

2946- بمَنْزِلَةٍ أمَّا اللَّئِيمُ فسَامِنٌ بهَا وكرامُ النَّاسِ بادٍ شُحُوبُهَا

وقيل: إنَّما عدل عن "ضيِّق" إلى "ضَائِقٌ" ليناسب وزن "تَارِكٌ".
والهاءُ في "به" تعود على "بعض". وقيل: على "ما". وقيل: على التَّكذيب و "صَدْرُكَ" مبتدأ مؤخَّرٌ، والجملةُ خبرٌ عن الكاف في "لعَلَّكَ"؛ فيكون قد أخبر بخبرين:
أحدهما: مفرد، والثاني: جملة عطفت على مفردٍ، إذ هي بمعناه، فهو نظير: "إنَّ زيداً قائمٌ، وأبوه منطلقٌ".
قوله: "أن يقُولُوا" في محلِّ نصبٍ أو جرٍّ على الخلاف المشهور في "أنَّ" بعد حذف حرف الجرِّ أو المضاف، تقديره: كراهة أو مخافة أن يقولوا، أو لئلاَّ يقولوا، أو بأن يقولوا.
وقال أبو البقاء: لأن يقُولُوا أي: لأن قالوا، فهو بمعنى الماضي وهذا لا حاجة إليه، وكيف يُدَّعى ذلك فيه ومعه ما هو نصٌّ في الاستقبال وهو الناصب؟.
و "لَوْلاَ" تحضيضيةٌ، وجملة التَّحضيض منصوبةٌ بالقول.
فصل
المعنى: فلعلَّك يا محمد تارك بعض ما يوحى إليك، فلا تبلغة إيَّاهم، وذلك أن كفار مكة قالوا: ائتِ بقرآن غير هذا، ليس فيه سب آلهتنا، فهمَّ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - وشرف وكرم وبجل ومجد وعظم - أن يدع آلهتهم ظاهراً؛ فأنزل الله تعالى: { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } يعنى سب الآلهة: { وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ } أي: ولعلَّ يضيق صدرك { أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَآءَ مَعَهُ مَلَكٌ } يصدِّقه، قاله عبد الله بنُ أميَّة المخزُومي.
وروي عن ابن عباس - رضي الله عنهما - أنَّ رؤساء مكَّة قالوا: يا محمد: اجعل لنا جبال مكة ذهباً إن كنت رسولاً، وقال آخرون: ائتنا بالملائكة يشهدون بنبوتك، فقال: لا أقدر على ذلك فنزلت هذه الآية.
وأجمع المسلمون على أنَّهُ لا يجوزُ على الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يخُون في الوَحْي والتبليغ، وأن يترك بعض ما يوحى إليه؛ لأنَّ تجويزه يُؤدِّي إلى الشَّك في كل الشرائع وذلك يقدحُ في النبوةِ، وأيضاً فالمقصودُ من الرِّسالة تبليغ التكاليف، والأحكام، فإنه لم تحصل هذه الفائدة فقد خرجت الرسالة عن أن تفيد فائدتها.
وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون المرادُ من قوله: { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } شيئاً آخر سوى أنه فعل ذلك. وذكروا فيها وجوهاً أخر، قيل: إنَّهم كانوا لا يقبلون القرآن ويتهاونون به، فكان يضيق صدر الرسول - عليه الصلاة والسلام - أن يلقي إليهم ما لا يقبلونه ويضحكون منه، فأهله الله لأداء الرِّسالة، وطرح المبالاة بكلماتهم الفاجرة، وترك الالتفات إلى استهزائهم، والغرض منه التنبيه على أنه إذا أدَّى ذلك الوحي وقع في سفاهتهم، وإن لم يُؤد ذلك وقع في ترك وحي الله - تعالى - وفي إيقاع الخيانةِ، وأنه لا بد من تحمل أحد الضَّررين؛ فتحمل ضرر سفاهتهم أسهل من تحمل الخيانة في وَحْي الله، والغرض من ذكر هذا الكلام: التنبيهُ على هذه الدقيقة؛ لأنَّ الإنسان إذا علم أنَّ كلَّ واحدٍ من طرفي الفعل والترك مشتملٌ على ضررٍ عظيم، على أنَّ الضرر في جانب الترك أعظم وأقوى سهل عليه ذلك الفعل وخف.
فإن قيل: الكنز كيف ينزل؟
فالجواب: أنَّ المراد ما يكنز، وجرت العادة على أنَّ المال الكثير يسمَّى كنزاً، فقال القومُ: إن كنت صادقاً في أنَّك رسول الله الذي تصفه بالقدرة على كلِّ شيء وأنك عزيزٌ عنده فهلاَّ أنزل عليك ما تستغني به في مهماتك وتعين أنصارك، وإن كنت صادقاً فهلاَّ أنزل الله معك ملكاً يشهد لك على صدق قولك، ويعينك على تحصيل مقصودك وتزول الشبهة في أمرك، فلمَّا لم يفعل لك ذلك فأنت غير صادقٍ، فبيَّن الله تعالى أنَّهُ رسول ينذر بالعقاب ويبشر بالثَّواب وليس له قدرة على إيجاد هذه المطلوبات، والذي أرسله هو القادرُ على ذلك فإن شاء فعل وإن شاء لم يفعل، ولا اعتراض لأحدٍ عليه.
