التفاسير

< >
عرض

وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ
٨٤
وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ
٨٥
بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ
٨٦
قَالُواْ يٰشُعَيْبُ أَصَلَٰوتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ
٨٧
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ
٨٨
وَيٰقَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِيۤ أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ
٨٩
وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ
٩٠
قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ
٩١
قَالَ يٰقَوْمِ أَرَهْطِيۤ أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ ٱللَّهِ وَٱتَّخَذْتُمُوهُ وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ
٩٢
وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَٰمِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَٰذِبٌ وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ
٩٣
وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ
٩٤
كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ
٩٥
-هود

اللباب في علوم الكتاب

قوله تعالى: { وَإِلَىٰ مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً } القصة.
أي: وأرسلنا إلى ولد مدين وهو اسم ابن إبراهيم - عليه السلام -، ثم صار اسماً للقبيلةِ.
وقال كثير من المفسِّرين: مَدْيَنُ اسم مدينة، وعلى هذا فتقديره: وأرسلنا إلى أهل مدين، فحذف "أهل"، كقوله:
{ وَٱسْأَلِ ٱلْقَرْيَةَ } [يوسف:82] أي: أهل القرية.
واعلم أنَّ الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام - أول ما يبدؤون بالدعوة إلى التَّوحيدِ، ولذلك قال شعيبٌ - عليه الصلاة والسلام -: { يٰقَوْمِ ٱعْبُدُواْ ٱللَّهَ مَا لَكُمْ مِّنْ إِلَـٰهٍ غَيْرُهُ } ثم بعد الدَّعوة إلى التوحيد يشرعون في الأهم، فالأهم، ولما كان المتعادُ في أهل مدينَ البَخْسَ في المكيالِ والميزان، دعاهم إلى تركِ هذه العادة، فقال: { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ }.
قوله: "وَلاَ تَنقُصُوا": "نَقَصَ" يتعدَّى لاثنين، إلى أولهما بنفسه، وإلى ثانيهما بحرف الجرِّ؛ وقد يحذفُ؛ تقولُ: نَقَصْتُ زيْداً من حقِّه، وحقَّهُ، وهو هنا كذلك، إذ المرادُ: ولا تنْقصُوا النَّاس من المكيالِ، ويجوز أن يكون متعدِّياً لواحدٍ على المعنى.
والمعنى: لا تُقَلِّلُوا وتُطَفِّفُوا ويجُوز أن يكون "المِكْيَال" مفعولاً أول، والثاني محذوفٌ، وفي ذلك مبالغة، والتقدير: ولا تنقصُوا المكيال والميزان حقَّهما الذي وجب لهما، وهو أبلغُ في الأمر بوفائهما.
قوله تعالى: { إِنِّيۤ أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } قال ابنُ عبَّاسٍ: موسرين في نعمة. وقال مجاهدٌ: كانوا في خصب وسعةٍ؛ فحذَّرهم زوال النعمة، وغلاء الأسعار، وحلول النقمة إنْ لم يتُوبُوا.
{ وَإِنِّيۤ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } يحيطُ بكم فيهلككم.
قال ابنُ عبَّاسٍ: أخافُ: أي: أعلم.
وقال غيره: المراد الخوف؛ لأنه يجوز أن يتركُوا ذلك العمل خشية حُصُولِ العذابِ.
قوله: "محيطٍ" صفة لليوم، ووصف به من قولهم: أحاط به العدوُّ، وقوله:
{ { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } [الكهف:42].
قال الزمخشري: إنَّ وصف اليوم بالإحاطة أبلغُ من وصفِ العذاب بها قال: لأنَّ اليوم زمانٌ يشتمل على الحوادث، فإذا أحاط بعذابه فقد اجتمع للمُعَذَّبِ ما اشتمل عليه منه كما إذا أحاط بنعيمه.
وزعم قومٌ: أنه جُرَّ على الجوار؛ لأنَّهُ في المعنى صفةٌ للعذاب، والأصلُ: عذاب يوم مُحيطاً وقال آخرون: التقدير: عذابُ يومٍ محيطٍ عذابُه. قال أبو البقاءِ: وهو بعيدٌ؛ لأنَّ محيطاً قد جرى على غير من هو له، فيجب إبرازُ فاعله مضافاً إلى ضمير الموصوف.
واختلفوا في المراد بهذا العذاب: فقيل: عذاب يوم القيامةِ. وقيل: عذاب الاستئصال في الدنيا؛ كما هُو في حق سائر الأمم.
والأقربُ دخولُ كل عذاب فيه، وإحاطة العذاب بهم كإحاطة الدَّائرة بما فيها.
قوله: { وَيٰقَوْمِ أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ بِٱلْقِسْطِ } أي: بالعدل.
