التفاسير

< >
عرض

مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ
١٥
أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ
١٦
-هود

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا } الآية.
قيل: إنَّها مختصةٌ بالكُفَّار لقوله: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [هود:16] وهذا ليس إلاَّ للكفار، فيكون التقدير: من كان يريد الحياة الدنيا وزينتها فقط، أي: تكون إرادته مقصورةٌ على حُبِّ الدنيا وزينتها، ومن طلب السعادات الأخرويَّة كان حكمه كذا وكذا.
واختلف القائلون بهذا القول فقال الأصم: المرادُ مُنْكِرُو البعث فإنَّهم ينكرون الآخرة ويرغبون في سعادات الدُّنيا.
وقيل: المراد المنافقون، كانوا يطلبون بغزوهم مع الرسول - عليه الصلاة والسلام - الغنائم من غير أن يؤمنوا بالآخرة.
وقال أنس - رضي الله عنه -: المرادُ اليهود والنَّصارى.
وقال القاضي: المراد من كان يريدُ بعمل الخير الحياة الدنيا وزينتها.
وعمل الخير قسمان:
العبادات وإيصال المنفعة إلى الحيوان كالبر، وصلة الرَّحمِ، والصَّدقة، وبناء القناطر، وتسوية الطرق، ودفع الشر، وإجراء الأنهار، فهذه الأشياء إذا أتى بها الكافرُ لأجل الثناء في الدُّنيا، فإنَّ بسببها تصل الخيرات والمنافع إلى المحتاجين، وهي من أعمال الخير، فقد تصدرُ من المسلم والكافر.
وأمَّا العباداتُ فإمَّا أن تكون طاعات بنيَّاتٍ مخصوصة، فإذا لمْ يؤتَ بتلك النِّية، وإنَّما أتى فاعلها بها طلباً لزينة الدنيا، وتحصيل الرِّياء والسمعةِ؛ فلا تكونُ طاعةً ووجودها كعدمها بل هو شر منها.
وعلى هذا فالمرادُ منه الطَّاعات التي يصحُّ صدورها من الكفار.
وقيل: الآية على ظاهرها في العموم؛ فيندرج فيه المؤمنُ الذي يأتِي بالطَّاعات رياءً وسمعةً ويندرج فيه الكافرُ الذي هذا صفته.
ويشكلُ على هذا قوله في آخر الآية { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ } إلاَّ إذا قلنا: إنَّ المراد: أولئك الذين ليس لهم في الآخرة إلا النار بسبب الأعمال الفاسدة، والأفعال الباطلة.
والقائلون بهذا القول أكَّدُوا قولهم بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -
"تعوَّذُوا بالله من جُبِّ الحُزْنِ قيل: وما جُبُّ الحُزنِ؟ قال: وادٍ في جَهَنَّمَ يُلْقَى فيه القُرَّاء المُراءُونَ" .
وقال - صلوات الله وسلامه عليه -: "أشدُّ النَّاسِ عذاباً يوْمَ القيامةِ مَنْ يَرَى النَّاسُ فيه خَيْراً ولا خَيْرَ فِيهِ" .