ومعنى "وكيلٌ": حفيظ أي: يحفظُ عليهم أعمالهم، حتى يجازيهم بها، ونظير هذه الآية، قوله تعالى:
{ { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ ٱلأَرْضِ يَنْبُوعاً } [الإسراء:90] إلى قوله: { { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [الإسراء:93].
قوله تعالى: { أَمْ يَقُولُونَ ٱفْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } [هود:13].
لمَّا طلبوا منه المعجز قال: معجزتي هذا القرآن، فلمَّا حصل المعجز الواحد كان طلب الزِّيادة بغياً وجهلاً.
و في "أمْ" هذه وجهان:
أحدهما: أنها منقطعةٌ فتقدَّر بـ "بَلْ" والهمزة، فالتقدير: بل أتقولون افتراه. والضمير في "افتراهُ" لما يوحى.
والثاني: أنَّها متصلة، فقدَّروها بمعنى: أيكفرون بما أوحينا إليك من القرآن أم يقولون إنَّهُ ليس من عند الله؟
قوله "مِثْلِهِ" نعت لـ "سُورٍ" و "مثل" وإن كانت بلفظ الإفراد فإنه يوصف بها المثنى والمجموع والمؤنث، كقوله تعالى:
{ { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا } [المؤمنون:74] ويجوز المطابقة. قال تعالى: { { وَحُورٌ عِينٌ كَأَمْثَالِ } [الواقعة:22، 23] وقال تعالى: { { ثُمَّ لاَ يَكُونُوۤاْ أَمْثَالَكُم } [محمد:38].
قال ابن الخطيب: "مِثلِهِ" بمعنى "مثاله" حملاً على كُلِّ واحدة من تلك السور، ولا يبعد أيضاً أن يكون المرادُ المجموع؛ لأنَّ مجموع السور العشرة شيء واحد. والهاء في "مِثْلِهِ" تعود لما يوحى أيضاً، و "مُفْترياتٍ" صفة لـ "سُورٍ" جمع "مُفْتراة" كـ "مُصْطفيَات" في "مُصْطَفاة" فانقلبت الألفُ ياءً كالتثنية.
فصل
قال ابنُ عباسٍ - رضي الله عنهما - هذه السور التي وقع بها التَّحدي سور معينة، هي سورة البقرة وآل عمران والنساء، والمائدة، والأنعام، والأعراف، والأنفال، والتوبة، ويونس وهود، فقوله عز وجل: { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ } الإشارة إلى هذه السور وهذا فيه إشكال، لأنَّ هذه السُّورة مكية، وبعض السُّور المتقدمة مدنية، فكيف يمكنُ أن يكون المراد هذه العشر عند نزول هذا الكلام؟ فالأولى أن يقال التحدي وقع بمطلق السور.
فإن قيل: قد قال في سورة يونس
{ { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [يونس:38] وقد عجزوا عنهُ. فكيف قال { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ } فهو كرجل يقول لآخر: أعطني درهماً؛ فيعجز، فيقول: أعطني عشرة؟.
فالجوابُ: قد قيل: نزلت سورة هودٍ أولاً، وأنكر المبردُ هذا وقال: بل سورة يونس أولاً، وقال: ومعنى قوله في سورة يونس:
{ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ } [يونس:38] أي: مثله في الإخبار عن الغيب، والأحكام، والوعد والوعيد، فعجزوا، فقال لهم في سورة هودٍ: إن عجزتم عن الإتيان بسورة مثله في الإخبار، والأحكام، والوعد، والوعيد (فأتوا بعشر سور مثله) من غير وعْدٍ ووعيدٍ، وإنما هي مجرد بلاغة.
فصل
اختلفوا في الوجه الذي كان القرآن لأجله معجزاً، فقيل: هو الفصاحةُ وقيل: الأسلوب، وقيل: عدم التناقض، وقيل: اشتمالهُ على الإخبار عن الغيوبِ، والمختار عند الأكثرين أن القرآن معجز من جهة الفصاحة، واستدلُّوا بهذه الآية، لأنَّهُ لو كان إعجازه هو كثرة العلوم، أو الإخبار عن الغيوب، أو عدم التناقض لم يكن لقوله: "مفترياتٍ" معنى، أمَّا إذا كان وجه الإعجاز هو الفصاحة صحَّ ذلك؛ لأنَّ فصاحة الفصيح تظهر بالكلام، سواء كان الكلام صدقاً أو كذباً، ثم إنه لمَّا قرر وجه التحدِّي قال: { وَٱدْعُواْ مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ } واستعينوا بمن استطعتم "من دُون الله إن كنتم صادقينَ فإن لمْ يستجيبُوا لكُم" يا أصحاب محمد، وقيل: لفظه جمع والمراد به الرسول - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه وحده - والمرادُ بقوله: { فَإِن لمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } أي: الكفار، يحتمل أنَّ من يدعونه من دون الله لمْ يَسْتَجِيبُوا.