فإن قيل: وقع التَّكرار ههنا من ثلاثة أوجه، فقال: { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } ثم قال { أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ }، وهو عين الأول، ثم قال: { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ }، وهو عين الأوَّل، فما فائدة التَّكرارِ؟.
فالجواب من وجوه:
الأول: أن القوم كانوا مُصرِّين على ذلك العمل، فمنع منه بالمبالغة في التأكيد، والتكرارُ يفيد التَّأكيد وشدّة العناية والاهتمام.
الثاني: قوله: { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } نهي عن التنقيص، وقوله: { أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } أمر بإيفاء العدل، والنَّهْي عن الشيء أمر بضده، وليس لقائل أن يقول النَّهي ضد الأمر، فكان التكرير لازماً من هذا الوجه، لأنَّا نقول: الجوابُ من وجهين:
أحدهما: أنَّهُ تعالى جمع بين الأمر بالشَّيء، وبين النهي عن ضده للمبالغة، كما تقولُ: صل قرابتك، ولا تقطعهم؛ فدلَّ هذا الجمعُ على غاية التَّأكيد.
وثانيهما: ألا نُسَلم أنَّ الأمر كما ذكرتم؛ لأنَّهُ يجُوزُ أن ينهى عن التنقيص وينهى أيضاً عن أصلِ المعاملة، فهو تعالى منع من التنقيص وأمر بإيفاء الحقِّ، ليدلَّ ذلك على أنَّهُ تعالى لم يمنع من المعاملات، ولم ينه عن المبايعات، وإنَّما منع من التَّطْفِيفِ، ومنع الحقوق، فكانت المبايعات محرمة بالكُلِّيَّةِ، فلأجْلِ هذا منع في الآية الأولى من التَّنقِيصِ، وفي الأخرى أمر بالإيفاء، وأما قوله ثالثاً: { وَلاَ تَبْخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشْيَآءَهُمْ } فليس بتكرير لأنَّهُ تعالى خصَّ المنع في الآية الأولى بالنُّقصان في المكيالِ والميزان. ثم إنَّهُ تعالى عمَّ الحكم في جميع الأشياء، فدل ذلك على أنها غير مكررة، بل في كل واحدة فائدة زائدة.
الوجه الثالث: أنه تعالى قال في الآية الأولى: { وَلاَ تَنقُصُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } وفي الثانية قال: { أَوْفُواْ ٱلْمِكْيَالَ وَٱلْمِيزَانَ } والإيفاءُ: عبارة عن الإتيان به على الكمالِ والتَّمام، ولا يحصلُ ذلك إلاَّ إذا أعطى قدراً زائداً على الحق، ولهذا المعنى قال الفقهاءُ: إنَّهُ تعالَى أمر بغسل الوجه وذلك لا يحصلُ إلاَّ عند غسل كلّ جزء من أجزاء الرَّأس.
فالحاصلُ: أنه تعالى نهى في الآية الأولى عن النُّقصان، وفي الثانية أمَرَ بإعطاء شيءٍ مِنْ الزيادة، فكأنَّه تعالى نهى أولاً عن سعي الإنسان في أن يجعل مال غيره ناقصاً ليحصل له تلك الزيادة، وفي الثانية أمر بأن يسعى في تنقيص مال نفسه ليخرج مالهُ من غير العوض.
وقوله: "بِٱلْقِسْطِ" يعني: بالعدلِ، ومعناه الأمر بإيفاء الحقِّ بحيث يحصلُ معه اليقين بالخُروجِ عن العهدةِ، فالأمرُ بإيتاء الزِّيادةِ على ذلك غيرُ حاصل.
والبخس: هو النَّقْضُ.
ثم قال: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ }.
فإن قيل: العثوُّ: الفسادُ التَّامُّ، فقوله: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } جار مجرى قولك: ولا تفسدُوا في الأرض مفسدين.
فالجوابُ من وجوه:
الأول: أن من سعى في إيصال الضَّرر إلى الغير، فقد حمل ذلك الغير على السعي إلى إيصال الضرر إليه فقوله: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } ولا تسعوا في إفسادِ مصالح الغير، فإنَّ ذلك في الحقيقة سعي منكم في إفساد مصالح أنفسكم.
والثاني: أن يكون المرادُ من قوله: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } مصالح دنياكم وآخرتكم.
والثالث: { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي ٱلأَرْضِ مُفْسِدِينَ } مصالح الأديان والشرائع.
ثم قال: { بَقِيَّتُ ٱللَّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } العامَّة على تشديد ياء "بقيَّة". وقرأ إسماعيلُ بن جعفر - من أهل المدينة - بتخفيفها قال ابنُ عطيَّة: "وهي لغةٌ".
وهذا لا ينبغي أن يقال، بل يقال: إنْ لم يقصد الدَّلالةُ على المبالغة جيء بها مخففة وذلك أنَّ "فِعَل" بكسر العين إذا كان لازماً فقياسُ الصِّفة منه: "فَعِل" بكسر العين نحو: سَجِيَت المرأة فهي سجيَة فإن قصدت المبالغة قيل: سجيَّة، لأنَّ فعيلاً من أمثلة المبالغة فكذلك "بقيَّة وبقِية" أي: بالتَّشديد والتَّخفيف.