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - عن رسول الله صلى الله عليه وسلم "إذا كَانَ يَوْمَ القيامةِ يُؤتى برجُلٍ جَمَعَ القرآنَ فيقالُ: ما عَمِلْتَ فيه؟ فيقولُ: يا رب قُمْتُ بِهِ آنَاءَ اللَّيْلِ، والنَّهَارِ، فيقُول الله - تبارك وتعالى - كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقالَ: فلانٌ قارىءٌ، وقدْ قِيل ذلِكَ، ويُؤتى بصاحبِ المَالِ فيقولُ اللهُ عزَّ وجلَّ ألَمْ أوسِّعْ عليكَ؟ فماذا عَمِلْتَ فيما آتَيْتُكَ؟ فيقُولُ: وصَلْتُ الرَّحِمَ وتصدَّقْتُ، فيقُولُ: كذَبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال فلانٌ جوادٌ، وقد قِيلَ ذلك، ويُؤتى بمن قُتِلَ في سبيل الله فيقول: قاتَلْتُ في سَبِيل اللهِ حتَّى قُتِلْتُ، فيقُولُ اللهُ عزَّ وجلَّ كذبْتَ بَلْ أرَدْتَ أن يقال: فلانٌ فارسٌ.
ثم ضربَ رسُول الله صلى الله عليه وسلم ركبتي وقال: يا أبا هريرة أولئك الثَّلاثةُ أوَّلُ خَلْقٍ تُسَعَّرُ بِهِمُ النَّارُ يَوْم القِيامَةِ"
.
وقد روي أن أبا هريرة - رضي الله عنه - ذكر هذا الحديث عند معاوية - رضي الله عنه -. قال الراوي: فبكى حتَّى ظننا أنَّهُ هالك ثمَّ أفاق وقال: صدق الله ورسوله { مَن كَانَ يُرِيدُ ٱلْحَيَاةَ ٱلدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [هود:15].
فصل
نقل القرطبيُّ عن بعض العلماء:
أنَّ معنى هذه الآية: هو قوله صلى الله عليه وسلم:
"إنَّما الأعمالُ بالنِّياتِ" ، وهذا يدلُّ على من صام في رمضان لا عن رضمان لا يقعُ عن رمضان، وتدلُّ على أن من توضَّأ للتبرد والتنظف لا يقعُ عن جهة الصَّلاةِ، وكذلك كل من كان في معناه.
قوله: "نُوَفِّ".
الجمهور على "نُوفِّ" بنون العظمة وتشديد الفاء من "وفَّى يُوفِّي".
وطلحة وميمون بياءِ الغيبةِ، وزيد بن علي كذلك، إلاَّ أنَّه خفَّف الفاء من "أوْفَى يُوفِي"، والفاعلُ في هاتين القراءتين ضميرُ الله تعالى.
وقرئ "تُوفَّ" بضم التاء، وفتح الفاء مشددة من "وُفِّيَ يُوَفَّى" مبنياً للمفعول.
"أعْمَالهم" بالرَّفع قائماً مقام الفاعل. وانجزم "نُوَفِّ" على هذه القراءاتِ لكونه جواباً للشَّرطِ، كما في قوله تعالى:
{ { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ ٱلدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا } [الشورى:20].
وزعم الفرَّاء أنَّ "كان" هذه زائدة، ولذلك جزم جوابه، ولعلَّ هذا لا يصحُّ، إذ لو كانت زائدة لكان "يُرِيدُ" هو الشَّرط، ولو كان الشَّرط، لانجزم، فكان يقال: "مَنْ كَان يُرِدْ" وزعم بعضهم أنه لا يؤتى بفعل الشَّرط ماضياً، والجزاء مضارعاً إلاَّ مع "كان" خاصة، ولهذا لم يجىء في القرآن إلا كذلك، وهذا ليس بصحيح لوروده في غير "كان"؛ قال زهير: [الطويل]