قوله: { فَٱعْلَمُوۤاْ أَنَّمَآ أُنزِلِ } "ما" يجوز أن تكون كافة مهيئة، وفي "أنزِلَ" ضميرٌ يعودُ على { مَا يُوحَىٰ إِلَيْكَ } [هود:12]، و "بعلْم" حال أي: ملتبساً بعلمه، ويجوز أن تكون موصولة اسمية أو حرفية اسماً لـ "أنّ" والخبرُ الجارُّ تقديره: فاعلموا أن تنزيله، أو أن الذي أنزل ملتبسٌ بعلمٍ.
وقرأ زيد بن علي "نزَّل" بفتح النون والزاي المشددة، وفاعل "نزَّل" ضميرُ الله تعالى، و { وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } نسقٌ على "أنَّ" قبلها، ولكن هذه مخففةٌ فاسمها محذوفٌ، وجملة النَّفي خبرها.
فصل
إن قلنا هذا خطاب للمؤمنين، فالمعنى: ابقوا على العلم الذي أنتم عليه؛ لتزدادوا يقيناً وثبات قدمٍ، على أنه منزَّل من عند الله.
وقوله: { فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي: مخلصون، وقيل: فيه إضمار، أي: فقولوا أيُّها المسلمون للكفار: اعلموا أنَّما أنزل بعلم الله، يعني القرآن.
وقيل: أنزله، وفيه علمه، وإن قيل: إن هذا الخطاب مع الكفار، فالمعنى: إن الذين تدعونهم من دون الله، إذا لم يستجيبوا لكم في الإعانة على المعارضة، فاعلموا أيها الكفار؛ أن هذا القرآن، إنما أنزل بعلمه، فهل أنتم مسلمون، فقد وقعت الحجة عليكم، وأن لا إله إلا هو، فاعلموا أنَّهُ لا إله إلا هُو.
{ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } لفظهُ استفهام، ومعناه أمر، أي: أسلموا.
قال بعض المفسِّرين: وهذا القول أولى؛ لأن القول الأول يحتاج فيه إلى إضمار القول، وهذا لا يحتاج إلى إضمار، وأيضاً: فعود الضمير إلى أقرب مذكور أولى، وأيضاً: فالخطابُ الأول كان مع الكفار بقوله: { مَنِ ٱسْتَطَعْتُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ }، وأيضاً فالأول أمر بالثبات.
فإن قيل: أين يعلَّق الشرط المذكور في هذه الآية، وأين ما فيها من الجزاء؟
فالجواب: أن القوم ادعوا كون القرآن مفترًى على الله تعالى، فقال: لو كان مفترًى على الله تعالى، لوجب أن يقدر الخلقُ على مثله، ولما لم يقدروا عليه، ثبت أنَّهُ من الله، فقوله (إنما أنزل بعلم الله): كنايةٌ عن كونه من عند الله، ومن قبله؛ كما يقول الحاكم: هذا الحكم جدير بعلمي.
فإن قيل: أي تعلُّق لقوله: { وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } بعجزهم عن المعارضة؟.
فالجواب من وجهين:
أحدهما: أنه تعالى لمَّا أمر محمداً - صلوات الله البر الرحيم وسلامه عليه - بأن يطلب من الكفار ان يستعينوا بالأصنامِ في تحقيق المعارضة ثم ظهر عجزهم عنها فحينئذ ظهر أنَّها لا تنفعُ ولا تضرُّ في شيءٍ من المطالب ألبتة، ومن كان كذلك، فقد بطلت إلهيته، فصار عجزُ القوم عن المعارضة بعد الاستعانة بالأصنام مبطلاً لإلهية الأصنام، ودليلاً على إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وشرف وكرم ومجد وبجل وعظم، فكان قوله: { وَأَن لاَّ إِلَـٰهَ إِلاَّ هُوَ } إشارة إلى ظهور فسادِ إلاهيَّة الأصنام.
وثانيها: أنَّهُ ثبت في علم الأصول أنَّ القول بنفي الشَّريك عن الله من المسائل التي يمكن إثباتها بقول الرَّسُول - صلوات الله وسلامه عليه - فكأنَّهُ قيل: لمَّا ثبت عجزُ الخصوم عن المعارضة ثبت كون القرآن حقاً، وثبت كون قول محمد صدقاً في دعوى الرِّسالةِ.
وإذا ثبت ذلك فأعلمهم يا محمد أن لا إله إلا هو، واتركُوا الإصرار على الكفر، واقبلوا الإسلام. ونظيره قوله تعالى - في سورة البقرة عند ذكر آية التحدِّي -
{ { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فَٱتَّقُواْ ٱلنَّارَ ٱلَّتِي وَقُودُهَا ٱلنَّاسُ وَٱلْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } [البقرة:24].