قال المفسِّرون "بقيَّةُ اللهِ" هي تقواه. قال ابنُ عباسٍ: ما أبقى الله لكم من الحلال بعد إيفاء الكيلِ والوزن خيرٌ ممَّا تأخذونه بالتطفيف. وقال مجاهدٌ: "بقيَّةُ اللهِ" يعنى طاعة الله خير لكم من ذلك القدر القليل؛ لأنَّ منفعة الطَّاعة تبقى أبداً.
قوله: { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } قال ابنُ عطيَّة -رحمه الله -: "وجوابُ هذا الشَّرط متقدِّمٌ" يعنى: على مذهب من يراهُ لا على مذهب جمهور البصريِّين.
وإنَّما شرط الإيمان لكونه خيراً لهُمْ؛ لأنهم إن كانوا مؤمنين مقرِّين بالثَّواب والعقابِ عرفوا أنَّ السَّعي في تحصيل الثَّواب وفي الحذر من العقابِ خير لهم من السَّعي في تحصيل ذلك القليل.
والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط؛ فدلَّ ظاهرُ الآية على أنَّ من لم يحترز عن هذا التطفيف لا يكون مُؤمناً.
قوله: { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي: إنِّي نصحتكم، وأرشدتكم إلى الخير، وما عليّ منعكم من هذا الفعل القبيح. وقيل: لمَّا قال لهم: إنَّ البخس والتطفيف يزيل النعم عنكم، وأنا لا أقدر على حفظها عليكم في تلك الحالة؛ قالوا له: { أَصَلَوَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } قرأ حمزةُ والكسائيُّ وحفص عن عاصم، "أصلاتُكَ" بغير واو. والباقون بالواو على الجمع.
قوله: { أَوْ أَن نَّفْعَلَ } العامَّةُ على نون الجماعةِ، أو التعظيم في "نَفْعلُ" و "نشاءُ".
وقرأ زيد بنُ عليّ، وابنُ أبي عبلة والضحاك بنُ قيس بتاءِ الخطاب فيهما. وقرأ أبو عبد الرحمن وطلحة الأول بالنون والثاني بالتاء، فمن قرأ بالنون فيهما عطفه على مفعول "نَتْرُكَ" وهو "ما" الموصولةُ، والتقدير: أصلواتك تأمرك أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أنْ نتركَ أن نفعل في أموالنا ما نشاءُ، وهو بخسُ الكيل والوزن المقدَّم ذكرهما. و "أوْ" للتنويع أو بمعنى الواو، قولان، ولا يجوز عطفه على مفعول "تأمُركَ"؛ لأنَّ المعنى يتغيَّرُ، إذ يصير التقديرُ: أصلواتُك تأمُرك أن تفعل في أموالنا.
ومن قرأ بالتاء فيهما جاز أن يكون معطوفاً على مفعول "تأمُركَ"، وأن يكون معطوفاً على مفعول "نترك"، والتقديرُ: أصلواتك تأمرك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاءُ أنت، أو أن نترك ما يعبدُ آباؤنا، أو أن نترك أن تفعل أنت في أموالنا ما تشاء أنت.
ومن قرأ بالنُّون في الأوَّلِ وبالتَّاءِ في الثاني كان: "أن تفعل" معطوفاً على مفعول: "تأمُرُكَ" فقد صار ذلك ثلاثة أقسام، قسمٍ يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول: "نَتْرُكَ" وهي قراءةُ النُّونِ فيهما، وقسم يتعيَّنُ فيه العطفُ على مفعول "تأمُرك"، وهي قراءةُ النُّون في "نفعلُ" والتاء في "تشاء"، وقسمٍ يجوزُ فيه الأمْران وهي قراءةُ التاء فيهما.
والظَّاهرُ من حيثُ المعنى في قراءة التَّاء فيهما، أو في "تشاء" أنَّ المراد بقولهم ذلك هو إيفاءُ المكيال والميزان؛ لأنه كان يأمرهم بهما.
وقال الزمخشريُّ: "المعنى: تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف لأنَّ الإنسانَ لا يؤمرُ بفعل غيره".
واعلم أنَّ قوله: { أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } إشارة إلى أنه أمرهم بالتوحيد. وقوله: { أَن نَّفْعَلَ فِيۤ أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } إشارة إلى أنه أمرهم بترك البخس.
فصل
قيل: المرادُ بالصلاة هنا الدِّين والإيمان؛ لأنَّ الصلاة أظهر شعائر الدين؛ فجعلوا ذكر الصَّلاة كناية عن الدِّين. وقيل: أصل الصلاة الاتِّباعُ، ومنه أخذ المصلِّي من خيل المسابقة، وهو الذي يتلو السابق؛ لأنَّ رأسه يكون على صلوي السَّابق، وهما ناحيتا الفخذين، والمعنى: دينُك يأمرك بذلك. وقيل: المرادُ هذه الأفعال المخصوصة، روي أنَّ شُعَيْباً كان كثير الصَّلاةِ، وكان قومه إذا رأوه يصلي يتغامزون ويتضاحكُون، فقصدوا بقولهم: أصلاتُكَ تأمرك السخرية والاستهزاء.
{ إِنَّكَ لأَنتَ ٱلْحَلِيمُ ٱلرَّشِيدُ }.
قال ابن عباس: أرادوا السَّفيه الغاوي؛ لأنَّ العرب قد تصف الشيء بضده فيقولون: للديغ سليم، وللفلاة مفازة.
وقيل: قالوه على وجهِ الاستهزاء، كما يقال للبخيل الخسيس "لو رآكَ حاتمٌ، لسجد لك"، وقيل: الحليم، الرشيد بزعمك.
وقيل: على الصِّحَّة أي: إنَّكَ يا شعيبُ فينا حليم رشيد لا يحصل بك شقّ عصا قومك، ومخالفة دينهم، وهذا كما قال قومُ صالحٍ:
{ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَـٰذَا } [هود:62].
قوله: { أَرَءَيْتُمْ } قد تقدَّم مراراً [يونس:50]. وقال الزمخشريُّ هنا: فإنْ قلت: أين جوابُ "أرأيْتُم" وما له لم يثبتْ كما ثبت في قصَّة نوحٍ، وصالح؟ قلتُ جوابهُ محذوفٌ، وإنَّما لم يثبتْ؛ لأنَّ إثباته في القصتين دلَّ على مكانه، ومعنى الكلام ينادي عليه، والمعنى: أخبروني إن كنت على حجة واضحةٍ ويقين من ربِّي ونبيّاً على الحقيقة، أيصحُّ أن لا آمركم بترك عبادةِ الأوثان والكفِّ عن المعاصي، والأنبياءُ لا يبعثُونَ إلاَّ لذلك؟.
قال أبُو حيَّان: وتسميةُ هذا جواباً لـ "أرَأيتُمْ" ليس بالمصطلح، بل هذه الجملةُ التي قدَّرها في موضع المفعول الثَّاني لـ "أرَأَيْتُمْ" لأنَّ "أرَأَيْتُمْ" إذا ضُمِّنَتْ معنى أخبرني تعدَّت إلى مفعولين، والغالبُ في الثاني أن يكون جملة استفهامية ينعقدُ منها، ومن المفعول الأوَّل في الأصل جملةٌ ابتدائية كقول العربِ: "أرأيتك زيداً ما صنع" وقال الحوفيُّ: "وجوابُ الشَّرط محذوفٌ لدلالة الكلام على تقديره: أأعدلُ عمَّا أنا عليه".
وقال ابنُ عطيَّة: "وجوابُ الشَّرط الذي في قوله: "إنْ كُنتُ" محذوفٌ تقديره أضلُّ كما ضللتُمْ، أو أترك تبليغ الرسالة، ونحو هذا ممَّا يليقُ بهذه المُحاجَّة".
قال أبُو حيان: وليس قوله: "أضَلَّ" جواباً للشَّرط؛ لأنَّه إن كان مثبتاً فلا يمكنُ أن يكون جواباً لأنه لا يترتب على الشَّرط، وإن كان استفهاماً حذف منه الهمزة فهو في موضع المفعول الثاني لـ "أرأيْتُمْ" وجوابُ الشَّرْطِ محذوفٌ يدلُّ عليه الجملة السَّابقة مع متعلَّقها.
فصل
المعنى { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىٰ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } بصيرة وبيان من ربِّي { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } حلالاً.
قيل: كان شعيب كثير المالِ الحلال.
وقيل: الرزق الحسنُ: العلم والمعرفة أي: لما أتاني جميع هذه السَّعادات، فهل ينبغي لي مع هذه النعم أن أخُونَ في وحيه، أو أنْ أخالفَ أمره ونهيه، وإذا كان العزّ من الله، والإذلال من الله، وذلك الرزقُ إنَّما حصل من عند الله فأنا لا أبالي بمخالفتكم، ولا أفرحُ بموافقتكم، وإنَّما أكون على تقرير بدين الله وإيضاح شرائعه.
قوله: { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ } قال الزمخشريُّ: خالفني فلان إلى كذا: إذا قصده وأنت مُولٍّ عنه، وخالفني عنه إذا ولَّى عنه وأنت قاصده، ويلقاك الرجل صادراً عن الماء فتسأله عن صاحبه فيقولُ: "خالفَنِي إلى الماءِ"، يريد أنه ذاهب إليه وارداً، وأنا ذاهبٌ عنه صادراً، ومنه قوله تعالى: { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } يعني أن أسبقكم إلى شهواتكم التي نهيتُكم عنها لأستبدَّ بها دُونَكُم.
وهذا الذي ذكره الزمخشريُّ معنى حسنٌ لطيف، ولم يتعرَّض لإعراب مفرداته؛ لأن بفهم المعنى يفهم الإعراب.
فيجوزُ أن يكون قوله: "أنْ أخَالِفَكُمْ" في موضع مفعول بـ "أُرِيدُ"، أي: وما أريد مُخالفتكُم، ويكون "فاعل" بمعنى "فعل" نحو: جاوزتُ الشَّيء وجُزْته، أي: وما أريد أن أخالفكم، أي: أكون خلفاً منكم.
وقوله:{ إِلَىٰ مَآ أَنْهَاكُمْ } يتعلَّق بـ " أخَالِفَكُمْ"، ويجُوزُ أن يتعلَّق بمحذوف على أنَّهُ حال، أي: مائلاً إلى ما أنهاكم عنه، ولذلك قدَّر بعضهم محذوفاً يتعلَّقُ به هذا الجارُّ تقديره: وأميل إلى أن أخالفكم، ويجُوزُ أن يكون "أنْ أخالِفكُمُ" مفعولاً من أجله، وتتعلق "إلى" بقوله "أريدُ" بمعنى: وما أقصد لأجل مخالفتكم إلى ما أنهاكم عنه.
ولذلك قال الزجاج: وما أقصد بخلافكم إلى ارتكاب ما أنهاكم عنه.
ويجوزُ أن يرادَ بأن أخالفكم معناه من المخالفةِ، وتكون في موضع المفعول به بـ "أُرِيد"، ويقدَّر مائلاً إلى.
والمعنى: وما أريدُ فيما آمركم به وأنهاكم عنه:{ إِلاَّ ٱلإِصْلاَحَ مَا ٱسْتَطَعْتُ }.
قوله: "مَا ٱسْتَطَعْتُ" يجوزُ في "مَا" هذه وجوه:
أحدها: أن تكون مصدرية ظرفية أي: مدة استطاعتي.
والثاني: أن تكون "ما" موصولة بمعنى "الذي" بدلاً من "الإصلاح" والتقديرُ: إن أريدُ إلاَّ المقدارَ الذي أستطيعه من الصَّلاح.
الثالث: أن يكون على حذفِ مضاف، أي: إلاَّ الإصلاحَ إصلاحَ ما استطعتُ، وهو أيضاً بدلٌ.
الرابع: أنَّها مفعول بها بالمصدر المعرَّف، أي: إنَّ أريدُ إلاَّ أن أصلح ما استطعت إصلاحُه؛ كقوله: [المتقارب]