2947- ومَنْ هَابَ أسْبابَ المنَايَا يَنَلْنَهُ ولو رَامَ أسبابَ السَّمَاءِ بسُلَّمِ

وأمَّا القرآنُ فجاء من باب الاتفاق لذلك.
وقرأ الحسنُ "نُوفِي" بتخفيف الفاء وثبوتِ الياء من "أوْفَى"، ثمَّ هذه القراءةُ محتملةٌ: لأن يكون الفعل مجزوماً، وقُدِّر جزمه بحذفِ الحركةِ المقدرة؛ كقوله: [الوافر]

2948- ألَمْ يَأتِيكَ والأنْبَاءُ تَنْمِي بِمَا لاقَتْ لبُونُ بَنِي زِيادِ

على أنَّ ذلك يأتي في السَّعةِ نحو: { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ } [يوسف:90] وسيأتي مُحَرَّراً في سورته، ويحتمل أن يكون الفعل مرفوعاً لوقوع الشَّرط ماضياً؛ كقوله: [الطويل].

2949- وإنْ شُلَّ ريْعَانُ الجَميعِ مَخَافَةً نَقُولُ جِهَاراً: ويْلَكُمْ لا تُنَفِّرُوا

وكقول زهير: [البسيط]

2950- وإنْ أتَاهُ خَلِيلٌ يَوْمَ مَسْألةٍ يقُولُ لا غَائِبٌ مالِي ولا حَرِمُ

وهل يجوزُ الرفع؛ لأنه على نيَّة التقديم، وهو مذهب سيبويه، أو على نيَّة الفاءِ، كما هو مذهب المبرد؛ خلافٌ مشهورٌ.
ومعنى { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } أي: نُوفِّ إليهم أجور أعمالهم في الدنيا بسعةِ الرزق ودفع المكاره وما أشبهها.
{ وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ } أي: في الدنيا لا ينقص حظهم.
"روى أنس - رضي الله عنه - أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وشرف ومجد وكرم وبجل وعظم قال: إنَّ الله لا يَظْلِمُ المؤمنَ حَسَنَةً يُثاب عليْهَا الرزقَ في الدُّنيا، ويُجْزَى عليها فِي الآخِرةِ، وأمَّا الكَافِرُ فيُطْعَمُ بِحسنَاتِهِ في الدُّنْيَا حتَّى إذا أفْضَى إلى الآخرةِ لمْ تَكُنْ لهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بها خَيْراً" .
قوله تعالى: { أُوْلَـٰئِكَ ٱلَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي ٱلآخِرَةِ إِلاَّ ٱلنَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } في الدنيا { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } هذه الآية إشارة إلى التَّخليد في النَّار، والمؤمن لا يخلدُ، لقوله تعالى: { { إِنَّ ٱللَّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [النساء:48].
قوله: { وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا } يجوز أن يتعلَّق "فِيهَا" بـ "حَبِطَ" والضميرُ على هذا يعودُ على الآخرة، أي وظهر حبوطُ ما صنعوا في الآخرة، ويجوزُ أن يتعلَّق بـ "صَنَعُوا" فالضَّميرُ يعودُ على الحياةِ الدُّنيا كما عاد عليها في قوله: { نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا } [هود:15].
و "ما" في "مَا صَنَعُوا" يجوز أن تكون بمعنى الذي، فالعائدُ محذوفٌ، أي: الذي صنعوه، وأن تكون مصدرية، أي: وحبط صنعهم.
قوله: { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قرأ الجمهورُ برفع الباطل، وفيه ثلاثةُ أوجه:
أحدها: أن يكون "بَاطِلٌ" خبراً مقدماً، و "مَا كانُوا يَعْمَلُون" مبتدأ مؤخَّر، و "ما" تحتملُ أن تكون مصدرية، أي: وباطلٌ كونهم عاملين، وأن تكون بمعنى "الذي" والعائدُ محذوفٌ، أي: يعملونه، وهذا على أنَّ الكلام من عطف الجملِ، عطف هذه الجملة على ما قبلها.
الثاني: أن يكون "باطلٌ" مبتدأ، و "مَا كانُوا يَعْمَلُون" خبرهُ، قال مكي، ولم يذكر غيره، وفيه نظر.
الثالث: أن يكون "بَاطِلٌ" عطفاً على الأخبار قبله، أي: أولئك باطلٌ ما كانوا يعملون و "ما كانُوا يَعْمَلُونَ" فاعلٌ بـ "بَاطِلٌ"، ويرجح هذا ما قرأ به زيد بن علي "وبَطَلَ ما كانُوا يَعملُونَ" جعله فعلاً ماضياً معطوفاً على "حَبطَ".
وقرأ أبيّ وابن مسعود: "وبَاطلاً".
قال مكيّ: "وهي في مصحفهما كذلك".
ونقلها الزمخشري عن عاصم "وبَاطِلاً" نصباً، وفيها ثلاثةُ أوجهٍ:
أحدها: أنَّه منصوبٌ بـ "يَعْمَلُون" و "ما" مزيدة، وإلى هذا ذهب مكي، وأبو البقاءِ وصاحب اللوامح، وفيه تقديمُ معمولِ خبر "كان" على "كان" وهي مسألةُ خلافٍ، والصحيحُ جوازها، كقوله تعالى
{ { أَهَـٰؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } [سبأ:40]، فالظاهرُ أنَّ "إيَّاكُمْ" منصوب بـ "يَعْبُدُون".
والثاني: أن تكون "ما" إبهامية، وتنتصب بـ "يَعْمَلُون" ومعناه: "باطلاً أي باطلٍ كانُوا يَعْمَلُون".
والثالث: أن يكون "بَاطِلاً" بمعنى المصدر على بطل بُطلاناً ما كانوا يعملون، ذكر هذين الوجهين الزمخشري، ومعنى قوله "ما" إبهامية أنها هنا صفةٌ للنَّكرة قبلها، ولذلك قدَّرها بـ "باطلاً أيَّ باطلٍ" فهو كقوله: [المديد]

2951-......................... وحَديثٌ ما عَلَى قِصَرِهْ

و "لأمرٍ ما جدعَ قصيرٌ أنفهُ"، وقد قدَّم هو ذلك في قوله تعالى: { { مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً } [البقرة:26].