التفاسير

< >
عرض

وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ
٥٩
وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ
٦٠
-هود

اللباب في علوم الكتاب

ولما ذكر قصة عاد خاطب قوم محمدٍ صلى الله عليه وسلم فقال: { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } وهو إشارة إلى قبورهم وآثارهم كأنه قال: سِيحُوا في الأرض فانظرُوا إليها واعتبروا.
قوله: "جَحَدُوا" جملةٌ مستأنفة سيقت للإخبار عنهم بذلك، وليْسَتْ حالاً ممَّا قبلها، و "جَحَدَ" يتعدَّى بنفسه، ولكنه ضُمِّنَ معنى "كَفَر"، فيُعدَّى بحرفه، كما ضمَّن "كَفَر" معنى "جَحَدَ" فتعدَّى بنفسه في قوله بعد ذلك: "كَفَرُوا ربَّهُمْ".
وقيل: إنَّ "كَفَر" كـ "شَكَر" في تعدِّيه بنفسه تارةً وبحرفِ الجر أخرى.
واعلم أنَّه تعالى وصفهم بثلاث صفاتٍ.
الأولى: قوله: { جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } أي: جحدوا دلائل المعجزات على الصِّدقِ، أو حجدُوا دلائل المحدثات على وجودِ الصانع الحكيمِ.
والثانية: قوله: { وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ } ومعناه: أنهم إذا عصوا رسُولاً واحداً؛ فقد عصوا جميع الرُّسُلِ لقوله:
{ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [البقرة:258].
والثالثة: قوله: { وَٱتَّبَعُوۤاْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } والمعنى: أنَّ السَّفلة كانُوا يقلدون الرؤساء في قولهم
{ مَا هَـٰذَا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } [المؤمنون:33].
وتقدَّم اشتقاقُ { الجبّار } [المائدة:22]. والعَنِيدُ والعَنُود والمُعَاند: المنازع المعارض قاله أبو عبيدٍ وهو الطَّاغي المتجاوزُ في الظُّلم من قولهم: "عَنَدَ يَعْنِد" إذا حاد عن الحقِّ من جانبٍ إلى جانب. ومنه "عندي" الذي هو ظرف؛ لأنه في معنى جانب، من قولك: عندي كذا، أي: في جانبي.
ثم قال: { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً } أي: أردفُوا لعنة تلحقهم، وتصاحبهم في الدنيا وفي الآخرة. واللعنة: هي الإبعادُ، والطَّردُ عن الرَّحمةِ.
ثم بيَّن السَّبب في نزول هذه الأحوال فقال: { أَلاۤ إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } أي: كفروا بربهم فحذف الباء. وقيل: هو من باب حذف المضافِ، أي كفروا نعمة ربِّهم.
ثم قال: { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } قيل: بُعْداً من رحمةِ الله، وقيل: هلاكاً. وللبعد معنيان:
أحدهما: ضدَّ القربِ، يقال منه: بَعُدَ يَبْعُدُ بُعْداً.
والآخر: بمعنى الهلاك فيقال منه: بَعِد يَبعِدُ بَعَداً وبَعُداً.
فإن قيل: اللعن هو البُعْدُ، فلمَّا قال: { وَأُتْبِعُواْ فِي هَـٰذِهِ ٱلدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } فما فائدةُ قوله: { أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ }؟.
فالجواب: كانوا عاديَيْن.
فالأولى هم قوم هود الذين ذكرهم الله في قوله
{ أَهْلَكَ عَاداً ٱلأُولَىٰ } [النجم:50].
والثانية أصحاب إرم ذات العمادِ.
وقيل: المبالغة في التَّنْصيصِ تدلُّ على مزيد التأكيد.