3006- ضَعِيفُ النِّكايَةِ أعداءَهُ يَخَالُ الفِرَارَ يُراخِي الأجَلْ

ذكر هذه الأوجه الثلاثة الزمخشريُّ، إلاَّ أنَّ إعمال المصدر المعرَّف قليلٌ عند البصريين، ممنوعٌ إعمالهُ في المفعول به عند الكوفيين، وتقدَّم الجارَّان في "عليهِ" و"إليهِ" للاختصاص أي: عليه لا على غيره، وإليه لا إلى غيره.
فصل
اعلم أنَّ القوم كانوا قد أقرُّوا إليه بأنَّهُ حليمٌ رشيدٌ؛ لأنَّهُ كان مشهوراً بهذه الصفة، فكأنه عليه الصلاة والسلام قال لهم: إنَّكُم تعرفون من حالي أني لا أسعى إلاَّ في الإصلاح وإزالة الفسادِ، فلمَّا أمرتكم بالتَّوحيدِ وترك إيذاء النَّاس؛ فاعلموا أنَّهُ دينٌ حق وأنه لي غرضي منه إيقاع الخصومة، وإثارة الفتنةِ، فأنتُم تعرفون أني أبغض ذلك الطريق، ولا أسْعَى إلاَّ إلى ما يوجب الصلاح بقدر جهدي وطاقتي، وذلك هو الإبلاغ والإنذار وأما الإجبارُ على الطَّاعة فلا أقدرُ عليه، ثمَّ أكَّد ذلك بقوله: { وَمَا تَوْفِيقِيۤ إِلاَّ بِٱللَّهِ } والتوفيق تسهيل سبيل الخير "عليْهِ توكَّلْتُ" اعتمدت "وإلَيْهِ أنيبُ" أرجع فيما ينزله علي من النَّوائِبِ، وقيل: في المَعَادِ.
قوله: "لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ" العامَّةُ على فتح ياءِ المضارعة من "جرم" ثلاثيًّا. وقرأ الأعمشُ وابنُ وثابٍ بضمها من "أجرم" وقد تقدَّم [هود 22] أنَّ "جَرَمَ" يتعدَّى لواحدٍ ولاثنين مثل: كسب، فيقال: جَرَمَ زيدٌ مالاً نحو: كَسَبَهُ، وجرمْتُه ذَنْباً، أي: كسبته إياه فهو مثلُ كسب؛ وأنشد الزَّمخشري على تعدِّية لاثنين قوله: [الكامل]

3007- ولَقَدْ طَعَنْتُ أبَا عُيَيْنَةَ طَعْنَةً جَرَمَتْ فَزارَةُ بعدهَا أنْ يَغْضَبُوا

فيكون الكاف والميم هو المفعول الأول.
والثاني: هو "أنْ يصيبكُم" أي: لا تَكْسِبَنَّكُم عداوتي إصابة العذاب وقد تقدَّم أنَّ جَرَمَ وأجْرم بمعنى، أو بينهما فرق.
ونسب الزمخشريُّ ضمَّ الياءِ من أجرم لابن كثير.
والعامَّةُ أيضاً على ضمِّ لام "مِثْلُ" رفعاً على أنَّه فاعل "يُصِيبَكُم" وقرأ مجاهدٌ والجحدريُّ بفتحها وفيها وجهان:
أحدهما: أنَّها فتحةُ بناء وذلك أنَّه فاعل كحاله في القراءة المشهورة، وإنَّما بُني على الفتح؛ لإضافته إلى غير متمكن؛ كقوله تعالى:
{ { إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } [الذاريات:23] وكقوله: [البسيط]

3008- لَمْ يَمْنَعِ الشُّرْبَ مِنْهَا غَيْرَ أنْ نَطَقَتْ حَمَامَةٌ في غُصُونٍ ذاتِ أوْقَالِ

وقد تقدَّم تحقيقُ هذه القاعدة في الأنعام [الأنعام94].
والثاني: أنه نعتٌ لمصدر محذوف فالفتحة للإعراب، والفاعل على هذا مضمرٌ يفسره سياقُ الكلام، أي: يصيبكم العذاب إصابة مثل ما أصاب.
فصل
والمعنى: لا يكسبنكم "شِقَاقِي" خلافي: "أنْ يُصِيبكم" عذاب الاستئصال في الدنيا "مِثْلُ ما أصَابَ قوم نُوح" من الغرقِ، وقوم هود من الريح، وقوم صالح من الصَّيْحة والرَّجْفةِ، وقوم لوط من الخسْفِ.
قوله: { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } أتى بـ "بَعِيد" مفرداً وإن كان خبراً عن جمع لأحد أوجهٍ: إمَّا لحذف مضاف تقديره: وما إهلاك قوم، وإمَّا باعتبار زمانٍ، أي: بزمانٍ بعيد، فإنَّ إهلاك قوم لُوط أقرب الإهلاكات التي عرفها النَّاس في زمان شعيبٍ، وإمَّا باعتبار مكان، أي: بمكان بعيد؛ لأنَّ بلاد قوم لوطٍ قريبة من مدين، وإمَّا باعتبار موصوفٍ غيرهما، أي: بشيءٍ بعيد، كذا قدَّره الزمخشريُّ، وتبعه أبو حيَّان، وفيه إشكالٌ من حيثُ إنَّ تقديرهُ بزمانٍ يلزم منه الإخبارُ بالزَّمان عن الجُثَّةِ. وقال الزمخشريُّ أيضاً ويجوز أن يُسَوِّي في "قَرِيب" و"بَعِيد" و "قَلِيل" و"كَثير" بين المذكَّر والمؤنَّث لورودها على زنةِ المصادر التي هي كالصَّهيل، والنَّهيق ونحوهما.
ثم قال: { وَٱسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ } أي: من عبادة الأوثان، ثُمَّ تُوبُوا إلى الله - عزَّ وجلَّ من البَخْس والنُّقصان { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ } بأوليائه: "وَدُودٌ" الوَدُود: بناءُ مبالغة من ودَّ الشيء يوَدُّهُ وُدًّا، وودَاداً، ووِدَادَةً ووَدَادَةً أي: أحبًّه وآثره.
والمشهورُ "وَدِدْت" بكسر العين، وسمع الكسائي "وَدَدْت" بفتحها، والوَدُودُ بمعنى فاعل أي: يَوَدّ عباده ويرحمهم.
وقيل: بمعنى مفعولٍ بمعنى أنَّ عبادهُ يحبُّونه ويُوادُّون أولياءهُ، فهم بمنزلة "المُوادِّ" مجازاً.
قال ابنُ الأنباري: الوَدُودُ - في أسماءِ الله تعالى - المُحِبُّ لعبادِهِ، من قولهم: وَدِدْتُ الرَّجُلَ أوَدُّهُ.
قال الأزهريُّ - في "شرح كتاب أسماء الله الحسنى" -: ويجوزُ أن يكون "وَدُوداً فعُولاً بمعنى مفعول، أي: إنَّ عبادهُ الصَّالحين يودونه لكثرة إفضاله وإحسانه على الخلق.
قال ابن الخطيب: واعلم أنَّ هذا التَّرتيب الذي راعاه شعيبٌ في ذكر هذه الوجوه الخمسة ترتيبٌ لطيفٌ.
لأنَّهُ ذكر أولاً أنَّ ظهور البيِّنةِ له وكثرة الإنعام عليه في الظَّاهر والباطن يمنعه من الخيانة في وحي الله، ويصده عن التَّهاون في تبليغه.
ثم بيَّن ثانياً أنَّه مواظب على العمل بهذه الدَّعوة، ولو كانت باطلةً لما اشتغل هو بها مع اعترافهم بكونه حَلِيماً رشيداً.
ثم بيَّن صحته بطريق آخر، وهو أنَّه كان معروفاً بتحصيل موجبات الصلح، والصَّلاح وإخفاء موجبات الفتنِ، فلو كانت هذه الدعوة باطلة لما اشتغل بها، ثمَّ لمَّا بيَّن صحة طريقته أشار إلى نفي المعارض وقال: لا تحملكم عداوتي على مذهبٍ ودين تقعُون بسببه في العذاب الشَّديد من الله، كما وقع فيه أقوام الأنبياء المتقدمين، ثم إنََّه لمَّا صحَّح مذهب نفسه بهذه الدلائل عاد إلى تقرير ما ذكره أولاً وهو التوحيد والمنع من البخس بقوله: { ثُمَّ تُوبُوۤاْ إِلَيْهِ } ثم بيَّن لهم أنَّ سبق الكفر والمعصية منهم لا ينبغي أن يمنعهم من الإيمان والطَّاعة؛ لأنَّه تعالى رحيمٌ ودودٌ يقبلُ الإيمان من الكافر والفاسق؛ لأنَّ رحمته بعباده وحبه لهم يوجبُ ذلك، وهذا تقرير في غاية الكمال.
قوله: { قَالُواْ يٰشُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ }.
قيل: المعنى: ما نفقه كثيراً ممَّا تقولُ؛ لأنَّهُم كانوا لايلقون إليه أفهامهم لشدَّة نفورهم من كلامه، كقوله:
{ { وَجَعَلْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ } [الأنعام:25] وقيل: إنَّهم فهموه، ولكنَّهم ما أقامُوا له وزناً، فذكروا هذا الكلام على سبيل الاستهانة، كقول الرَّجل لمنْ لم يعْبَأ بحديثه: ما أدري ما تقولُ.
وقيل: ما ندري صحة الدَّليل الذي ذكرته على صحَّةِ التوحيد والنُّبوةِ والبعث، وما يجبُ من ترك الظُّلمِ والسرقة.
فصل
استدلُّوا بهذه الآية على أنَّ الفقه: اسمٌ لعلم مخصوص، وهو معرفة غرض المتكلم من كلامه؛ لأنه أضاف الفقه إلى القولِ، ثم صار اسماً لنوع مُعيَّن من علوم الدين، وقيل: إنَّه اسم لمطلق الفهم، يقال: أوتي فلانٌ فقهاً في الدِّين، أي: فَهْماً. قال عليه الصلاة والسلام:
"يُفَقِّهْهُ في الدِّينِ" أي: يفهمه تأويله.
ثم قال: { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } قيل: الضَّعيفُ الذي يتعذر عليه منعُ القوم عن نفسه.
وقيل: هو الأعمى بلغة حمير وهذا ضعيفٌ؛ لأنه ترك للظاهر بغير دليل، وأيضاً فقوله: "فِينَا" يُبْطل هذا الوجه؛ لأنَّهم لو قالوا: إنَّا لنراك أعْمَى فِينَا كان فاسداً؛ لأنَّ الأعمى أعْمَى فيهم وفي غيرهم، وأيضاً قولهم بعد ذلك "ولَوْلاَ رهْطُكَ لرجَمْناكَ" فنفوا عنه القُوَّة التي أثبتوها في رهطه وهي النُّصرة؛ فوجب أن تكون القوة التي نفوها عنه هي النُّصرة.
واستدلّ بعضُ العلماءِ بهذه الآيةِ على تجويزِ العمى على الأنبياء - عليهم الصلاة والسلام-. وذلك اللَّفظ لا يدلُّ عليه، لما بيَّناه.
قال بعضُ المعتزلةِ: لا يجوزُ العَمَى على الأنبياء، فإنَّ الأعْمَى لا يمكنه التَّجوز عن النَّجاسات، ولأنه يخل بجواز كونه حاكماً وشاهداً؛ فلأنْ يُمْنَع من النبوَّةِ أوْلَى.
قوله: { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } "الرَّهْط"جماعةُ الرجل. وقيل: الرَّهْط والرَّاهط لما دُون العشرة من الرَّجالِ، ولا يقعُ الرَّهْطُ، والعَصَب، والنَّفَر، إلاَّ على الرِّجالِ.
وقال الزمخشريُّ: "من الثَّلاثة إلى العشرة، وقيل: إلى السَّبعةِ"، ويجمع على "أرْهُط" و "أرْهُط" على "أرَاهِط"؛ قال: [مجزوء الكامل]

3009- يا بُؤسَ لِلْحَرْبِ الَّتِي وَضَعَتْ أرَاهِطَ فاسْتَراحُوا

قال الرُّمَّانِيُّ: وأصلُ الكلمة من الرَّهْط، وهو الشدُّ، ومنه "التَّرْهيطُ" وهو شدَّة الأكل والرَّاهِطَاء اسم لجحر من جِحَرة اليَربُوع؛ لأنَّه يتوثَّقُ به ويَحْيَا فيه أولاده.
فصل
المعنى: ولولا حرمة رهطك عندنا لكونهم على ملتنا لرجمناك.
والرَّجْمُ في اللغة: عبارة عن الرَّمي، وذلك قد يكونُ بالحجارة عند قصد القتل، ولمَّا كان هذا الرَّجم سبباً للقتل سموا القتل رَجْماً، وقد يكون بالقول الذي هو القَذْفُ كقوله تعالى:
{ { رَجْماً بِٱلْغَيْبِ } [الكهف:22] وقوله: { { وَيَقْذِفُونَ بِٱلْغَيْبِ } [سبأ:53]، وقد يكُونُ بالشَّتم واللعن، ومنه الشيطان الرجيم، وقد يكون بالطرد، قال تعالى: { { رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [الملك:5] فعلى هذه الوجوه يكون المعنى: لقتلناك، أو لشتمناك وطردناك.
قوله: { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } قال الزمخشريُّ "وقد دلّ إيلاءُ ضميره حرف النَّفي على أنَّ الكلام واقعٌ في الفاعل لا في المفعول كأنَّهُ قيل: وما أنت بعزيزٍ علينا بل رَهْطُك هم الأعزَّة علينا؛ فلذلك قال في جوابهم: "أرَهْطِي أعزُّ عليْكُم مِنَ اللَّهِ" ولو قيلَ: "ومَا عَزَزْتَ عليْنَا" لم يصحَّ هذا الجوابُ".
والمعنى: أنك لمَّا لمْ تكن علينا عزيزاً، سهل علينا الإقدامُ على قتلك وإيذائك.
واعلم أنَّ هذه الوجوه التي ذكروها ليست مانعةً لما قرره شعيبٌ من الدَّلائل، بل هي جارية مجرى مقابلة الدليل والحجة بالشتم والسَّفاهة.
قوله:{ يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهرياً }
اعلم أنَّهم لمَّا خوَّفُوه بالقتل، وزعمُوا أنهم إنَّما تركوا قتله رعاية لجانب قومه، قال: أنتم تزعمون أنَّكم تركتم قَتْلي إكراماً لرَهْطِي، فالله تعالى أولى أنْ يتبع أمرهُ، أي: حفظكم إيَّاي رعاية لأمر الله أولى من حفظكم إيَّاي رعاية لحقِّ رهطي.
قوله: "وَاتَّخَذْتُمُوهُ" يجوزُ أن تكون المتعدية لاثنين.
أولهما: "الهاء"
والثاني: "ظِهْرِيًّا" ويجوز أن يكون الثاني هو الظَّرفُ و "ظِهْريًّا" حالٌ، وأن تكون المتعدية لواحد؛ فيكون "ظِهْرِيًّا" حالاً فقط.
ويجوز في "وَراءكُم" أن يكون ظرفاً للاتخاذ، وأن يكون حالاً من ظِهْريًّا"، والضمير في "اتِّخَذْتُمُوهُ" يعودُ على الله؛ لأنَّهم يجهلون صفاته، فجعلوه أي: جعلوا أوامره ظِهْريًّا، أي: منبوذةً وراء ظهورهم.
والظَّهْرِيُّ: هو المنسوبُ إلى "الظَّهْر" والكسر من تغييرات النسب كقولهم في النسبةِ إلى "أمْس"، "وإمْسِيّ" بكسر الهمزة، وإلى الدَّهْر: دُهْرِيّ بضم الدَّالِ.
وقيل: الضَّميرُ يعودُ على العصيان، أي: وٱتخذتم العصيان عوناً على عداوتِي، فالظَّهْرِيُّ على هذا بمعنى المُعين المُقَوِّي.
ثم قال: { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي: عالم بأحوالكم، فلا يخفى عليه شيء منها.
قوله تعالى: { وَيٰقَوْمِ ٱعْمَلُواْ عَلَىٰ مَكَانَتِكُمْ } الآية.
المكانةُ: الحالةُ التي يتمكن بها صاحبها من عمله، أي اعملوا حال كونكم موصوفين بغاية المكنة والقدرة، وكل ما في وسعكم، وطاقتكم من إيصال الشرِّ إليَّ فإني أيضاً عاملٌ بقدر ما آتانِي الله من القدرة. "سَوْفَ تَعْلَمُونَ" أيُّنا الجاني على نفسه، والمخطئ في فعله.
قوله: "مَن يَأْتِيهِ" تقدَّم نظيرهُ في قصة نوحٍ. قال ابنُ عطيَّة - بعد أن حكى عن الفرَّاءِ أن تكون موصولة مفعولةً بـ "تَعْلَمُون" وأن تكون استفهامية مبتدأة معلقة لـ "تَعْلَمُونَ"-: "والأوَّلُ أحسنُ" ثم قال: "ويقْضَى بصلتها أن المعطوفة عليها موصولة لا محالة".
وهي قوله: { وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ }.
قال أبُو حيَّان: "لا يتعيَّن ذلك، إذ من الجائزِ أن تكون الثَّانية استفهاميَّةً أيضاً معطوفةً على الاستفهاميَّة قبلها، والتقديرُ: سوف تعلمُونَ أيُّنَا يأتيه عذابٌ، وأيُّنَا هو كاذبٌ".
قال الزمخشريُّ: فإن قُلت: أيُّ فرقٍ بين إدخالِ الفاءِ ونزعها في "سَوْفَ تَعْلَمُونَ"؟.
قلت: إدخالُ الفاءِ وصلٌ ظاهر بحرفٍ موضوع للوصل، ونزْعُهَا وصلٌ خفيٌّ تقديريٌ بالاستئناف الذي هو جوابٌ لسُؤالٍ مقدَّر كأنهم قالوا: فماذا يكون إذا عملنا نحنُ على مكانتنا، وعملت أنت على مكانتك؟ فقيل سوف تعلمُون، فوصل تارةً بالفاءِ، وتارةً بالاستئناف للتَّفنُّن في البلاغةِ، كما هو عادةُ البُلغاءِ من العربِ، وأقوى الوصلين وأبلغُهُما الاستئنافُ".
ثم قال: { وَٱرْتَقِبُوۤاْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي: وانتظرُوا العذاب إنِّي معكُم منتظرٌ. والرقيب: بمعنى الرَّاقب من رقبه كالضَّريب والصَّريم بمعنى الضَّارب والصَّارم، أو بمعنى المراقب، أو بمعنى المرتقب كالفقير والرفيع بمعنى المفتقر والمرتفع.
قوله تعالى: { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } الآية.
قال الزمخشريُّ: فإن قلت: ما بالُ ساقتي قصة عاد وقصة مدين جاءتا بالواو، والسَّاقتان الوسطيان بالفاءِ؟ قلت: قد وقعت الوسطيان بعد ذكر الوعدِ، وذلك قوله:
{ { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ ٱلصُّبْحُ } [هود:81] { { ذٰلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [هود:65] فجاء بالفاء التي للتسبُّب كما تقولُ: "وعدته فلما جاء المعيادُ كان كَيْتَ وكَيْتَ"، وأمَّا الأخريان فلم تقعا بتلك المنزلة، وإنَّما وقعتا مبتدأتين فكان حقُّهما أن تعطفا بحرف الجمع على ما قبلهما، كما تُعطفُ قصةٌ على قصَّةٍ".
قوله: { نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَٱلَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا }.
روى الكلبي عن ابن عبَّاسٍ قال: لَمْ يُعذب الله أمتين بعذاب واحدٍ إلاَّ قوم شعيب وقوم صالح، فأمَّا قوم صالح؛ فأخذتهم الصحيةُ من تحتهم، وقوم شعيبٍ أخذتهم من فوقهم.
وقوله: { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } يحتملُ أن يكون المرادُ منه، ولما جاء وقت أمرنا ملكاً من الملائكة بتلك الصَّيْحة، ويحتمل أن يكون المرادُ من الأمر العذاب، وعلى التقديرين فأخبر الله أنّه نجَّى شُعَيْباً ومن معه من المؤمنين.
وفي قوله: "بِرَحْمَةٍ مِّنَّا" وجهان:
الأول: أنَّه تعالى إنَّما خلَّصه من ذلك العذاب لمحض رحمته، تنبيهاً على أنَّ كلَّ ما يصل إلى العبد ليس إلاَّ بفضلِ الله ورحمته.
والثاني: أنَّ المراد من الرَّحمةِ الإيمان والطَّاعة وهي أيضاً ما حصلت إلاَّ بتوفيق الله.
ثم قال: { وَأَخَذَتِ ٱلَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ } وعرَّف "الصَّيحة" بالألف واللاَّم إشارة إلى المعهود السَّابق وهي صيحةُ جبريل { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } تقدم الكلام على ذلك [هود:67، 68] وإنَّما ذكر هذه اللفظة، وقاس حالهم على ثمود؛ لأنه تعالى عذَّبهم بمثل عذاب ثمود.
قوله: { كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } العامَّةُ: على كسر العين من "بَعِدَ يَبْعَد" بكسر العين في الماضي وفتحها في المضارع بمعنى هلك؛ قال: [الطويل]

3010- يقُولُون لا تَبعَدوَهُم يَدْفنُونهُ ولا بُعْدَ إلاَّ ما تُواري الصَّفَائِحُ

أرادت العربُ أن تفرقَ بين المعنيين بتغيير فقالوا: "بَعُد" بالضمِّ ضد القرب، و"بَعِد"بالكسر ضد السَّلامة، والمصدرُ البَعَدُ بالفتح في العين.
وقرأ السُّلمي وأبو حيوة "بَعُدت" بالضم أخذه من ضدِّ القرب؛ لأنَّهُم إذا هلكوا فقد بعدوا، ومن هذا قولُ الشَّاعر: [الكامل]

3011- مَنْ كَانَ بَيْنَكَ في التُّرابِ وبَيْنَهُ شِبْرانِ فهُوَ بغايةِ البُعْدِ

وقال النَّحَّاسُ: المعروفُ في اللغةِ: بَعِدَ يَبْعَد بَعَداً وبُعْداً، إذا هلك، وبَعُد يَبْعُدُ في ضدِّ القُرْب.
وقال ابنُ قتيبة: بَعِدَ يَبْعَد إذا كان بعده هلكة، وبَعُد يَبْعُد إذا نأى فهو موافقٌ للنحاس.
وقال المهدوي: "بَعُد" يستعمل في الخَيْرِ والشّر، و"بَعِد" في الشرِّ خاصة.
وقال ابنُ الأنباري: مِنَ العرب مَنْ يُسَوِّي بين الهلاكِ والبُعْدِ والذي هو ضدُّ القرب، فيقولُ فيهما: بَعُدَ يَبْعُدُ، وبَعِدَ يَبْعَدُ؛ وأنشدوا قول مالكٍ: [الطويل]

3012- يقُولُونَ لا تَبْعَدْ وهُمْ يَدْفِنُونَنِي وأيْنَ مَكَانَ البُعْدِ إلاَّ مَكَانِيَا

قيل: يروى "لا تَبْعُدْ" بالوجهين.
وفي هذه الآية نوعٌ من علم البيان يسمَّى الاستطراد، وهو أن تمدحَ شيئاً أوتذُمَّه، ثم تأتي آخر الكلام بشيءٍ هو غرضكَ في أوَّلهِ، قالوا: ولم يَأتِ في القرآن غيره، وأنشدوا في ذلك قول حسان: [الكامل]

3013- إنْ كُنْتِ كاذِبَةَ الذي حَدَّثْتِنِي فَنَجَوْتِ مَنْجَى الحَارِثِ بن هشام
تَرَك الأحِبَّةَ أن يَقاتِلَ دونَهُمْ ونَجَا بِرَأسِ طِمِرَّة ولِجَامِ